أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 18 مايو 2023

تركي أكثر من الأتراك !

  

    
مسلمون كُثُر، عرب وغير عرب، تفاعلوا مع انتخابات تركيا بداية هذا الأسبوع، حتى أطلق المناهضون للرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، على أولئك المتفاعلين بأنهم أتراك أكثر من الترك أنفسهم، وعابوا عليهم ذلك التفاعل والسهر حتى الصباح بانتظار ما ستسفر عنها النتائج، وغير ذلك من مظاهر الاهتمام والمتابعة.. لن نهتم بما قاله المناهضون للطيب أردوغان، بل نتساءل: لماذا تأترك مسلمون كُثُر تلكم الليلة، وهل هناك ما يمنع ذلك؟

   في ظل ظروف الأمة المسلمة خلال مئة عام مضت، يعيش المسلمون بلا قيادة ولو رمزية، على غير ما اعتادت الأمة المسلمة عليه منذ عهد أكرم الخلق محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والسلام. الأمة كانت تعتبر الخلافة المحور الذي تدور حوله الشعوب المسلمة، سواء كانت في عز قوتها أو أدنى درجات انتكاستها، وأنه لولا قوة وتأثير تلك الرمزية، ما تكاتف وتكالب الغرب في فترة ضعف شديدة للأمة، وتآمر ذلك الغرب بمعنى الكلمة، لإلغاء حتى هذا الرمز من الوجدان الإسلامي، فكانت خطوة الشؤم تلك عبر الأتراك، بغض النظر عن عقائد أولئك الأتراك وأصولهم يوم قيامهم بالتوقيع على إلغاء الخلافة، ضمن شروط الاستسلام للمنتصرين بعد الحرب العالمية الأولى، وبقية القصة المعروفة.

    بعد أن ألغيت الخلافة العثمانية، آخر خلافة معترف بها في العالم في مارس 1924 بمرسوم من الجمعية الوطنية في تركيا، والذي تم اعتباره خطوة ضمن إصلاحات مصطفى كمال وإزاحة السلطنة العثمانية واستبدالها بجمهورية تركيا، عاش المسلمون بعد تلك الخطوة المشؤومة، ضمن حدود رسمها الاستعمار الغربي بأشكاله المتنوعة، ليتفرق هذا الجمعُ، شذر مذر إلى يوم الناس هذا. 

الغرب قبل الشرق    

   تلك المقدمة شبه الطويلة، إنما للتأمل فيما حدث ليلة الأحد الفائت، وتفسير اهتمام العالم الغربي قبل الإسلامي بالانتخابات التركية، التي أجمع الإعلام الغربي على أنها أكثر انتخابات مهمة ومؤثرة لتركيا وكثير من الدول والتجمعات العالمية خلال المئة عام الفائتة.

   هذا الإجماع لم يكن ليحصل بطبيعة الحال، لولا بروز تركيا كدولة ذات تأثير في محيط جيوسياسي بدأ يكتسب أهمية بالغة، بل يزداد أهمية مع الوقت بزيادة نهوض وتنامي تأثير وقوة الدولة التركية، التي اكتسبتها خلال آخر عقدين من الزمن، وأن الشخص المركزي أو المؤثر في هذا النهوض، مع رجال وفرق عمل مخلصة حوله، هو الرئيس أردوغان الذي يعيش في دائرة الحكم منذ 2002 وقبل ذلك بسنوات أخرى طويلة في عالم السياسة والقرب من دوائر الحكم واتخاذ القرار.

 

أردوغان شمعة أمل   

   إنّ تفاعل ملايين المسلمين، عربهم وعجمهم، مع الانتخابات التركية، ودعواتهم بنصر مؤزر للسيد أردوغان، إنما بناء على ما ذكرناه آنفاً، وشعور داخلي يتعاظم بالنفوس المسلمة، يفيد بأهمية وضرورة الالتفاف على كل أمل صادق يمكن أن يبعث وينهض بالأمة من جديد، وأن هذا الأمل بدأ يتحقق شيئاً فشيئاً في هذا الشخص مع حزبه، الذي يحمل اسم العدالة والتنمية، يرجون الله أن يستمر لأعوام خمسة أخرى مثمرة قادمة، حيث الأمة بأمس الحاجة لصوت يدافع ويدفع عنها بأي صورة ممكنة، بعد أن تكالب كثيرون عليها، سواء من عملاء الداخل عبر عناصر مبرمجة ومسيّرة لتحقيق أجندات الخارج، أو من الخارج عبر حكومات ومؤسسات غربية - في المقام الأول - تحاول جهدها وبكل وسائلها وإمكاناتها، خنق أي محاولة نهوض في أي بقعة مسلمة، والقيام بتشويه صورة من يتزعم قيادة أي محاولة نهضوية.


    على مستوى الأفراد، كان بالأمس مرسي رحمه الله في مصر، والآن محاولات لتكرار ما جرى في مصر مع عمران خان في باكستان، وبالطبع أقوى المحاولات ما زالت تجري على قدم وساق في تركيا مع هذا الرجل الطيب، رجب أردوغان؛ أضف إلى ذلك، تشويه وقمع كل محاولات النهوض بالأمة عبر مؤسسات وكيانات سياسية أو اجتماعية أو جماعات إصلاحية، ووصمها جميعاً بالإرهاب وغيرها من دعايات الأمريكان والغرب معاً، حتى كاد المرء يشعر بيأس مسيطر على ملايين المسلمين حول العالم، مع بقاء بعض الأمل في شمعة هناك وقد تم إشعالها في تركيا، وهي ربما سر أتركة المسلمين أثناء انتخابات الأحد الفائت، بل ربما كانوا أتراكاً أكثر من نصف الأتراك الذين وقفوا ضد الرئيس، لحسابات عنصرية وقومية مدعومة بدعايات وأموال الغرب وبعض الشرق.

 

   الأفعال قبل الأقوال


  إنّ وقوف الغرب بشكل سافر دون أدنى خجل ضد أردوغان الشخص والفكرة، بعيداً عن مهنيات وأخلاقيات العمل السياسي والإعلامي، هو ما دفع ملايين المسلمين للأتركة وبنوع ربما بدا فيه تعصبٌ كذلك، ليس للطيب أردوغان بقدر ما هو ردة فعل مطلوبة يجدها المسلم في نفسه ضد عداء غربي سافر لكل ما هو إسلامي، أو قريب من روح الإسلام، وهو ما بدا واضحاً في هذه الانتخابات، قبلها وأثناءها، بل ربما يستمر لما بعد ذلك في حال بقاء الطيب رئيساً لأعوام خمسة قادمة بإذن الله، ولكن دون شك بوتيرة أهدأ وأخفى.


 لهذا لا أجد غضاضة في أن يكون المسلم تركياً ولو لليلة واحدة، هي ليلة الثامن والعشرين من الشهر الجاري، دعماً للطيب، وإظهاراً لروح الأخوة الإسلامية والتعاون الحقيقي، المطلوب إظهارها أمام من لا يريدون بهذا الدين ولا أهله، إلا مزيد شر ومزيد خنوع وذل وخضوع.

   لا يفوتني قبل أن أختم هذا الحديث، توجيه دعوة لكل تركي سني، ألا يساهم في هدم ما بناه إخوة له، لاسيما الشباب منهم، الذين لم يعاصروا زمن بناة ما هم الآن عليه من إنجازات يشهد لها العالم، متأثرين بدعايات كاذبة للغرب لن تزيدهم غير تخسير، وبالتالي أهمية توسيع آفاقهم، وألا تكون هموم المعيشة اليومية حائلاً يمنعهم من رؤية مستقبل باهر ينتظرهم. مستقبل لا يريد كثيرون من خارج تركيا أن يتحقق لهم ولا لدولتهم. إنه المستقبل الذي يراه مسلمو العالم كما المتربصون بتركيا، بشكل واضح لا غبار عليه. أما المسلمون فيدعمونه، وأما المتربصون فيعاكسونه.  

    هل يتنبه بعض ال 45% من الذين وقفوا ضد الطيب قبل أيام، ويقطعون السبيل أمام رغبة أقلية علوية عنصرية، في حكم أغلبية سنية في بلد مثل تركيا، ذات التاريخ والإرث الإسلامي السني العظيم الذي لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات؟ أرجو ذلك، وأسأل الله لتركيا كل تقدم وفلاح، وللطيب رجب، كل سداد ونجاح.

والله كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.     


ليست هناك تعليقات: