لأنهم في طاعة الله جُل وقتهم، لا ينشغلون بتوافه وسفاسف الأمورحولهم ، وما أكثرها..
إنهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، تجدهم لا يتلفتون إلى حماقة حمقى وسفاهة سفهاء، كما يقول صاحب الظلال في تفسيره، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين، كما يصفهم القرآن ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ).
لا يقولون
ذلك عن ضعف، ولكن عن ترفّع؛ ولا عن عجز، إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد
أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة، بما هو أهم وأكرم وأرفع.
كثيرون منا في زحمة هذه الحياة، وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تراهم يتأثرون لكلام هذا وذاك من الناس، فينشغل أحدهم بها أيما انشغال، ويتألم منها كثيراً وطويلاً، وتراه مشغول البال في كيفية رد الصاع صاعين !
لكن من وفقه الله لأن يكون من عباد الرحمن، أو
قريباً منهم، تجده وقد اعتبر حياته أغلى وأرقى من أن تنزل إلى تلكم المستويات
الدنيا من التفاعل مع الآخرين، لأنه اختار منهج التغافل أو التجاهل في حال الإساءة
إليه بقول أو فعل، ليقينه التام أن التغافل فعلٌ إرادي ناتج عن إحاطة وإلمام
وإدراك بما يدور في البيئة المحيطة.
وهذا يعني أن التغافل أقرب إلى أن يكون حكمة
من الإنسان حين يختاره وسيلة للتعامل مع المسيئين في موقف ما، كقوله تعالى في آية
أخرى ( وإذا سمعـوا اللغـو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ).
الفرق بين العـبيد والعـباد
إذن عباد الرحمن كما
جاء وصفهم في سورة الفرقان، ولأنهم عرفوا الله حق معرفته، فعبدوه حق عبادته، كانت نتيجة تلك المعرفة وذلكم
العمل، استحقاقهم درجة الانتساب إلى الله عز وجل، فهم عباد له وليسوا عبيدا،
والفرق بين الكلمتين كبير. إنّ كلمة عباد تُضاف إلى لفظ الجلالة، كما يقول الشيخ
الشعراوي رحمه الله، فالذين يعبدون الله يُضافون للفظ الجلالة، فيزدادون تشريفاً،
فيُقال : عباد الله أو عباد الرحمن. أما كلمة عبيد فهي تُطلق على عبيد الناس وعبيد
الله معاً، وعادة تُضاف إلى الناس. والعبيد تشمل الكل، محسنهم ومسيئهم، كما ورد في
سورة ق ( ما يُبدلُ القَولُ لدي وما أَنا بظلَّام للعـبيد ).
إنّ كل بني البشرعبيدٌ لله في هذه الأرض. المسلم والنصراني واليهودي والمجوسي وكذلك الملحد الذي لا يؤمن أساساً بوجود الخالق ! العبيد يعاملهم الله في أمور أساسية حيوية وبشكل متساو لا يُظلم في كونه وملكه أحد، وتعالى الله وتنزه عن الظلم..
تجده سبحانه يرزق البر والفاجر، والمؤمن والملحد. لا يقطع ماء ولا هواء عن الذين يجحدونه ويكفرونه ويشركون به، ولا غير ذلك من نعمه التي لا تُحصى. الكل سواء هاهنا، لكن في الحياة الأخرى القادمة ولو بعد حين، الأمور لن تكون كذلك، وبالطبع ستتغير..
لكن ليس الكل يرضى أن يكون في درجة العبيد، بل
تجد آخرين يبذلون الجهد للخروج من نطاق العبيد، والدخول إلى نطاق أو منزلة العباد،
وليس أي عباد، بل عباد للرحمن. وحين يسمي الله تعالى الذين يتقربون إليه ويعبدونه
حق عبادته بأنهم عباد للرحمن، فإنّ هذه التسمية أو هذا الوصف يمكن اعتباره جائزة
دنيوية قبل تلكم الأخروية المنتظرة بإذنه تعالى، بل ربما هذه التسمية بشرى لعاقبة
طيبة وجزاء عظيم في الآخرة.
الأمن والاستقرار الداخلي
ما يهمنا هاهنا هو كيف وصل عباد
الرحمن الى ما هم عليه، كي يمدحهم ويذكرهم الخالق في قرآن يُتلى الى يوم الدين؟ لاشك إن السر يكمن في ذلكم الأمن أو الاستقرار
الداخلي، الذي يأتي كنتاج طبيعي ليقين وإيمان بالله عميق، والذي به يغنى المرء،
وبه تعتدل صحته، وبه أيضاً يحقق نجاحات مستمرة على شكل ترقيات ودرجات ومكافآت،
وغيرها من صور النجاحات المادية والمعنوية في الدنيا قبل الآخرة..
الأمن الداخلي الناتج عن عميق
الصلة والإيمان بالله، بسببه نعيش في سلام، وإن كان ما حولنا في قلق وفوضى أو رعب
وبلوى، وبالتالي نبدع وننتج بشكل ايجابي. إنّ الذي نسميه بالسلام أو الأمن الداخلي،
هو الذي يدعـو عباد الرحمن الى عدم الخوض في جدال عقيم ومراء لا يفيد.. فقد أدرك هؤلاء أن هذه الحياة ليست حالة ثابتة
تجعلهم مستنفرين طوال حياتهم لأي أمر، أو يتقاتلون ويتنافسون على مباهجها وجميل ما
فيها، أو يتعاركون بسبب تفاهات وهوامش تسنزف طاقاتهم في الأقل أهمية عن المهم، أو
المهم عن الأكثر أهمية.
عباد الرحمن تراهم مدركين أن كل
ما في هذه الحياة العاجلة من أحداث ووقائع لن تستمر، بل زائلة دون أدنى ريب،
وبالتالي أي قلق أو توترات بشأنها ستزول أيضاً. ومن هذا الفهم العميق للحياة
ومفرداتها وأدبياتها، يعيش عباد الرحمن في سلام عميق، منتظرين السلام الدائم من
السلام سبحانه، وقد ظفروا بجائزتهم المنتظرة، جنة عرضها السموات والأرض، وما
أغلاها من جائزة ( يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون
عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ).
فاللهم اجعلنا وإياكم منهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق