حين نتحدث عن الظلم وأسماء الظالمين قديماً وحديثاً، فإنك تسمع عن فرعون، جنكيز خان، هتلر، موسوليني، ستالين، أو حتى أسماء من تاريخنا القديم والحديث، رغم أن ديننا من أشد الأديان توجيهاً وتحذيراً من الظلم، ومع ذلك اشتهر في تاريخنا شخص مثل الحجاج بن يوسف الثقفي بالظلم وليس أي ظلم، بل كان مثالاً للطغيان والاستبداد، على رغم أنه كان في الوقت ذاته سبباً في نشر الإسلام عبر فتوحات بني أمية، وصلت للهند والصين !
رغم بعض مآثر الحجاج، إلا أنه في حكمه وإدارته، كان ظالماً جباراً ومستبداً، لم يتورع عن ظلم الناس، بل وأن يتجرأ بالتعرض للصالحين من العلماء والأئمة والتابعين أمثال عبدالله بن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهما، إلى أن أصابه مرض ضيّقت عليه الأرض بما رحبت، وصار حينها يتمنى الموت على أن يعيش آلامه البدنية قبل النفسية، حتى شكا حاله ومعاناته للحسن البصري.
فقال له الحسن: قد كنتُ نهيتُك ألا تتعرّض إلى الصالحين فلججت. فقال له:
يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرّج عنّي، لكن تسأله أن يُعجّل قبض روحي ولا
يطيل عذابي ! وقد كان الحسن البصري يدعو عليه بالموت كي تموت سنَّته. فلما مات الحجاج،
فرح وسجد شكراً لله، باعتبار أن الظالم حين يموت فهو مُستراح منه، كما في البخاري،
أنه مرّت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة فقال: مُستريحٌ ومُستراح
منه. قالوا يا رسول الله: مَن المستريح ومَن المُستراحُ منه؟ قال: المستريح هو
العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والمُستراح منه العبد الفاجر، يستريح
منه العباد والدواب والشجر.
الظالم القبيح
فرعون
موسى من أقبح النماذج الظالمة في تاريخ البشرية. فهو إلى جانب الظلم، كان جباراً
عنيداً فاسداً. فقد ظلم نفسه قبل غيره حين ادعى الربوبية، إذ لم يقم أحد من قبله
بهذا الفعل الظالم غير الواعي. ثم استمر في ارتكاب المظالم واحداً بعد آخر. من ذلك،
تعذيب الناس في مملكته، لا سيما بني إسرائيل، الذي قام بتسخير رجالهم للعمل في
أدنى وأحقر الأعمال، وإرهاقهم وتعذيبهم وامتهان كرامتهم.
من ذلك أيضاً، أمره بقتل أطفال بني إسرائيل الذكور، ليسحق بذلك سعادة الأهالي بأي وليد ذكر. ومن أفعاله الظالمة، استحياء الإسرائيليات عبر تسخيرهن لخدمته في قصوره وقصور آله ومن يدور في فلكه. ثم يزداد في الظلم بتفريق بني إسرائيل إلى جماعات وشيع وفرق، وبذر الشقاق والخلاف والعداوات بينهم، تجسيداً لمبدأ فرّق تسد.
طالت وتمددت قائمة الظلم عند فرعون، لتشمل
تهديد أي أحد يستمع لموسى وأخيه هارون، ومنع مجرد التفكير في عقيدة أو دين غير
الذي يراه هو فقط. فازدحمت تبعاً لذلك سجونه بآلاف المعتقلين الأبرياء، من
المعارضين لفكره وغطرسته وظلمه، خاصة بعد انتشار دعوة موسى – عليه السلام – شيئاً
فشيئا، حتى قام يهدد موسى نفسه ( قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين
). هكذا فرعون، لا يريد أن يخرج أحد عن رأيه ورؤيته.
واستمر
يعيث في الأرض فساداً وظلماً كبيراً لم يسلم منه حتى أهله وأقاربه. هذه زوجته
المؤمنة آسية بنت مزاحم تتألم من ظلم فرعون حتى ( قالت رب ابن لي عندك بيتا في
الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) ومثلها مؤمن آل فرعون وكان
يكتم إيمانه خشية ظلم فرعون، وأمثالهما ربما كثير كثير..
لم يسلم منه كذلك كبار السحرة الذين كانوا من
كبار موظفي القصر ومن المقربين، الذين أباح لهم فعل ما يشاؤون من السحر في سبيل
تسخير الناس له. لكن حين انقلب السحر على الساحر، ورأى انقلاب السحرة على فكره
ورؤيته، لم يتردد في تغيير معايير دعاياته الإعلامية، فقد خشي تأثر الناس بالسحرة
وهم يشهدون لموسى بالرسالة، وبالله رباً لا شريك له، فقام بتغيير الدساتير
والقوانين والمعايير بجرة قلم، فعاقبهم أشد أنواع العقوبة.
تغيير بيئة الظلم
نخلص مما سبق أن مهمة النبي الكريم موسى - عليه السلام - كما أسلفنا في المقالين السابقين عن أنبياء الله الكرام شعيب ولوط - عليهما السلام - بأنه ما أتى رسول من الرسل إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. فقد كانت مهمة أي رسول تدور حول معالجة مرض ما بالمجتمع وإزالة مسبباته، اتقاءً لعواقبه غير الحميدة وغير المرغوبة، لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم.
كانت مهمة موسى - عليه السلام - إلى فرعون
وقومه، معالجة اضطراب فكري وخلل عقائدي غير مسبوق ساد في المجتمع الفرعوني، حيث تأثر
كثيرون به، رغبة أم رهبة، من بعد أن سلّط وسائله الإعلامية والسياسية وغيرها في تغيير
قناعات وثقافة المجتمع، وتوجيههم نحو فكر معين أو عقيدة بذاتها تدور أساساً حول
مسألة الربوبية، بعد أن هاله مشهد النيل بتفرعاته واعتقاده أن قدرته على منح أو
منع أي جهة من جهات البلاد الأربع من مياه النيل، دليل على قدرته وبالتالي ابتع
الشيطان الذي زين له فكرة الإعلان عن ربوبيته، في سابقة غير معهودة في تاريخ
البشر.
ذلكم
الفكر الفرعوني الذي ساد المجتمع يومها، كان يحتاج إلى إصلاحيين أقوياء صالحين من
أجل تغييره. يملكون البيان والحجة والجرأة في تغيير القناعات والثقافات السائدة
حينذاك. فكانت مهمة موسى وهارون - عليهما السلام – البدء بالطبقة الشعبية الكبيرة،
وصولاً إلى رأس الهرم أو قمة ذلك الفكر الفاسد، فرعون وهامان وقارون وبقية الملأ
من حولهم.
الظلم
أسرع المعاصي عقاباً
السبب الرئيسي لفساد وظلم فرعون، ليس لأنه كان على رأس الهرم الرئاسي، بل لأن البيئة يومئذ فاسدة وظالمة من قبل أن يأتي فرعون، فالنتيجة الطبيعية لانتشار ذلك الظلم بين الناس بعضهم بعضا، هي وصول ظالم وفاسد إلى سدة الحكم، يقود الناس بنفس الكيفية التي يتعاملون بين بعضهم البعض، وليس من تفسير لذلك سوى أنها عقوبة ابتدائية إلهية متدرجة وتحذيرية أيضاً، قبل أن يرسل إليهم رسولاً يخرجهم مما هم فيه، وبناء مجتمع جديد يوحّد الله ولا يشرك به أحداً.
كانت
قصة موسى مع فرعون - عليهما السلام - مثالاً لكيفية التعامل مع الظلم والظالمين، في
مشاهد عديدة متنوعة حتى هلاكه، ومشاهد أخرى عديدة مصاحبة مع بني إسرائيل، ومعاناة
موسى وهارون معهم في تغيير قناعات وفكر كثيرين، استمرت أربعين عاماً. وقد أشار
القرآن لتلك المشاهد موجزاً حيناً، ومفصلاً في أحيان أخرى كثيرة، وكانت النتيجة
النهائية التي يمكن تلخيصها من كل تلك المشاهد، أن من يظلم لا بد أن يُظلم، والظالم
إن لم يجد من يقلّم أظافره استبد وتوحّش، وأن من أعان ظالماً، سُلّط عليه.
خلاصة
القول أو العبرة والعظة من هذه القصص القرآنية حول الظلم والظالمين، أن الله يُمهل
ولا يُهمل، فإذا أخذ الله الظالم لم يفلته، كما في الحديث الصحيح ( إن الله
ليُمْلي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِتْهُ ) أي لن يتركه الله حتى يستوفي
عقابه..
أعاذنا
الله وإياكم أن نضل أو نُضل، أو نظلم أو نُظلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق