إن أي مستبد وطاغية أو مسؤول ظالم تراه
لا يعدل بين من يعملون تحت إمرته، لو أنه كان قد رعى في صغره وشبابه الغنم، فأحسب
أنه لم يكن ليظلم ويستبد ويقهر الآخرين، ويتباهى في استعراض قوة ساعده وعضلاته..
لماذا؟ هذا هو حديثنا اليوم. ولكن قد تتساءل قبل ذلك، لماذا رعي الغنم، وليست مهنة
أو وظيفة أخرى؟
رعي الأغنام، الذي قد ننظر إليه اليوم في
عالم الرقمية والمعلوماتية على أنه من الأعمال البائسة الحقيرة، والذي لا يحتاج
إلى كثير إبداع أو مهارة وذكاء عكس مهن أخرى كثيرة لها وجاهتها وسمعتها الطيبة..
سنجده بشيء من التأمل، أشبه بدورة تدريبية في فنون القيادة، وليست أي قيادة!! فهل هذه
دعوة لممارسة رعي الأغنام؟
قد أجد الجرأة لأقول
نعم، بل وسأكون على رأس قائمة الراغبين في ذلك إن أتيحت فرصة وتهيأت الظروف لها..
لكن الأمر ليس بالسهولة التي نكتب ونسطر بها كلماتنا، فالظروف تغيرت وطبيعة عاداتنا
وثقافتنا وأسلوب حياتنا والنظرة المجتمعية كذلك، كلها ستجعل من ممارسة هذه الوظيفة
غاية في الصعوبة، وإن كان هذا ليس موضوعنا.. ولكن قد يتساءل أحدنا ويقول: ما
الداعي لممارسة مثل هذه المهن الآن في وجود أخريات راقيات، يمكن أن يتعلم من
خلالها على فنون القيادة؟
الشاهد من الموضوع
أنه حين يأتي الحديث في موضوع رعي الأغنام تحديداً دون بقية الحيوانات – أعزكم
الله – فإنه على الفور تتشكل صورة ذهنية عند المرء، حيث الفقراء والبسطاء البؤساء
من الناس، وعناصر أخرى في الصورة رائعة تكون حاضرة على الفور عند من قرأ سيرة
الأنبياء الكرام عليهم السلام.
لكن ما السر في هذا الارتباط بين
الأنبياء ورعي الغنم؟
من يتأمل ويقرأ قصص الأنبياء الكرام ، عليهم السلام ، سيجد أنهم
جميعاً في مرحلة ما من مراحل حياتهم رعوا الغنم . وقد تحدث كثيرون عن السر في ذلك ولماذا
رعي الغنم وليس الإبل مثلاً أو البقر؟ وهل لذلك من علاقة بمسألة القيادة والتوجيه
والارشاد ؟
قال البخاري في صحيحه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما بعث
الله نبياً إلا رعى الغنم. فقال أصحابه وأنت؟ فقال : نعم، كنت أرعاها على قراريط
لأهل مكة ".. وقد ذكر ابن حجر في شرح صحيح
البخاري عن بعض العلماء أن " الحكمة في إلهام الأنبياء رعي
الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم،
ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة..
يضيف ابن حجر:" .. لأنهم
إذا صبروا على رعيها - ويقصد الغنم - وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح
إلى مسرح أحسن، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق.. وعلموا اختلاف طباعها وشدة
تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة.. ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا
اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد
لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة ، لما
يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ،
ولأن تفرقها أكثر من غيرها من الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها
في العادة المألوفة.. ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياداً من غيرها ". أهـ
حديثنا ليس دعوة لرعي
الأغنام ، بقدر ما هو دعوة للتأمل في سير الأنبياء الكرام، قادة البشرية، كي يتعلم
القادة والمسؤولون، أيّاً كانت درجاتهم، كيفية قيادة الناس وسياستهم بالصورة
المثلى، عبر استيعاب مفهوم " اختلاف الناس" وتنوع أمزجتهم
وطبائعهم، قبل قيادتهم أو إدارتهم وتوجيههم.. فهكذا هي الحياة ، تُعلمنا دروسها
عملياً من حيث ندري أو لا ندري ، أو من حيث رغبنا في أساليب وطرق تدريسها أم
كرهناها ، إلا أنها دون شك ، طرق ناجعة ناجحة .. فتأمّلوا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق