في زمن ما في الملأ الأعلى وكما جاء في القرآن الكريم ، دار حوار بين
الله تعالى وإبليس، الذي كان ضمن عالم الملائكة، رغم أنه مخلوق ناري من عالم الجن،
حيث كان الأمر الإلهي واضحاً لمن كان موجوداً في ذاك الوقت من الزمن، بأن يسجد
الجميع لمخلوق جديد لكنه من طين واسمه آدم.. التزم
الجميع الأمر وسجدوا حين جاء الأمر إلا إبليس أبى واستكبر، فاستحق أن يكون من
الفاسقين، كما وصفه القرآن.. اعترض إبليس على الأمر ولم يطع جبار السماوات والأرض،
فليس هو بالذي يخالفه ويعصيه مخلوق من مخلوقاته .. ونتيجة ذلك ، تم إخراج إبليس من
الجنة والملأ الأعلى ، بل كذلك من رحمته، فكان بذلك أول مخلوق يخسر ويتذوق مرارة
الخسارة في هذا الكون..
لقد خسر إبليس مستقبله تماماً ، كما في المصطلحات الحديثة لأهل الأرض..
تصور ما يكون شعور مخلوق يعرف مقدماً مستقبله غير الآمن ؟ لا بد أنه شعور غير مريح
البتة، يؤدي غالباً إلى تجاوزات وتهورات تصاحب سلوكيات صاحبه تزيده حسرة وألماً إلى
ما هو عليه من آلام وآلام.. هذا ما صار وحدث مع إبليس، الذي حدثته نفسه بعد هذه
النتيجة المأساوية ، وصار لسان حاله ينطق : طالما أني عرفت مستقبلي من الآن وخسرت دنياي
وآخرتي، فلا بد ألا أكون وحدي مع هذا المصير، الذي لا يحسدني أحد عليه بكل تأكيد..
هكذا كان لسان حال إبليس بعد أن علم بقرار الطرد من الرحمة الإلهية.. ( قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ
لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ». وهكذا استكبر وتمرد
وتجبر وأقسم أن يعادي بني آدم، وهو بعد لم يشهد أي ضرر من آدم وذريته، فهو في ظنه
أن تحديد مستقبله غير السار إنما السبب الأوحد فيه هو آدم عليه السلام ، فبسببه
طُرد من الملأ الأعلى ومن رحمة الله..
من تلكم اللحظة التي خرج إبليس من الجنة مطروداً ، بدأت معركة الخير والشر
وفصول متنوعة من الغواية والوسوسة بين عالم خفي يقوده إبليس، وعالم ظاهري يمثل
ذرية آدم عليه السلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نعود للعنوان أعلاه الذي جاء على شكل استفهام، للوقوف على المغزى من
ورائه.. نعم، ماذا لو كان إبليس قد أطاع الأمر الإلهي كما فعلت الملائكة الكرام،
وسجد لآدم ولم يتمرد ؟ هل كان ليطرده الرحمن من الملأ الأعلى ويطرده أيضاً من
رحمته ؟ هل كان يمكن أن يكون إبليس رمزاً للخير كما الملائكة، يدفع نحو الخير ويقف
ضد الشر؟ ولو افترضنا أنه سيرسله الله إلى الأرض مع آدم، هذا مع ذريته في عالم
ظاهر بيّن، وذاك مع ذريته في عالم خفي مستتر، فإن المحتمل أن ذرية إبليس كانت
لتقتدي به في الخير والصلاح ، وستنشغل في عالمها بعيداً عن الغواية والوسوسة المحرضة على الشر بأنواعه مع
ذرية آدم ..
تلك التساؤلات نطرحها من باب إثراء موضوع الخير والشر والصراع الأزلي
بينهما، والوصول إلى العلاقات الكائنة اليوم بين البشر أنفسهم وبينهم وبين مخلوقات
أخرى في عالم خفي هم الجن والشياطين أو ذرية إبليس.. فلو أن أقوى الاحتمالات في
الموضوع قد وقع وهو قيام إبليس بالسجود لآدم عليه السلام ، فهل كانت علاقات البشر
مع الجن طبيعية ودية مثلاً، كما هي علاقات البشر مع غيرهم من المخلوقات والجمادات؟
السؤال الأكبر والمهم أيضاً في هذا السياق : هل الشر أساساً يحتاج إلى وجود
شيطان؟ هل لهذا الصراع الذي نشأ بعد رفض إبليس فكرة السجود، دوره في اتخاذ
الكثيرين من بني البشر مبرراً لأفعال غير سوية، لاعتقاد أو ظن أو وهم ، بأن ما حدث
لم يكن ليحدث لولا غواية الشيطان أو أشياء من هذا القبيل من التفكير والظنون؟
التساؤلات والاستفهامات كثيرة في هذا
الموضوع ، وقد تؤدي إلى موضوعات كثيرة أيضاً ، من شأنها أن تثري النقاشات وربما
نخرج منها بحصيلة طيبة من المفاهيم والحقائق، التي قد تساعدنا نحن بني البشر في
انتهاج خطٍ أو أسلوب حياة ، يساعدنا على أن نسير في حياةٍ نفهم طبيعتها أكثر ونستوعب
علاقات مفرداتها ببعض البعض أكثر فأكثر.. وهذه خلاصة الحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق