لستُ بالخب، ولا الخبُ يخدعني. مقولة منسوبة للفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هي في ذاتها حكمة إدارية تقتضي من الباحث عن الحكمة، الأخذ بها وتأملها، خاصة في عالم مليء ببشر ذوي أمزجة، وأهواء، وأفكار، وعقليات. عالم فيه الصادق والكاذب، والأمين والمخادع، والحكيم واللئيم، إلى آخر قائمة البشر ذوي الطباع والأمزجة المتنوعة.
الخبُّ في اللغة هو المراوغ أو الماكر المخادع. وفي ديننا، المؤمن ليس بالذي يخدع الآخرين، ما لم يكن في حرب مع عدو. لكن في الوقت ذاته، لا يجب أن يكون شخصاً سهلاً أو ساذجاً يخدعه المخادعون الماكرون. ومقولة الفاروق - رضي الله عنه – تبين أنه لم يكن بالذي يخدع، لكنه في الوقت نفسه لم يكن بالذي يمكن خداعه، كما قال عنه ابن قيم الجوزية:" كان عمر أعقل من أن يُخدَع، وأورع من أن يَخْدَع ".
الأصل في علاقاتنا الإنسانية أن تكون الثقة حاضرة في تعاملاتنا البينية. وأي علاقة تقوم على الثقة، فالنجاح والتوفيق تكون محصلتها بإذن الله. لكن علاقة تقوم على الغش والخداع وفقدان الثقة، فلا أجد حاجة لشرح نتائجها ومآلاتها.
الإنسان منا يبني في مشروع الثقة بشخص ما أو بآخرين حوله سنوات عديدات، لكن قد يتهدم بنيان الثقة هذا في ثوان معدودات وبشكل درامي محزن، إما لخلاف بسبب سوء فهم يؤدي لسوء تفاهم، أو حدوث ما هو غير متوقع من الشخص الذي وثقت به سنوات طوال.
انظر إلى صعوبة الأمر. الثقة التي تحتاج منك إلى سنوات عديدة لتبنيها وتعززها، يمكن أن تتهدم في ثوان قليلة، ولا أقول أياماً معدودة.. هذا الأمر يدعونا دوماً الحرص على عدم فقد ثقة الآخرين فينا بأي طريقة ووسيلة ممكنة، على اعتبار أن الثقة عملية بناء تراكمي، فإن تهدمت فلا يصلح معها إعادة بناء، لأنه وإن تمت الإعادة على سبيل الافتراض، إلا أن شرخاً دائماً سيكون في ذاك البناء ولو لم يظهر للعيان، باعتبار أن شروخات القلوب عظيمة.
أقلني يا رسول الله
عودة لموضوع الخداع ومقولة سيدنا عمر الفاروق - رضي الله عنه – يتضح جلياً أهمية أن يكون المؤمن كيّساً فطناً، يدرك ما يدور حوله من أحداث ووقائع، لا يستخف بها من جهة، ولا يدع من يدير تلك الأحداث والوقائع أن يستخف به من جهة أخرى.
الشاعر أبوعزة الجمحي، كان من بين أسرى قريش يوم بدر، فتوسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعطفه لفقره وعياله، فأفرج عنه النبي الكريم دون فدية، على أن يتعهد ألا يرجع لقتال المسلمين كرّة أخرى. لكن ذاك المشرك المتذاكي على النبي الكريم، ما اتعظ ولا اعتبر ولا التزم بوعده وعهده، بل دخل في حرب جديدة ضد المسلمين يوم أحد، ظناً منه أن خدع المسلمين يوم أن أظهر الخضوع وطلب الشفقة.
فما كان من حظه السيء إلا أن وقع أسيراً مرة أخرى في يد المسلمين، فجاءوا به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – وأراد أن يعيد مشهد الخداع مرة ثانية، فقال: يا رسول الله أقلني – أي سامحني وأعف عني - فرد عليه صلى الله عليه وسلم قائلاً:" لا والله، لا تمسح عارضيك بمكة - يقصد لحيته على جانبي الوجه - وتقول: خدعتُ محمداً مرتين.. اضرب عنقه يا زبير"، فلقي جزاءه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومها:" لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ". فصار الحديث مثلاً.
العطف والرأفة واللطف والعفو، أخلاق فرسان راقية وعظيمة، كلنا يحتاجها ويسعى إلى التخلق بها في تعامله مع الآخرين. لكن هذا لا يعني أن تكون لطيفاً أو طيباً بشكل مطلق إلى حد السذاجة، فإن لكل شيء حد لا يجب تجاوزه. قد تجد من الناس حولك من يعتقد أو يظن طيبة الآخرين معه في التعامل بالأخلاق العالية الراقية، غباءً أو سذاجة، فيدفع به إلى التمادي وربما التفحش في التعامل، حتى تراه يكرر الخطأ مرة وأخرى عن عمد، باعتبار أن من يتعامل معه، شخص طيب ودود أو ساذج - إن صح التعبير- وتلكم النظرة، لا شك أنها استغلالية، وقمة في الدناءة.
درس في الكياسة والفطنة
من هنا، نجد قدوتنا - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا درساً بليغاً في هذا المجال، كيلا يتم استغلال طيبة وأخلاقيات المسلم الراقية الرفيعة من قبل انتهازيين واستغلاليين. فالمؤمن كيّس فطن، أي حذر في تعاملاته مع الغير. ذاك الشاعر كان من عناصر الفتنة وتهييج الناس على الإسلام والمسلمين قبل بدر، وحين وقع أسيراً في المعركة، طلب العفو واستغل فقره وكثرة عياله في الحصول على العفو النبوي، فتعامل معه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بأخلاقه العالية وعفا عنه.
لكنه حين استمر وأخلف وعده ورجع لما كان عليه من العداوة للمسلمين، لم يكن ليستحق التعامل معه بنفس الأخلاق السابقة، حين وقع أسيراً للمرة الثانية في معركة أحد، فكان جزاءه بالشكل الذي يستحق، لأنه كان سيعود لما اعتاد عليه، لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق سراحه ثانية، باعتبار أن بعض النفوس البشرية لئيمة دنيئة، لا تستحق إلا نوعية معينة من التعامل في فترة من الفترات، كنموذج الشاعر أو الإعلامي بلغتنا المعاصرة، وما أكثر هذه النوعية في زماننا هذا، وما أكثر ما نُلدغ من نفس الجحر، ليس مرتين بل مرات ومرات.
السماحة مطلوبة في التعامل، مع حُسن الظن بالآخر،
خاصة إن كان ظاهره العدالة ولا يوجد ما يشير إلى فساد أخلاق، لكن الحذر يكون
واجباً حين يكون ظاهره فسق وفجور ويشير إلى فساد أخلاق، ويكون أوجب حين يقع الخطأ
أو الخداع أو الغش من ذاك الشخص أو تلك المؤسسة أو الشركة، وغيرها من كيانات. وعالم
اليوم مليء بأنواع وأشكال وفنون الخداع، على المستوى السياسي والإعلامي والثقافي
والتجاري وحتى الديني، وغيرها كثير، الأمر الذي يستوجب السير بحذر وتأن وتريث، وسط
كل تلكم الأكاذيب وصور الخداع هنا وهناك.. حفظنا الله وإياكم من شر الخدع
والمخادعين، من القريب قبل البعيد. إنه سميع عليم مجيب الدعوات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق