قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله..
يا لها من آية
تبعث في النفس طمأنينة وراحة لا يدرك معانيهما سوى من يبحث عنهما.. آية واضحة
بذاتها تلخص مدى سعة الرحمة الإلهية بعباده. رحمة وطمأنينة تأتيان على شكل دعوة غاية
في اللطف من الخالق عز وجل لعباده. دعوة ضمنية تشير إلى أهمية وضرورة عدم فتح
المجال لشعور اليأس أن يسيطر على النفس. ذاك اليأس الطارد لأي أمل أو رجاء من حدوث
أمر إيجابي مستقبلي، والإدراك التام بأن رحمة الله أوسع وأكبر مما نتصور.
روي عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ما أحب أن لي الدنيا وما فيها
بهذه الآية". لماذا أحب النبي الكريم هذه الآية أكثر من الدنيا وما فيها؟
لأنها دون كثير شروحات وتفصيلات، بشارة إلهية لعباده أنه واسع المغفرة
والرحمة، لا يأبه لأي ذنب، صغيراً كان أم كبيراً، إلا الشرك، طالما الإنسان المذنب
أو المسرف على نفسه قرر الإنابة والتوبة. أضف إلى ذلك أن الآية تُعتبر دعوة
إلهية - كما أسلفنا - إلى عدم القنوط أو اليأس، وضرورة أن يكون للإنسان أمل ورجاء
في أن القادم أفضل، بشرط أن يبذل جهداً مستحقاً مناسباً لرؤية ذاك الأفضل في قادم
أيامه. وقد جاء عن علي بن أبي طالب وابن
مسعود – رضي الله عنهما – أن هذه أرجى آية في القرآن.
ما هو الأمل؟
تلكم المقدمة التي بدأنا بها حديث اليوم، كانت
مدخلاً للتفاكر بعض الشيء حول الأمل، ليس لأنه موضوع جديد، وإنما من باب الذكرى التي
تنفع المؤمنين. فهذا الأمل له تعريفات وشروحات كثيرة. منها : أن الأمل هو توقع
نتائج إيجابية لما تقوم به من عمل. ويمكن التعمق في القول أكثر لنقول : إنه ليس
فقط توقع قدوم أو حدوث نتائج إيجابية فحسب، بل هو الشعور بثقة ويقين أن تلك
النتائج الإيجابية في متناول يديك نظرياً، وستصل إليها أو ستتجسد على أرض واقعك عما
قريب، ولكن بعد خطوات معينة صحيحة تحتاج منك القيام بها. هذا ما يعرفه ويتحدث عنه
المتفائلون.
الأمل صوت داخلي، وجذوة متقدة بالنفس تدفعك إلى عدم اليأس والركون إلى الأوهام، أو الارتماء في أحضان الفشل والفاشلين، أو اليأس واليائسين، مهما كانت حياتك مليئة بالأحزان والهموم والأوجاع، أو تمر بأوقات عصيبة صعبة.
تساؤلات
ما الذي يدفع بالمزارع مثلاً أن يبذر البذور ويقوم عليها زمناً؟
إنه الأمل في حصاد وفير..
وما الذي يدفع لاعب القوى مثلاً أن يجهد نفسه بالتمارين وتقوية العضلات بشكل مستمر لا يتراخى ولا يتكاسل؟
إنه الأمل في أن يكسر الرقم القياسي في اللعبة ويحقق إنجازاً؟
وما الذي يدعونا إلى الاستمرار في الدعاء حين الأزمات والمشكلات والملمات؟
إنه الأمل في أن يأتينا فرج من الله، عاجلاً كان أم آجلا.
الأصل في
الإنسان أولاً، ألا يكلّ ولا يمل، أو يترك نفسه لتصل إلى اليأس، فيتركها محاطة
بالأوهام ووساوس الشيطان، الذي يستغل مثل تلكم الحالات في الإنسان، ليدفعه إلى مزيد
يأس، ويزيد من إحباطاته وتعميق مشاعر البؤس فيه.
ثم الأصل ثانياً، أن يعمل الإنسان ويجتهد ويتخذ الأسباب، ويعقد الأمل في خططه وأعماله ونجاحها على قوة أكبر من أي قوة أخرى في هذا الكون، ويبدأ بتكوين يقين راسخ في قلبه أن هناك ربًّا قديراً سميعاً مجيب الدعوات.. فاليأس ليس من صفات من به ذرة إيمان واتصال بالله، الذي يدعونا سبحانه بقوله ( وَلَا تيأَسوا من رَوحِ اللَّهِ إنَّه لا ييأَسُ من رَوْح اللَّه إلا القومُ الكافرون ).
لولا الأمل الذي عاش لحظاته النبي يونس – عليه السلام - وهو في ظلمات بطن الحوت والبحر، ويقينه الراسخ أن من كتب عليه هذا الواقع سيكتب له واقعاً آخر، ما وجدته استمر يدعو ويبتهل ويستغفر، ولكان استسلم لليأس وجلس ينتظر مصيره أو الموت.
يعقوب - عليه السلام - لم يفقد أمله في العثور على ابنه يوسف – عليه السلام - والذي لم يفقد هو نفسه الأمل كذلك أن يرجع إلى أبيه وأهله، وإن طال الزمن. وقد حدث فعلاً، بعد مشاهد ووقائع عديدة كما جاءت تفاصيلها في سورة يقرأها المسلمون إلى يوم الدين.
أيوب – عليه السلام – بالمثل. ما يئس من رحمة الله أن تتنزل عليه فيكرمه بعافية من عنده. وقد حدث ذلك وتبدلت أحواله بعد سنوات عديدة من آلام المرض وآلام فقد الأبناء وآلام ضياع المال والمكانة الاجتماعية.
الخليل إبراهيم – عليه السلام - بلغ هو وزوجته من الكبر عتيّا ولم يرزقهما الله الأبناء، ما يجعل أي إنسان في مثل سنهما يفقد الأمل في الولد، إلا إبراهيم - عليه السلام - كان عنده ذاك الأمل، الذي جعله لا يمل ولا يكل من الدعاء بقوله ( رب هب لي من الصالحين )، حتى جاءته البشرى وهو في التسعين من عمره، وزوجته كانت تجاوزت سن الحمل، بل كانت عاقراً بالأصل. فأكرمهما الله وبشرهما ( بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ). إنه الأمل في رحمة الله وكرمه. هذا الأمل، الذي إن صح وجاز لنا التعبير، يمكن اعتباره صفة من صفات الأنبياء الكرام.
نختم أمثلة ونماذج الأمل بنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يوم الخندق مع صحابته الكرام، وهم في أخطر وأحلك الظروف التي مرت بها الجماعة المسلمة منذ بدء الدعوة، حين اعترضتهم صخرة عظيمة أثناء الحفر لم يقدر عليها الصحابة الكرام، ولم يفتتها إلا النبي الكريم، الذي مع كل ضربة منه للصخرة، كانت
تخرج شرارة فيكبّر عليه الصلاة والسلام، فيقول في الأولى:" الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة. ثم الثانية: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض. ثم الثالثة: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة".
لم يقل الرسول الكريم ذلك إلا لأنه في تلك الضائقة والمحنة، كان مدركاً أن الله لن يخذله هو وأصحابه، وأن أملهم ورجاءهم فيه عظيم، وأنهم بعد هذه المحنة الخطيرة التي اجتمعت وثنية الجزيرة العربية بمساندة يهودية لئيمة غادرة، سيخرجون منها سالمين غانمين، بل وفاتحين أرجاء الأرض.
إن الأمل الذي كان
يغمره - صلى الله عليه وسلم - جعله يرى مستقبلاً مبهراً قادماً دون أدنى ريب فيه،
إلى الدرجة التي جعله يذكر أكبر الممالك أو القوى التي كانت مسيطرة على الأرض
حينذاك، الإمبراطورية الرومانية والفارسية. ما يعني أن هذا الدين غالب، وإن انتكس
أتباعه حيناً من الدهر، طال أم قصر، ولكن بشرط ألا يفقد أحدهم أمله ويقينه بنصر
الله، والنتائج الإيجابية التي ستتحقق في قادم الأيام. وبشرط آخر لا يقل أهمية عن
شرط الأمل، هو ضرورة العودة إلى طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام،
أو الصراط المستقيم الذي يسأل المسلم ربه في صلواته كل يوم مرات عديدة أن يهديه
إليه..
والله تعالى دوماً وأبداً،
كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق