الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم، ومعه عشرة آلاف صحابي يدخلون مكة من أبوابها المختلفة
في مشهد عظيم انتظره المسلمون أكثر من عشرين عاماً. دخلها الرسول صلى الله عليه
وسلم، وهو أشد ما يكون حرصاً ألا تُراق الدماء من الجانبين ويفسد المشهد المهيب.. لكن دخول مكة بهذه السهولة قد لا يخضع
للأمنيات، إذ ربما هناك من مشركي مكة مَن لا يزال غير راض عما آلت إليه الأمور،
ولا يريد الاستسلام سريعاً.. فما الحل؛ ورغبة خير البشر، ألا يُراق دم خلال عملية
دخول المدينة المقدسة؟
كان الحل الذكي في اقتراح العباس بن عبد المطلب
على النبي الكريم، وتمثل في استثمار نفسية أبي سفيان بن حرب، العاشقة للزعامة
والرياسة والبقاء في الأضواء، وخاصة أنه كان زعيم قريش يومها، وبيده قرار الحرب
والسلم.
فلما أسلم أبو سفيان، أكرمه الرسول الكريم بقوله:" من دخل دار أبي
سفيان فهو آمن"، فجعل داره ضمن مواقع أخرى آمنة تم تحديدها. فأسرع أبو سفيان بعد
إعلان إسلامه الى مكة منادياً، بأن من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره، فهو آمن.
وأخيراً من يدخل دار أبي سفيان فهو آمن كذلك.
استغرب كفار قريش من موقف زعيمهم، واستغربوا
أكثر وهو يعلن داره موقعاً آمناً للاحتماء من جيش المسلمين، فما عساها دار أبي
سفيان أن تفعل أو تستوعب المئات في مثل هذه الأزمة العصيبة؟ تركه الناس وذهب كل
أحد إلى داره، ينتظر قرار الزعيم الجديد، عليه الصلاة والسلام، حتى صدر بعد قليل
من الوقت، وكان العفو، حسبما جاء في قولته الشهيرة البليغة:" اذهبوا فأنتم الطلقاء
".
الشاهد من القصة، أن الحكمة تقتضي منك أحياناً
كثيرة، استثمار الظرف الأنسب لتحقيق الإنجاز والانتصار، حتى لو كنت أمام معركة
حربية أو غيرها من المعارك الحياتية المتنوعة التي ستخوضها. فليست القوة دائماً
تأتي بأفضل النتائج وأقل الخسائر، وهكذا صارت الأمور مع مسألة فتح مكة.
لقد استثمر النبي الكريم، تركيبة أبي سفيان الشخصية،
فقرر الاستفادة منها في تجنب معركة، لابد أن دماءً كثيرة ستُراق، إن نشبت وحمي
وطيسها، فلم لا يكسب المطلوب بأقل الخسائر؟ فكان ما كان من أمر أبي سفيان، وخرج
المسلمون يومها بنصر عظيم دون خسائر تُذكر.. وهكذا هم القادة العظام في المواقف
العصيبة، والأزمات الكبيرة، وليس هناك من هو أعظم من قائدنا إلى يوم الدين، حياً وميتاً؛ عليه وعلى
آله وصحبه خير الصلاة وأزكى السلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق