ليلة الجمعة الدامية 15/7/2016 في نيس فرنسا، أذهلت العالم وظل ملايين البشر
يتابعون حدثاً همجياً قد وقع ، غير مقبول البتة تجاه أبرياء، لا يختلف أبداً عن أحداث البراميل
المتفجرة لبشار والقنابل الفوسفورية الروسية على أبرياء سوريا ، أو العنقودية
الإسرائيلية على أبرياء غزة أو القنابل الذكية الأمريكية على أبرياء أفغانستان ..
كلها سواء.
ظل الملايين في مناقشة
حادثة نيس الفرنسية، ومحاولة فهمها ساعات وساعات، ولكن لم يمر يوم على ذلك حتى
جاءت ليلة السبت الفارط، مخيفة متوترة هي الأخرى ولكن من تركيا هذه المرة، بسبب محاولة
انقلابية عسكرية انتهت بالفشل ولله الحمد، لكنها أقلقت كل محبي تركيا وكذلك أعداءها في
الوقت ذاته !
عاش العالم تارة أخرى
خلال أربع وعشرين ساعة في قلق وتوتر وترقب، وسيطرت أحداث الانقلاب على وسائل
التواصل وكافة وسائل الإعلام الأخرى، باعتبار أن بلداً مثل تركيا، حيث الاستقرار
والمكانة الدولية لها، جعلت من حدث الانقلاب ليس بالذي يمكن أن يمر مرور الكرام ،
وقد صدق الرئيس التركي الأسبق عبدالله غول في وصفه لما جرى، بأن بلده ليس دولة في
أمريكا اللاتينية أو أفريقيا، في إشارة إلى ما يمكن أن يكون قد تعارف الناس عليه،
أن الحكم في تلك القارتين ولعقود عديدة، صار الأصل فيه عدم الاستقرار بسبب الانقلابات
العسكرية، وبالتالي فليس غريباً أو بالذي يدعو العالم إلى توجيه كثير اهتمام لها إن
وقع انقلاب هنا أو هناك ، لكن الأمر في تركيا اختلف تماماً.
المحاولة فشلت كخلاصة أولية للمشهد ، ولكن الخلاصة الأخرى التي لا تقل أهمية ووجاهة ، أنه لا شيء يضمن أو يدفعك الى الإطمئنان بأن الذين كانوا وراء
المحاولة، سواء من قاموا بالتخطيط أو التنفيذ أو الدعم المادي من الداخل والخارج وغيره، لن يعيدوا المحاولة
تارة أخرى.
نعم ، حفنة من الضباط والعساكر قاموا بالتنفيذ، ربما لوعود براقة حصلوا
عليها وستكون موضع التنفيذ حال نجاحها، ولكن من المؤكد وجود حفنات أخرى كثيرة لا
تزال منتشرة في داخل وخارج تركيا، تتربص بهذا البلد، لا تريد له استقراراً وأمناً
في ظل الحزب الحاكم الحالي، ربما لأسباب لم تعد مجهولة وخافية على أحد..
يمكن القول بأن من أبرز
الأسباب التي تدعو المتربصين بتركيا إلى عرقلتها وتطويقها، أو تحجميها إن صح التعبير، هو هذا الشيء الابتدائي البسيط من السمت الإسلامي الظاهر على بعض توجهات
الحزب وبعض رموزه، وما نتج عن ذلك من آثار على شكل أعمال وسلوكيات متجسدة على أرض
الواقع، رغم أن الحزب سياسي صرف، ورغم أن ما يقوم به الحزب الحاكم بالمقارنة مع
دول إسلامية أخرى كمثال ، لا يمكن اعتباره حزباً إسلامياً أو اعتبار تركيا دولة
إسلامية بالمفهوم المتعارف عليه ، الأمر الذي يبعث على التساؤل ها هنا، وخاصة بعد
أحداث كبيرة كمحاولة الانقلاب الفاشلة :
لم كل هذا العداء من الداخل والخارج لهذا البلد أو هذا الحزب الحاكم تحديداً، وأكثر دقة لهذا الرئيس، فيما الأمر يختلف مع أقطار أخرى إسلامية، عربية كانت أم غيرها ؟
لم كل هذا العداء من الداخل والخارج لهذا البلد أو هذا الحزب الحاكم تحديداً، وأكثر دقة لهذا الرئيس، فيما الأمر يختلف مع أقطار أخرى إسلامية، عربية كانت أم غيرها ؟
لو نرجع الى الوراء بعض الشيء ونستحضر الماضي ، سنجد بأن تاريخ
الدولة التركية ليس بالذي يمكن أن ينساه أو يتناساه الغرب الأوروبي على وجه التحديد، مدعوماً بالأمريكي . فالإمبراطورية
العثمانية بالذاكرة الغربية الأوروبية ، تأخذ حيزاً مهماً بارزاً فيها ..
فإن دولة اتسعت وسادت مساحات هائلة في الشرق والغرب، وكانت من الدول العظمى صاحبة
القرار في الشأن العالمي، في فترة تقل عن قرن من الزمان ، إنما كانت بداياتها
شبيهة بما يحدث اليوم في تركيا وعلى يد الحزب الحاكم الحالي.. واقرأ إن شئت تاريخ
نشوء وظهور الدولة العثمانية.. ومن هنا يمكنك البدء في تفسير الأحداث في تركيا
ومواقف الغرب منها ..
لو
تتأمل في تطور الأحداث بتركيا خلال عقود ثلاثة فارطة من الزمن، لوجدت أنها لم تكن
سوى دولة متعثرة مثقلة ومكبلة بالديون، غارقة في عديد المشكلات، منها فقدان الأمن
والاستقرار في ظل أنظمة حكم عسكرية متقلبة ودموية أحياناً، وكانت دولة ذات بيئة
طاردة للبشر قبل الاستثمار، ثم تنهض وتنفض عنها الغبار، لتتحول في عقد من الزمن،
إلى دولة دائنة وبيئة جاذبة، ونمو متصاعد، تتفاعل مع المحيط. تتأثر وتؤثر، فتشعر
أنت كمراقب للأحداث، كأنما هناك من يزرع بذور دولة مستقبلية ذات قرار واستقرار،
وشأن عظيم في قادم الأيام، ضمن محيط متذبذب في الشرق منها، بدأ يبحث عن قراره،
ومحيط في الغرب منها قلق للغاية ومتوتر، وذاكرته ما زالت تستحضر أمجاد هذه الدولة وتاريخها غير
البعيد جداً، واحتمالية أن يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى.
تركيا بكل اختصار يمكن اعتبارها نواة لمشروع
دولة عظمى، وتاريخها السياسي يدعم هذا الأمر، فيما تاريخها العريق المرتبط بالدين
الإسلامي والحضارة الإسلامية، كافية جداً لتكون هي كذلك بمثابة الوقود اللازم
للدفع بهذا المشروع مرة أخرى للبروز والظهور، وهذا هو عين ما يخشاه الغرب تحديداً،
الذي يرى أبعد مما نراه نحن العرب. ولن أكون مبالغاً إن قلت بأن هذا هو الهدف الاستراتيجي الذي يعمل على
تحقيقه الأتراك بقيادة الحزب الحاكم الحالي ، ولا شيء يمنعهم من هكذا نوعية من التفكير .
بناء على المعطيات السابقة ، فإنه يمكنك البدء بتحليل وتفسير وفهم تحركات وخطوات هذا الغرب، التي تدور أغلبها ضمن
إطار عرقلة هذا المشروع بكل وسيلة، وتأجيل هذا المشروع قدر المستطاع، فهو لا يرى
بأساً أن يضرب بكل مبادئه وقيمه المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، في سبيل وأد هذا المشروع في مراحله الأولى، ولن يجد كذلك بأساً في عمله هذا أن يستخدم أدوات تركية أو
حتى من الجوار العربي وغير العربي أيضاً، وهو ما بدت بعض مؤشراته واضحة في الحدث
الانقلابي الأخير، وما ستكشف عنه التحقيقات في قادم الأيام.. ( والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمون ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق