الأحداث الأخيرة في مصر، أشغلتنا كثيراً وجعلتنا نقترب إلى الداخل المصري أكثر فأكثر، حتى كاد المراقب منا يضيع في تفصيلات المشهد المصري المتجدد كل حين.. وأمام هذا الانغماس والتعمق في التفاصيل، رغبة وحباً في أن يرى هذا البلد الأمن والاستقرار، نسينا أن ننظر لأبعد من تفاصيل المشهد المصري اليومي، وربما اللاعبون الأساسيون في المسألة أرادوا أو ما زالوا يريدون لنا ذلك.
دون مقدمات طويلة، أرى أن الأحداث الأخيرة في مصر يُراد من ورائها تحقيق عدة مكاسب في آن واحد، منها دون شك، قطع الطريق أمام سيل الربيع العـربي أن يواصل ويمتد، ليتحقق على إثر ذلك نشوء شعور الإحباط في نفوس المتفائلين به، عبر رؤيتهم لأبرز نموذج تم التفاؤل به ليكون القدوة، وهو يقع بعنف شديد بقدرة قادر، في مشهد درامي مذهل ومثير.
لم يكن وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في مصر بالأمر الذي يمكن تمريره، رغم أنه تم عبر تطبيق كل مبادئ الديمقراطية وبحذافيرها كما يدعو إليها الغـرب، الذي ظهر أنه يناقض نفسه ويتنازل عن مبادئه إن تصادمت مع مصالحه.. فلم يهنأ الإسلاميون بالحكم أكثر من عام شاق وصعب، امتلأ بكل ما يمكن تصوره من معوقات ومشوشات، من الداخل والخارج حتى تم اسقاطه بقوة الساعد والسلاح.
تجربة مصر أخافت أدعياء الحكم الديمقراطي ومروجي هذه النظريات من الأمريكان ومن معهم، فكان لابد من حزم الأمر والتكشير عن الأنياب، وليقل العالم ما يقوله، فإن المصالح حين تتهدد، فلا يجب أن تقف المبادئ والقيم أمامها، أو هكذا تبدو العقلية الغربية، لاسيما الأمريكية. هذه نقطة اولى.
أما النقطة الأخرى، فهي ربيبة الغرب، اسرائيل، التي تُعتبر من أكثر الدول التي أرعبها الوصول السريع الكاسح للإسلاميين إلى الحكم في مصر، فكان لابد من أن تتكاتف مع الممولين لها وحافظي أمنها، للتخلص من هذا الهم والقلق الذي دام عاماً كاملاً، كانت أشبه بعقد من الزمان للإسرائيليين.
أكثر ما أرعب الغـرب وإسرائيل، ليس فقط وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر، بقدر ما أرعبهم وجود جيش كبير جرار على الحدود، يرأسه زعيم إسلامي، بإمكانه في لحظة حماسة أن يعلن النفير وتستجيب وحدات كثيرة من الجيش له، وتقع الكارثة التي عمل الأمريكان وما زالوا يعملون على تأخيرها قدر المستطاع بعقود ومواثيق ومعاهدات دولية مكبلة للدولة المصرية، والمتمثلة في معاهدة كامب ديفيد.
لقد كانت جيوش ثلاث دول عربية هي العراق وسوريا ومصر، الأقرب جغرافيا إلى إسرائيل، والأقرب أن يصدر عنها أي بوادر يمكن أن تكون خطرة على أمن وكيان إسرائيل، ولو بأدنى النسب، رغم كل التطمينات من الأنظمة في تلك الدول، ولكن ثورات الربيع العربي واكتساح الاسلاميين ساحات السياسة والوصول إلى سدة الحكم، أرعب الجميع، في الغرب والشرق أيضاً..
العراق تم تدمير وتفكيك جيشه قبل عشرة أعوام، ليبدأ الدور على الجيش الثاني وهو السوري، والذي عجّلت أمر تدميره دون شك، ثورات الربيع العربي، في ظل شعور قوي حول إمكانية وصول من لا ترغب فيهم أمريكا وإسرائيل وغيرهما كثير إلى حكم هذا البلد، ووقوع جيش قوي وذات إمكانيات بأيدهم وما يمكن أن يشكل ذلك من خطر مهلك لإسرائيل.. وها هو الآن يتم تدمير الجيش السوري بأيدي السوريين أنفسهم، وسط شعور عربي وقبل ذلك سوري عام، بضرورة تدميره لأنه سار عكس الاتجاه.. المهم في الأمر أن التدمير جار العمل عليه، سواء كان بيد خارجية أو داخلية، فالهدف سيتحقق عما قريب بالنسبة للغرب وإسرائيل.
نرجع للداخل المصري، والجيش المصري، الذي بات هو الأخير في أجندة الغرب وإسرائيل، الذي يمكن أن يشكل خطراً عليه، رغم كل المليارات الأمريكية السنوية المغدقة على هذا الجيش ورغم كل معاهدات عدم الاعتداء وغيرها على إسرائيل، إلا أن ما حدث في مصر، أمر لا يستحق أبداً الوثوق، لا بمعاهدات ولا مواثيق ولا غيرها من قوانين.. وأمن إسرائيل، لا يجب التهاون فيه بتاتاً، كما هي الاجراءات مع أمن الطائرات وضرورة تطبيق مبدأ صفر الخطأ أو ما شابه.
إذن وحتى لا تعيش إسرائيل في قلق جديد مرة أخرى، خاصة أن الوضع في مصر غير مستقر وقد تدور الحياة دورتها وترجع الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام ولو بعد حين طال أم قصر، فإن إزالة الخطر الرئيسي أمر حتمي ولابد من تنفيذه بصورة وأخرى. والخطر الأكبر من الجانب المصري على إسرائيل هو الجيش، وإن إحداث خلخلة في جسم هذا الجيش بيد المصريين أنفسهم، هو السيناريو الأمثل، فلا السيناريو العراقي مقنع ويجدي ولا السوري أيضاً بحكم طبيعة الشعب المصري.. فما الحل؟
الحل هو أن يفقد المصريون ثقتهم تدريجياً بهذا الجيش الذي طالما تغنوا به، وفقدان الثقة تبدأ عبر توريط الجيش في المستنقعات السياسية، فتضيع البوصلة العسكرية في أتون السياسة، ويجد الجيش نفسه يتورط في القمع والقتل وتتلطخ يده بالدم المصري، فتكثر الانقلابات العسكرية والخلافات بين القادة والضباط، وينشغل الجيش بالداخل وتحقيق المكاسب وينسى الحدود والخارج، وتتزعزع العقيدة العسكرية لدى أفراده، في ظل حكومات مدنية أو مدنية معسكرة، تتنافس وتتناحر على المكاسب أيضاً وهكذا، إلى أن يفقد الجيش المصري بريقه ويتحول إلى أمن مركزي ولكن بأعداد هائلة..
سيناريو مفزع ومخيف وأرجو ألا يكون له حظ من الواقع.. ولكن في الوقت ذاته، لا شك أن واقع هذا الجيش صار خطراً على إسرائيل على مدى ليس ببعيد، سواء في وجود إسلاميين بالسلطة أو غيرهم، مهما كانت ميولهم وولاءهم لأمريكا وحلفائها..