أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 20 نوفمبر 2025

حياة العـبيد والعـباد

 


 

 واحدة من صفات عباد الرحمن، هي الحلم والإحسان وعدم مقابلة السيء بمثله.. لماذا ؟

 لأنهم في طاعة الله جُل وقتهم، لا ينشغلون بتوافه وسفاسف الأمورحولهم ، وما أكثرها..

إنهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، تجدهم لا يتلفتون إلى حماقة حمقى وسفاهة سفهاء، كما يقول صاحب الظلال في تفسيره، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين، كما يصفهم القرآن ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ). 

لا يقولون ذلك عن ضعف، ولكن عن ترفّع؛ ولا عن عجز، إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة، بما هو أهم وأكرم وأرفع.


   كثيرون منا في زحمة هذه الحياة، وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تراهم يتأثرون لكلام هذا وذاك من الناس، فينشغل أحدهم بها أيما انشغال، ويتألم منها كثيراً وطويلاً، وتراه مشغول البال في كيفية رد الصاع صاعين !

   لكن من وفقه الله لأن يكون من عباد الرحمن، أو قريباً منهم، تجده وقد اعتبر حياته أغلى وأرقى من أن تنزل إلى تلكم المستويات الدنيا من التفاعل مع الآخرين، لأنه اختار منهج التغافل أو التجاهل في حال الإساءة إليه بقول أو فعل، ليقينه التام أن التغافل فعلٌ إرادي ناتج عن إحاطة وإلمام وإدراك بما يدور في البيئة المحيطة.

 وهذا يعني أن التغافل أقرب إلى أن يكون حكمة من الإنسان حين يختاره وسيلة للتعامل مع المسيئين في موقف ما، كقوله تعالى في آية أخرى ( وإذا سمعـوا اللغـو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ).

  

الفرق بين العـبيد والعـباد 

إذن عباد الرحمن كما جاء وصفهم في سورة الفرقان، ولأنهم عرفوا الله حق معرفته،  فعبدوه حق عبادته، كانت نتيجة تلك المعرفة وذلكم العمل، استحقاقهم درجة الانتساب إلى الله عز وجل، فهم عباد له وليسوا عبيدا، والفرق بين الكلمتين كبير. إنّ كلمة عباد تُضاف إلى لفظ الجلالة، كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله، فالذين يعبدون الله يُضافون للفظ الجلالة، فيزدادون تشريفاً، فيُقال : عباد الله أو عباد الرحمن. أما كلمة عبيد فهي تُطلق على عبيد الناس وعبيد الله معاً، وعادة تُضاف إلى الناس. والعبيد تشمل الكل، محسنهم ومسيئهم، كما ورد في سورة ق ( ما يُبدلُ القَولُ لدي وما أَنا بظلَّام للعـبيد ).


  إنّ كل بني البشرعبيدٌ لله في هذه الأرض. المسلم والنصراني واليهودي والمجوسي وكذلك الملحد الذي لا يؤمن أساساً بوجود الخالق ! العبيد يعاملهم الله في أمور أساسية حيوية وبشكل متساو لا يُظلم في كونه وملكه أحد، وتعالى الله وتنزه عن الظلم..

   تجده سبحانه يرزق البر والفاجر، والمؤمن والملحد. لا يقطع ماء ولا هواء عن الذين يجحدونه ويكفرونه ويشركون به، ولا غير ذلك من نعمه التي لا تُحصى. الكل سواء هاهنا، لكن في الحياة الأخرى القادمة ولو بعد حين، الأمور لن تكون كذلك، وبالطبع ستتغير..

    لكن ليس الكل يرضى أن يكون في درجة العبيد، بل تجد آخرين يبذلون الجهد للخروج من نطاق العبيد، والدخول إلى نطاق أو منزلة العباد، وليس أي عباد، بل عباد للرحمن. وحين يسمي الله تعالى الذين يتقربون إليه ويعبدونه حق عبادته بأنهم عباد للرحمن، فإنّ هذه التسمية أو هذا الوصف يمكن اعتباره جائزة دنيوية قبل تلكم الأخروية المنتظرة بإذنه تعالى، بل ربما هذه التسمية بشرى لعاقبة طيبة وجزاء عظيم في الآخرة.

 

الأمن والاستقرار الداخلي 

 ما يهمنا هاهنا هو كيف وصل عباد الرحمن الى ما هم عليه، كي يمدحهم ويذكرهم الخالق في قرآن يُتلى الى يوم الدين؟ لاشك إن السر يكمن في ذلكم الأمن أو الاستقرار الداخلي، الذي يأتي كنتاج طبيعي ليقين وإيمان بالله عميق، والذي به يغنى المرء، وبه تعتدل صحته، وبه أيضاً يحقق نجاحات مستمرة على شكل ترقيات ودرجات ومكافآت، وغيرها من صور النجاحات المادية والمعنوية في الدنيا قبل الآخرة..


   الأمن الداخلي الناتج عن عميق الصلة والإيمان بالله، بسببه نعيش في سلام، وإن كان ما حولنا في قلق وفوضى أو رعب وبلوى، وبالتالي نبدع وننتج بشكل ايجابي. إنّ الذي نسميه بالسلام أو الأمن الداخلي، هو الذي يدعـو عباد الرحمن الى عدم الخوض في جدال عقيم ومراء لا يفيد.. فقد أدرك هؤلاء أن هذه الحياة ليست حالة ثابتة تجعلهم مستنفرين طوال حياتهم لأي أمر، أو يتقاتلون ويتنافسون على مباهجها وجميل ما فيها، أو يتعاركون بسبب تفاهات وهوامش تسنزف طاقاتهم في الأقل أهمية عن المهم، أو المهم عن الأكثر أهمية.


    عباد الرحمن تراهم مدركين أن كل ما في هذه الحياة العاجلة من أحداث ووقائع لن تستمر، بل زائلة دون أدنى ريب، وبالتالي أي قلق أو توترات بشأنها ستزول أيضاً. ومن هذا الفهم العميق للحياة ومفرداتها وأدبياتها، يعيش عباد الرحمن في سلام عميق، منتظرين السلام الدائم من السلام سبحانه، وقد ظفروا بجائزتهم المنتظرة، جنة عرضها السموات والأرض، وما أغلاها من جائزة ( يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ).

فاللهم اجعلنا وإياكم منهم.

    

الخميس، 16 أكتوبر 2025

يوم لا ينفع مال ولا بنون

 


    إدراك وفهم عميقان لمعنى وحقيقة يوم القيامة، اليوم الذي تنقطع فيه كل الصلات والوشائج والعلاقات التي كانت بين البشر في الحياة الدنيا. فلا علاقات رحم، ولا قربى، ولا مصالح ولا غيرها. إنّ مثل هذا الإدراك، أوالفهم العميق لحقيقة القيامة، هو الذي دفع بخليل الرحمن عليه السلام، أن يسأل الله من ضمن ما سأله ( .. ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ). 

   لن ينفع المرء يوم القيامة ماله ولا نسبه ولا أصله ولا جاهه ولا أحد من أبنائه وأزواجه وأرحامه. لن ينفع المرء منا ذلك اليوم إلا قلبه، بشرط أن يأتي الله بقلب سليم موحد خالص من الشرك.. لكن مع ذلك، يمكن أن ينتفع الناس بأموالهم وأولادهم، كما يقول الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره ( تأويلات أهل السنة ) :" إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القُرَب، وعلّموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ، كقوله ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا )  أخبر أنهم إذا آمنوا، وتابوا، تقرّبهم أموالهم وأولادهم عنده ". 

ويضيف الماتريدي بأنه جائز أن يكون على غير ذلك، أي لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى الله بقلب سليم. والقلب السليم هو السالم من الشرك، أو السليم من الآفات والذنوب، والخالص لربه، لا يجعل لغيره فيه حقاً ولا نصيبا. وشَرَطَ فيه إتيانه ربه ما ذكر، ليعلم أنه ما لم يُقبض على السلامة والتوحيد، لا ينفعه ما كان منه من قبلُ من الطاعات، إذا لم يُقبض على التوحيد.

 

اهتم بنفسك أولاً    

هذا يدعو المرء منا إلى الاهتمام بالنفس في هذه الحياة الدنيا، وهذا أمر ليس فيه ما يعيب، بل واجب المحافظة على هذه النفس في هذه العاجلة، من الأمراض ومن شر كل ما يمكن أن يعيبها ويعطلها عن هدفها الوحيد، أو الغرض الأساسي من وجوده في هذه الحياة، وهو إعداد نفسه وإنقاذها من مشاهد الآخرة المتنوعة غير المألوفة.

    لا أحد يومئذ معي ومعك، أو ينفعني وينفعك، أو يشفع لي ويشفع لك كما الحال في الدنيا. فإننا ذلك اليوم، لن ينفعنا مال ولا بنون إلا إذا أتينا الله بقلوب سليمة. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتنا الدنيا، لأننا محاسبون على ما نقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. 

    في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك في نهاية المطاف، ويخرجك من ورطة أو مشكلة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه من هموم ومشكلات ومنغصات دنيوية لا تنتهي ولا تتوقف.

 

حقيقة مطلوب فهمها    

لكن يوم التغابن، أو يوم المحاسبة، فقد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك أمل ورجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء لتخفيف بعض ما يمكن أن تواجهه، فلا تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، ليس لأنك لا تعني لهم شيئاً، بل لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى من يتكرم، أو يعطف عليهم ويأخذ بأيديهم مما هم فيه أيضاً ! وربما تراهم يهربون منك يمنة ويسرة، لا يلتفتون خلفهم، وهم الذين ربما كنت تبذل الغالي والنفيس من أجلهم في الحياة الدنيا !


   لكن رغم كل ذلك، فإن هذا الأمر يفيدك ويفيدني ويفيد كل قارئ من ناحية أن الدنيا شيء، والآخرة شيء آخر لا يمكن أن يستوعبه أو يتخيله عقل. هذه حقيقة لابد من استيعابها وفهمها تمام الفهم. الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً، ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها.. إنه يوم ليس كأي يوم. ثقيلٌ على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد !


هكذا تبلغ الأمور يومئذ..

نسأل الله لنا ولكم العافية

وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.