أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 16 أكتوبر 2025

يوم لا ينفع مال ولا بنون

 


    إدراك وفهم عميقان لمعنى وحقيقة يوم القيامة، اليوم الذي تنقطع فيه كل الصلات والوشائج والعلاقات التي كانت بين البشر في الحياة الدنيا. فلا علاقات رحم، ولا قربى، ولا مصالح ولا غيرها. إنّ مثل هذا الإدراك، أوالفهم العميق لحقيقة القيامة، هو الذي دفع بخليل الرحمن عليه السلام، أن يسأل الله من ضمن ما سأله ( .. ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ). 

   لن ينفع المرء يوم القيامة ماله ولا نسبه ولا أصله ولا جاهه ولا أحد من أبنائه وأزواجه وأرحامه. لن ينفع المرء منا ذلك اليوم إلا قلبه، بشرط أن يأتي الله بقلب سليم موحد خالص من الشرك.. لكن مع ذلك، يمكن أن ينتفع الناس بأموالهم وأولادهم، كما يقول الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره ( تأويلات أهل السنة ) :" إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القُرَب، وعلّموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ، كقوله ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا )  أخبر أنهم إذا آمنوا، وتابوا، تقرّبهم أموالهم وأولادهم عنده ". 

ويضيف الماتريدي بأنه جائز أن يكون على غير ذلك، أي لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى الله بقلب سليم. والقلب السليم هو السالم من الشرك، أو السليم من الآفات والذنوب، والخالص لربه، لا يجعل لغيره فيه حقاً ولا نصيبا. وشَرَطَ فيه إتيانه ربه ما ذكر، ليعلم أنه ما لم يُقبض على السلامة والتوحيد، لا ينفعه ما كان منه من قبلُ من الطاعات، إذا لم يُقبض على التوحيد.

 

اهتم بنفسك أولاً    

هذا يدعو المرء منا إلى الاهتمام بالنفس في هذه الحياة الدنيا، وهذا أمر ليس فيه ما يعيب، بل واجب المحافظة على هذه النفس في هذه العاجلة، من الأمراض ومن شر كل ما يمكن أن يعيبها ويعطلها عن هدفها الوحيد، أو الغرض الأساسي من وجوده في هذه الحياة، وهو إعداد نفسه وإنقاذها من مشاهد الآخرة المتنوعة غير المألوفة.

    لا أحد يومئذ معي ومعك، أو ينفعني وينفعك، أو يشفع لي ويشفع لك كما الحال في الدنيا. فإننا ذلك اليوم، لن ينفعنا مال ولا بنون إلا إذا أتينا الله بقلوب سليمة. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتنا الدنيا، لأننا محاسبون على ما نقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. 

    في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك في نهاية المطاف، ويخرجك من ورطة أو مشكلة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه من هموم ومشكلات ومنغصات دنيوية لا تنتهي ولا تتوقف.

 

حقيقة مطلوب فهمها    

لكن يوم التغابن، أو يوم المحاسبة، فقد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك أمل ورجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء لتخفيف بعض ما يمكن أن تواجهه، فلا تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، ليس لأنك لا تعني لهم شيئاً، بل لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى من يتكرم، أو يعطف عليهم ويأخذ بأيديهم مما هم فيه أيضاً ! وربما تراهم يهربون منك يمنة ويسرة، لا يلتفتون خلفهم، وهم الذين ربما كنت تبذل الغالي والنفيس من أجلهم في الحياة الدنيا !


   لكن رغم كل ذلك، فإن هذا الأمر يفيدك ويفيدني ويفيد كل قارئ من ناحية أن الدنيا شيء، والآخرة شيء آخر لا يمكن أن يستوعبه أو يتخيله عقل. هذه حقيقة لابد من استيعابها وفهمها تمام الفهم. الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً، ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها.. إنه يوم ليس كأي يوم. ثقيلٌ على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد !


هكذا تبلغ الأمور يومئذ..

نسأل الله لنا ولكم العافية

وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.  

  

الخميس، 9 أكتوبر 2025

وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم

  


    ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، أي هجمة أولى حاسمة حازمة لا ثانية لها، تستأصل شأفتكم وخضراءكم، أو هكذا معنى الآية الكريمة، التي تبين لنا رغبة " الذين كفروا " وربما بعض الذين أسلموا، بخصوص أسلحة الفئة المؤمنة في كل زمان ومكان، كما الحاصل اليوم مع آخر جيب سني يقاوم أخبث عدو لهذه الأمة. هكذا هي رغبة العدو تجاه أسلحة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وهي لا شيء مقارنة بما لدى العدو من ترسانة حربية متنوعة، بل تكاد خزائنه لا تنفد بسبب ديمومة الدعم الأمريكي والغربي عموماً له.

 

لكن رغم التفاوت بين القوتين، الآية واضحة، والأمر الإلهي واضح

( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) .

 لماذا يأخذوا الحذر ومعه الأسلحة في الوقت نفسه يا رب؟

السبب كما في الآية أعلاه، أن هناك رغبة عميقة أكيدة لدى العدو في تجريد الفئة المؤمنة المقاومة له ولمشروعه من أسلحتها، الهجومية والدفاعية على حد سواء. العدو الكافر في كل زمان ومكان، يتطلع بلهفة شديدة للقضاء عليكم أيها المؤمنون المقاومون في أي فرصة تنشغلون عن أسلحتكم، سواء كان في أمر ديني أم دنيوي، فتراه يتربص بكم ليستغل فرصة أي انشغال عن قوتكم المادية تلك، ليهجم هو ومن معه من أهل الكفر جميعاً، هجمة مركزة شديدة تستأصلكم بشكل نهائي، أو هكذا رغبته وأمنياته في كل مكان وزمان.      

 

  الصهاينة بقيادة كبيرهم الذي علمهم الإجرام، لا يهمهم اليوم، وبعد دخول المعركة الجارية في غزة سنتها الثالثة، لا يهمهم كثيراً أسرى أو رهائن. إنّ هدفهم مزيد أراض، والتوسع شرقاً وغرباً، وحتى شمالاً وجنوباً، ولو أدى ذلكم التوسع إلى إهلاك كل الحرث والنسل الفلسطيني في قطاع غزة وبقية فلسطين المحتلة.


   سلاح حماس المتواضع مقارنة بما لدى العدو، هو حجر عثرة أمام استمرار سرقاته وتوسعاته بدعم أمريكي غربي لا يتوقف. ولأنه حجر عثرة، تجد أن هذا العدو الخبيث غير عابئ بأي بند من البنود العشرين في خطة المهووس بجائزة نوبل للسلام، سوى البند الذي يتحدث عن سلاح حماس، وكيفية نزعه أو تدميره مع البنية التحتية العسكرية للمقاومة.

 

 لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين

    لا أظن رجال المقاومة الشرفاء، العسكريين منهم والسياسيين، بالسذاجة تلك التي يتوقعها حاكم البيت الأبيض، ومجرم الحرب المطلوب للمحاكمة الدولية، ومن معهما من الشرق والغرب.  المقاومة أوعى من ذلك بكثير. رجال المقاومة الأشاوس يدركون أن أكسجين الحياة لهم ولحاضنتهم الشعبية، بعد التوكل على الله، هو هذا السلاح، مهما بدا متواضعاً أمام ترسانة العدو، وأن التنازل عنه جزئياً أو كلياً هو انتحار دون أدنى شك، فالأمثلة التاريخية أثبتت لهم أن هؤلاء المجرمين لا عهد لهم ولا أمان، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، أو هكذا المفترض أن يكون عليه المؤمن. 

 

  سلاح المقاومة، سلاح مبارك مؤثر لا نشك لحظة في ذلك، يستمد قوته وبأسه من قوة إيمان حامليه ومستخدميه بالله، فقد أرعب العدو، وفتك بجنوده ومصفحاته وآلياته، رغم قبابه الحديدية ودفاعاته الأرضية والجوية. هذا السلاح هو مقصد وغاية العدو وداعميه في أي مفاوضات جارية. إنه السلاح الذي يسعى القريب قبل البعيد لنزعه، أو دفع المقاومة بالانشغال عنه حيناً من الدهر، والاطمئنان إلى وعود وعهود الذئاب والثعالب، الذين يأتون على شكل دول ومؤسسات وأفراد !


الحذر واجب ومطلوب  

من هنا يتبين لنا كم هو تحذير القرآن واضح وهو يشرح الحالة التي تتكرر مع الفئة المؤمنة في كل زمان ومكان ( ود الذين كفروا لو تغـفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ). إنها أمنية ورغبة للعدو، قديمةٌ متجددة، وقد اقتضى التحذير منها بصيغة الأمر للجماعة المؤمنة ( وخذوا حذركم).


   إنّ مسألة الحذر وعدم ترك السلاح أو التغافل عنه، ليست سنّة مستحبة، أو فرض كفاية، إن قام بها البعض سقط الإثم عن الباقي.. لا، هاهنا الأمر يختلف، إنه واجب شرعي يشمل الجميع، وغير مسموح بأمر القرآن، أي تهاون مع القوة أو الأداة العملية التي تحفظ أمن وإيمان، وعزة وشرف الفئة المؤمنة وحاضنتهم الشعبية.


    غير مسموح للفئة المؤمنة ترك سلاحها، أو التغافل عنه، أو حتى ائتمان آخرين ولو من نفس الملة، على سلاحها، فالفرق شاسع بين الذين آمنوا والذين أسلموا.  ولا أظن مثل هذا الأمر بخاف على الفئة المؤمنة في غزة، التي لا أشك لحظة أنها ترى بنور الله وإلهام منه، تعينهم على سياسة وإدارة المواقف المتنوعة مع الذئاب واللئام من بني البشر من جهة، وينتشر أبطالها المجاهدين المرابطين بالميادين، يجاهدون بقوة الساعد والسلاح، يشدون أزر إخوانهم السياسيين ومساندة مواقفهم وآرائهم، من جهة أخرى.


   إنّ الحقوق والصلاحيات تُنتزع انتزاعاً في عالم الذئاب واللئام هذا الذي نعيشه، وشواهد التاريخ أكثر مما يمكن حصرها وذكرها في المساحة المحصورة هاهنا. وإنه مهما حاك العدو ومن معه ألاعيب ومؤامرات، فإنها وفق وعد إلهي، مرتدة عليهم بإذن الله عاجلاً أم آجلا ( ولا يحيق المكرُ السيء إلا بأهله ).