أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 9 أكتوبر 2025

وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم

  


    ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، أي هجمة أولى حاسمة حازمة لا ثانية لها، تستأصل شأفتكم وخضراءكم، أو هكذا معنى الآية الكريمة، التي تبين لنا رغبة " الذين كفروا " وربما بعض الذين أسلموا، بخصوص أسلحة الفئة المؤمنة في كل زمان ومكان، كما الحاصل اليوم مع آخر جيب سني يقاوم أخبث عدو لهذه الأمة. هكذا هي رغبة العدو تجاه أسلحة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وهي لا شيء مقارنة بما لدى العدو من ترسانة حربية متنوعة، بل تكاد خزائنه لا تنفد بسبب ديمومة الدعم الأمريكي والغربي عموماً له.

 

لكن رغم التفاوت بين القوتين، الآية واضحة، والأمر الإلهي واضح

( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) .

 لماذا يأخذوا الحذر ومعه الأسلحة في الوقت نفسه يا رب؟

السبب كما في الآية أعلاه، أن هناك رغبة عميقة أكيدة لدى العدو في تجريد الفئة المؤمنة المقاومة له ولمشروعه من أسلحتها، الهجومية والدفاعية على حد سواء. العدو الكافر في كل زمان ومكان، يتطلع بلهفة شديدة للقضاء عليكم أيها المؤمنون المقاومون في أي فرصة تنشغلون عن أسلحتكم، سواء كان في أمر ديني أم دنيوي، فتراه يتربص بكم ليستغل فرصة أي انشغال عن قوتكم المادية تلك، ليهجم هو ومن معه من أهل الكفر جميعاً، هجمة مركزة شديدة تستأصلكم بشكل نهائي، أو هكذا رغبته وأمنياته في كل مكان وزمان.      

 

  الصهاينة بقيادة كبيرهم الذي علمهم الإجرام، لا يهمهم اليوم، وبعد دخول المعركة الجارية في غزة سنتها الثالثة، لا يهمهم كثيراً أسرى أو رهائن. إنّ هدفهم مزيد أراض، والتوسع شرقاً وغرباً، وحتى شمالاً وجنوباً، ولو أدى ذلكم التوسع إلى إهلاك كل الحرث والنسل الفلسطيني في قطاع غزة وبقية فلسطين المحتلة.


   سلاح حماس المتواضع مقارنة بما لدى العدو، هو حجر عثرة أمام استمرار سرقاته وتوسعاته بدعم أمريكي غربي لا يتوقف. ولأنه حجر عثرة، تجد أن هذا العدو الخبيث غير عابئ بأي بند من البنود العشرين في خطة المهووس بجائزة نوبل للسلام، سوى البند الذي يتحدث عن سلاح حماس، وكيفية نزعه أو تدميره مع البنية التحتية العسكرية للمقاومة.

 

 لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين

    لا أظن رجال المقاومة الشرفاء، العسكريين منهم والسياسيين، بالسذاجة تلك التي يتوقعها حاكم البيت الأبيض، ومجرم الحرب المطلوب للمحاكمة الدولية، ومن معهما من الشرق والغرب.  المقاومة أوعى من ذلك بكثير. رجال المقاومة الأشاوس يدركون أن أكسجين الحياة لهم ولحاضنتهم الشعبية، بعد التوكل على الله، هو هذا السلاح، مهما بدا متواضعاً أمام ترسانة العدو، وأن التنازل عنه جزئياً أو كلياً هو انتحار دون أدنى شك، فالأمثلة التاريخية أثبتت لهم أن هؤلاء المجرمين لا عهد لهم ولا أمان، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، أو هكذا المفترض أن يكون عليه المؤمن. 

 

  سلاح المقاومة، سلاح مبارك مؤثر لا نشك لحظة في ذلك، يستمد قوته وبأسه من قوة إيمان حامليه ومستخدميه بالله، فقد أرعب العدو، وفتك بجنوده ومصفحاته وآلياته، رغم قبابه الحديدية ودفاعاته الأرضية والجوية. هذا السلاح هو مقصد وغاية العدو وداعميه في أي مفاوضات جارية. إنه السلاح الذي يسعى القريب قبل البعيد لنزعه، أو دفع المقاومة بالانشغال عنه حيناً من الدهر، والاطمئنان إلى وعود وعهود الذئاب والثعالب، الذين يأتون على شكل دول ومؤسسات وأفراد !


الحذر واجب ومطلوب  

من هنا يتبين لنا كم هو تحذير القرآن واضح وهو يشرح الحالة التي تتكرر مع الفئة المؤمنة في كل زمان ومكان ( ود الذين كفروا لو تغـفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ). إنها أمنية ورغبة للعدو، قديمةٌ متجددة، وقد اقتضى التحذير منها بصيغة الأمر للجماعة المؤمنة ( وخذوا حذركم).


   إنّ مسألة الحذر وعدم ترك السلاح أو التغافل عنه، ليست سنّة مستحبة، أو فرض كفاية، إن قام بها البعض سقط الإثم عن الباقي.. لا، هاهنا الأمر يختلف، إنه واجب شرعي يشمل الجميع، وغير مسموح بأمر القرآن، أي تهاون مع القوة أو الأداة العملية التي تحفظ أمن وإيمان، وعزة وشرف الفئة المؤمنة وحاضنتهم الشعبية.


    غير مسموح للفئة المؤمنة ترك سلاحها، أو التغافل عنه، أو حتى ائتمان آخرين ولو من نفس الملة، على سلاحها، فالفرق شاسع بين الذين آمنوا والذين أسلموا.  ولا أظن مثل هذا الأمر بخاف على الفئة المؤمنة في غزة، التي لا أشك لحظة أنها ترى بنور الله وإلهام منه، تعينهم على سياسة وإدارة المواقف المتنوعة مع الذئاب واللئام من بني البشر من جهة، وينتشر أبطالها المجاهدين المرابطين بالميادين، يجاهدون بقوة الساعد والسلاح، يشدون أزر إخوانهم السياسيين ومساندة مواقفهم وآرائهم، من جهة أخرى.


   إنّ الحقوق والصلاحيات تُنتزع انتزاعاً في عالم الذئاب واللئام هذا الذي نعيشه، وشواهد التاريخ أكثر مما يمكن حصرها وذكرها في المساحة المحصورة هاهنا. وإنه مهما حاك العدو ومن معه ألاعيب ومؤامرات، فإنها وفق وعد إلهي، مرتدة عليهم بإذن الله عاجلاً أم آجلا ( ولا يحيق المكرُ السيء إلا بأهله ).      

الخميس، 2 أكتوبر 2025

غـزة .. غرناطة العـصر

 

 
   إن تأملت حوادث التاريخ، ستجدها تتكرر بنفس السيناريوهات تقريباً، أو أحياناً بشكل تكاد تكون طبق الأصل من بعضها البعض، على رغم اختلاف الزمان والمكان والأشخاص، حتى انتشرت مقولة التاريخ يعيد نفسه. ولأن هذا التاريخ يعيد نفسه، أو أن أحداثه تتكرر بين حين وآخر، فمن المنطقي ألا تكون قراءة التاريخ ترفاً فكرياً، بل علماً يقدم الدرس تلو الآخر، والعظة بعد الأخرى. فما فائدة استحضار دروس التاريخ دون الاستفادة من سلبياتها، فنعمل على تجنبها، أو ايجابياتها فنعمل على الاستفادة منها، أو على أقل تقدير، تقليدها؟

   مناسبة المقدمة الموجزة هذه، هي الأحداث الجارية على ساحة غزة العـزة، التي ربما دفعت بكثيرين لمراجعة التاريخ ومن قبل ذلك آيات القرآن الكريم الكثيرة، ومحاولة فهم تفسيرات تلك الآيات، واستخلاص الدروس من حوادث التاريخ، ومحاولة اسقاطها على ما يحدث في غزة، وكيف يمكن الاستفادة من توجيهات القرآن في المحنة والأزمة الواقعة حالياً في غزة، وكذلك استثمار دروس التاريخ، لا سيما تاريخنا الممتد، وصراعاتنا مع الأعداء التقليدين من يهود ونصارى ومن على شاكلتهم..

  ما إن نتأمل حصار غزة الظالم والممتد لسنوات عديدة، حتى نتذكر حصار غرناطة في 1492 للميلاد، آخر قلاع الإسلام والمسلمين في بلاد الأندلس. تلكم الدولة العريقة الراقية التي عاشت ثمانية قرون، حتى أصابها ما أصابها ما أصابها بفعل آفة الفرقة والخلاف، أن تفككت إلى أكثر من عشرين دولة، كل دولة بما لديهم فرحون، بينما كان العدو المتربص في الجانب الآخر، يزداد قوة وبأساً، وتتجمع قواه من كل حدب وصوب، حتى تمت السيطرة على كل تلكم الدويلات بصورة وأخرى، وبقيت غرناطة كآخر معقل سني يحارب العدو، فيكون المصير هو الحصار لأشهر عديدة، حتى تأزمت الأمور بالداخل، واشتد الجوع والفقر وفقدان الأمن بين الناس.

 

غرناطة تستغيث ولا مجيب 

 

   لم تسقط غرناطة كأخواتها العشرين دولة من دويلات الأندلس بسهولة، بل قاومت وقاتلت وقدمت العديد من الشهداء، وصمدت في وجه غالب الأزمات الداخلية، حتى خارت القوى والعزائم بسبب وجود فئات مخذّلة مرجفة ومنافقة، كانت تستغل الأزمات الداخلية لمصالحها الخاصة، وبدعم من العدو الذي يحاصر المدينة. حيث لم تكن تلكم الفئات الخائنة تتردد في تقديم كل يد العون للعدو، مقابل حظوة أو مكرمة مستقبلية !

  أنهك الحصار غرناطة التي استغاثت بالجوار الإسلامي، لكن لا مغيث ولا معين. كلٌ انشغل بنفسه وخاف على مصالحه، وآثر عدم التدخل بين غرناطة والعدو الصليبي، لتواجه غرناطة قدرها بنفسها، وهذا ما حدث فعلاً، حيث استسلمت غرناطة وتم التوقيع على اتفاقيات ومواثيق يتم بموجبها تسليم المدينة للملك القشتالي، الذي كان يحلم هو وزوجته بالاحتفال بزواجهما في قصر الحمراء وهو ما كان فعلاً. وخرج من خرج من المسلمين، فيما بقى آخرون لكن في حياة ذليلة مهانة، وسقطت المدينة سريعاً، آخر حصون الإسلام والمسلمين.

   غرناطة القرن الحالي هي غزة المحاصرة. حيث أزمات الجوع والمرض وفقدان الأمن، وتخاذل العرب والمسلمين عن النصرة، مرددين العبارة القديمة ذاتها: نفسي نفسي، في ظل تواطؤ دولي، يقوده الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، المندفعة بفكر صهيوني يحلم بالتوسع كما كان العدو الصليبي يفعل في حروبه ضد دويلات المسلمين، والذي أسماها يومئذ بحروب الاسترداد، وهو المسمى ذاته الذي تستخدمه اليهودية المتصهينة ممثلة بالكيان الإسرائيلي، من أجل استرداد مملكة اليهود الممتدة من النيل إلى الفرات !  

 

اليوم بقيت آخر جيوب أهل السنة، وآخر حصن جهادي يدفع عن أرض إسلامية بعد أن ابتعد عنها القريب قبل الغريب، بل تدافع الإخوة الأعداء للتعاون مع المحتل المغتصب وداعميه، من أجل تصفية وإنهاء هذا الجيب، وهذه المقاومة، أو هذا الصداع المزمن في الدماغ العربي الكبير، فلعل هذا التعاون يكون جميلاً يمكن الرجوع إليه واستثماره في قادم الأيام !

  سقوط غزة لا قدر الله، تكملة لمسلسل سقوط الدولة العربية الكبيرة، التي وإن كانت اليوم أكثر من عشرين دولة كما كانت دويلات الأندلس، فليس مستبعداً أن تتضاعف وتتكاثر، فيما يتعملق العدو المحتل ويكبر، ويزداد حجماً وعدداً وعدة، لنعيش حقبة ذل ومهانة جديدة كتلك التي عاشها مسلمو الأندلس بسبب تفرقهم واختلافهم وصراعهم، بل وتحالفهم مع العدو المتربص ضد الأخ المسلم !

 

    خلاصة القول أن دروس التاريخ هي للتأمل، وأخذ العظة والعبرة. وأحسبُ أن تلك الدروس قد تم تأملها ودراستها واستثمارها من لدن مجاهدي غزة ، وجزء كبير من حاضنتهم الشعبية، فيما بقية العالم العربي والإسلامي في سبات أو غفلة عميقة،  وتكرار عجيب لأخطاء مسلمي الأندلس ومواقف الخذلان مع غرناطة، والتي أحسبها نتاج تغافلنا عن دروس التاريخ وتأملها، وأخذ الحيطة والحذر كي لا تتكرر..

   لكن لا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن استفادة ما قد تمت من تلكم الدروس. ولا أريد أن أكون متشائماً إن قلت: لا شيء يمنع من تكرار قصة الأندلس في عالمنا العربي تحديداً بعد عدد من السنين قادمة، ما لم يحدث حادث، يدفع الأمة للنهوض، ومواجهة خطط المتربصين بها. وهو أمل كل غيور، وكل من في قلبه ذرة كرامة، وإسلام وإيمان..