أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 2 أكتوبر 2025

غـزة .. غرناطة العـصر

 

 
   إن تأملت حوادث التاريخ، ستجدها تتكرر بنفس السيناريوهات تقريباً، أو أحياناً بشكل تكاد تكون طبق الأصل من بعضها البعض، على رغم اختلاف الزمان والمكان والأشخاص، حتى انتشرت مقولة التاريخ يعيد نفسه. ولأن هذا التاريخ يعيد نفسه، أو أن أحداثه تتكرر بين حين وآخر، فمن المنطقي ألا تكون قراءة التاريخ ترفاً فكرياً، بل علماً يقدم الدرس تلو الآخر، والعظة بعد الأخرى. فما فائدة استحضار دروس التاريخ دون الاستفادة من سلبياتها، فنعمل على تجنبها، أو ايجابياتها فنعمل على الاستفادة منها، أو على أقل تقدير، تقليدها؟

   مناسبة المقدمة الموجزة هذه، هي الأحداث الجارية على ساحة غزة العـزة، التي ربما دفعت بكثيرين لمراجعة التاريخ ومن قبل ذلك آيات القرآن الكريم الكثيرة، ومحاولة فهم تفسيرات تلك الآيات، واستخلاص الدروس من حوادث التاريخ، ومحاولة اسقاطها على ما يحدث في غزة، وكيف يمكن الاستفادة من توجيهات القرآن في المحنة والأزمة الواقعة حالياً في غزة، وكذلك استثمار دروس التاريخ، لا سيما تاريخنا الممتد، وصراعاتنا مع الأعداء التقليدين من يهود ونصارى ومن على شاكلتهم..

  ما إن نتأمل حصار غزة الظالم والممتد لسنوات عديدة، حتى نتذكر حصار غرناطة في 1492 للميلاد، آخر قلاع الإسلام والمسلمين في بلاد الأندلس. تلكم الدولة العريقة الراقية التي عاشت ثمانية قرون، حتى أصابها ما أصابها ما أصابها بفعل آفة الفرقة والخلاف، أن تفككت إلى أكثر من عشرين دولة، كل دولة بما لديهم فرحون، بينما كان العدو المتربص في الجانب الآخر، يزداد قوة وبأساً، وتتجمع قواه من كل حدب وصوب، حتى تمت السيطرة على كل تلكم الدويلات بصورة وأخرى، وبقيت غرناطة كآخر معقل سني يحارب العدو، فيكون المصير هو الحصار لأشهر عديدة، حتى تأزمت الأمور بالداخل، واشتد الجوع والفقر وفقدان الأمن بين الناس.

 

غرناطة تستغيث ولا مجيب 

 

   لم تسقط غرناطة كأخواتها العشرين دولة من دويلات الأندلس بسهولة، بل قاومت وقاتلت وقدمت العديد من الشهداء، وصمدت في وجه غالب الأزمات الداخلية، حتى خارت القوى والعزائم بسبب وجود فئات مخذّلة مرجفة ومنافقة، كانت تستغل الأزمات الداخلية لمصالحها الخاصة، وبدعم من العدو الذي يحاصر المدينة. حيث لم تكن تلكم الفئات الخائنة تتردد في تقديم كل يد العون للعدو، مقابل حظوة أو مكرمة مستقبلية !

  أنهك الحصار غرناطة التي استغاثت بالجوار الإسلامي، لكن لا مغيث ولا معين. كلٌ انشغل بنفسه وخاف على مصالحه، وآثر عدم التدخل بين غرناطة والعدو الصليبي، لتواجه غرناطة قدرها بنفسها، وهذا ما حدث فعلاً، حيث استسلمت غرناطة وتم التوقيع على اتفاقيات ومواثيق يتم بموجبها تسليم المدينة للملك القشتالي، الذي كان يحلم هو وزوجته بالاحتفال بزواجهما في قصر الحمراء وهو ما كان فعلاً. وخرج من خرج من المسلمين، فيما بقى آخرون لكن في حياة ذليلة مهانة، وسقطت المدينة سريعاً، آخر حصون الإسلام والمسلمين.

   غرناطة القرن الحالي هي غزة المحاصرة. حيث أزمات الجوع والمرض وفقدان الأمن، وتخاذل العرب والمسلمين عن النصرة، مرددين العبارة القديمة ذاتها: نفسي نفسي، في ظل تواطؤ دولي، يقوده الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، المندفعة بفكر صهيوني يحلم بالتوسع كما كان العدو الصليبي يفعل في حروبه ضد دويلات المسلمين، والذي أسماها يومئذ بحروب الاسترداد، وهو المسمى ذاته الذي تستخدمه اليهودية المتصهينة ممثلة بالكيان الإسرائيلي، من أجل استرداد مملكة اليهود الممتدة من النيل إلى الفرات !  

 

اليوم بقيت آخر جيوب أهل السنة، وآخر حصن جهادي يدفع عن أرض إسلامية بعد أن ابتعد عنها القريب قبل الغريب، بل تدافع الإخوة الأعداء للتعاون مع المحتل المغتصب وداعميه، من أجل تصفية وإنهاء هذا الجيب، وهذه المقاومة، أو هذا الصداع المزمن في الدماغ العربي الكبير، فلعل هذا التعاون يكون جميلاً يمكن الرجوع إليه واستثماره في قادم الأيام !

  سقوط غزة لا قدر الله، تكملة لمسلسل سقوط الدولة العربية الكبيرة، التي وإن كانت اليوم أكثر من عشرين دولة كما كانت دويلات الأندلس، فليس مستبعداً أن تتضاعف وتتكاثر، فيما يتعملق العدو المحتل ويكبر، ويزداد حجماً وعدداً وعدة، لنعيش حقبة ذل ومهانة جديدة كتلك التي عاشها مسلمو الأندلس بسبب تفرقهم واختلافهم وصراعهم، بل وتحالفهم مع العدو المتربص ضد الأخ المسلم !

 

    خلاصة القول أن دروس التاريخ هي للتأمل، وأخذ العظة والعبرة. وأحسبُ أن تلك الدروس قد تم تأملها ودراستها واستثمارها من لدن مجاهدي غزة ، وجزء كبير من حاضنتهم الشعبية، فيما بقية العالم العربي والإسلامي في سبات أو غفلة عميقة،  وتكرار عجيب لأخطاء مسلمي الأندلس ومواقف الخذلان مع غرناطة، والتي أحسبها نتاج تغافلنا عن دروس التاريخ وتأملها، وأخذ الحيطة والحذر كي لا تتكرر..

   لكن لا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن استفادة ما قد تمت من تلكم الدروس. ولا أريد أن أكون متشائماً إن قلت: لا شيء يمنع من تكرار قصة الأندلس في عالمنا العربي تحديداً بعد عدد من السنين قادمة، ما لم يحدث حادث، يدفع الأمة للنهوض، ومواجهة خطط المتربصين بها. وهو أمل كل غيور، وكل من في قلبه ذرة كرامة، وإسلام وإيمان..

ليست هناك تعليقات: