بداية وقبل الخوض في بعض تفصيلات الهجرة النبوية الشريفة التي تمت على مراحل عدة، لم تكن الهجرة في شهر الله المحرم كما يعتقد كثيرون. الهجرة كفكرة ومشروع، بدأ التجهيز والاستعداد له في محرم، لكن تمت واكتملت فعلياً بهجرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام مع الصديق أبي بكر، في الثاني عشر من ربيع الأول، كما تقول أغلب روايات المؤرخين.
شهر الله
المحرم تم اختياره في زمن الفاروق عمر رضي الله عنه حين كان الصحابة الكرام في نقاش
حول أهمية وضع تأريخ خاص بالمسلمين، كما عند الرومان والفرس وغيرهم. فتم اختيار
محرم لبداية السنة الهجرية، لأن فيه تم تداول فكرة الهجرة واتخاذ القرار، باعتبار الهجرة
من أعظم الحوادث في التاريخ الإسلامي، ونموذج للتفريق بين الحق والباطل.
مسألة
الهجرة لم تكن عملاً عشوائياً أو وليد اللحظة. إنما كانت أحد التكتيكات أو الوسائل
التي اتخذها الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى،
إن صح وجاز لنا التعبير، حيث كانت الهجرة ضمن خطة عشرية رسمها خلال وجوده بمكة، نفذ
منها مجموعة عمليات مهدت للهجرة، فكانت آخرها رحلته - صلى الله عليه وسلم – أو
لجوئه السياسي إلى يثرب.
اللجوء والاندماج
نعود
لمشهد الهجرة المباركة، لنجد أن الجهة المستقبلة والمرحبة باللاجئين أو المهاجرين
من مكة، لم تكن بقوة قريش العسكرية والاقتصادية والسياسية بالجزيرة العربية. فقد كانت
مدينة متواضعة اقتصادياً. شعبها يعيش على الزراعة، وبينهم خلافات وتصدعات لا تهدأ،
كانت تصل أحياناً لحد الاقتتال وسفك الدماء. وقد استفاد من ذلكم الوضع، شر البرية،
يهود يثرب، على رغم أنهم هم كانوا قبائل متناحرة أيضاً، لكنها كانت تتفق وتتحد ضد
الأوس والخزرج، وكانت تتسبب في أزمات مستمرة لهم. أي أن الوضع السياسي للمدينة أو
يثرب، كان مضطرباً غير مستقر، وإثارته في أي وقت لم تكن بتلك الصعوبة، خاصة مع
انضمام فئة جديدة هي المنافقون، إلى يهود يثرب أو المدينة فيما بعد.
الأنصار نموذج للنصرة
فقد ذكرنا
منذ البداية أن مشروع الهجرة تم التخطيط له منذ سنوات وبدقة عالية، وبالتالي مسألة
اقتصاد البلد وكيفية المساهمة فيه، كانت من ضمن المسائل التي بحثها النبي الكريم –
صلى الله عليه وسلم – ووضع الآليات المناسبة لدعم البلد وأهله، بل وعدم إطالة فترة
الاعتماد على الغير في تدبير أمور المعيشة اليومية وما بعدها.
أهل يثرب
من الأنصار، بايعوا النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – قبل الهجرة، على أن
يكونوا حماة له وللدين الجديد في المنشط والمكره، والسراء والضراء. أما وقد اكتظت
يثرب بالمهاجرين، وأصبح الوضع الاقتصادي أصعب من ذي قبل، فإنه يعني أن وقت الضراء
حل سريعاً.
لكن الأنصار
على دراية تامة بالتطورات، ووعدهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائم وراسخ
بالنفوس لا يمكن أن يتزعزع، على رغم أنه سيدخل في ذلك المشهد بعد قليل يهود يثرب
لتشويهه وخلط الحابل بالنابل، ومعهم من سيُطلق القرآن عليهم لفظ المنافقين، ليعمل
الفريقان عملهما في إثارة النزعات العنصرية وبث الكراهية في نفوس ضعاف الأنصار ضد
هؤلاء اللاجئين. منها: أنهم ما جاءوا إلا ليتقاسموا لقمة عيشهم مع أهل يثرب. ومنها
أيضاً، أنهم ربما جاءوا للسيطرة عليها بعد حين، وغيرها من أكاذيب اليهود
والمنافقين في كل زمان ومكان، كما هو الحاصل في بلدان تحتضن لاجئين من نفس الملة !
هجرة الأفكار والمشاعـر
هكذا كان
الأنصار الكرام. استعداد تام لاستقبال الأفكار والمشاعر والأحاسيس، بل والتفاعل
معها بصدق وإيمان، رغبة في الوصول إلى تجانس تام معها ومن يحملونها، وتكوين جسم
واحد متكامل بين المهاجر والداعم، أو كما نعرفهم في تراثنا بالأنصار، رضي الله
عنهم وأرضاهم.
هكذا هي ذكرى الهجرة. دروس وعبر لا تنتهي في كل مرة نتذاكرها ونتدارسها. وكيف تنتهي وقد كانت رحلة هادينا، وقد حمل الإسلام لنا دينا، فسلامُ الله على الهادي والكونُ يردد آمينا.