في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتشار المعلومة وسرعتها، ظهرت موجة مصاحبة لها هي ما تسمى بالمشاهير، بغض النظر عن المحتوى المقدم من لدنهم، وإن كان غالبه غث لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يزيد المتابع أو المقتدي بهم، تشتتاً فكرياً وخواء روحياً وغيرها من سلبيات لا أظنها خافية عليك أيها القارئ.
أقول: في مثل هذا الزمن، حيث غلبة مشاهير الخواء الفكري والروحي والثقافي على الساحة الإعلامية ومنصات التواصل، صارت الحاجة تزداد أكثر فأكثر إلى التوعية أولاً ومن ثم صناعة مشاهير بنفس الوسائل وعلى نفس المنصات والساحات، مع تنويع الطرق والأساليب، لإنتاج محتوى يليق بالإنسان ويثري فكره وثقافته.
أي
إنسان منا غالباً في حاجة إلى قدوة أو معيار على شكل إنسان في مرحلة من مراحل
حياته، كي يكون بمثابة منارة للاهتداء به والسير على دربه. وأحسبُ أن أي أحد منا،
لابد وأن في أعماق نفسه شخص ما يضعه كقدوة أو معيار، به يقوّم ويصحح تصرفاته
وسلوكه وأفعاله وأقواله..
اليوم بفعل تأثير وسائل الإعلام المتنوعة، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، صار مفهوم القدوة أو النموذج ليس كما عهدناه قبل جيل من الآن، بل تجد اليوم بفعل تلكم الوسائل والمنصات، وقد تحول لاعبو الكرة إلى قدوات، ومثلهم المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، وعارضي الأزياء والعارضات، وغيرهم كثيرين وكثيرات.
لكن
اللافت في المسألة أن هناك جهات عديدة على شكل مؤسسات وشركات بل حتى دول، هي من تقف
وراء انتشار ظاهرة المشاهير بصورة وأخرى، ودفعها بكل قوة من أجل تحويل أولئكم
المشاهير إلى قدوات لأطفالنا وشبابنا، الذين دخلوا هذا العالم المفتوح، المتسارعة
أحداثه وابتكاراته، دون زاد كاف من المعرفة الفكرية والثقافة الدينية، أو إن صح
التعبير، دون وعي كاف يحفظهم من سلبيات ومؤثرات اتباع أفكار ملوثة مشوشة تنتقل عبر
الانغماس في عالم المشاهير غير البريء.
أمة النماذج والقدوات
نحن أمة حباها الله بآلاف القدوات منذ أن ظهرت على هذه الأرض حتى يوم الناس هذا، والصالحة للاقتداء الفوري. إن تاريخنا مليء بالقدوات المختلفة، من قادة وفرسان، وعلماء ودعاة، وغيرهم من الصالحين والصالحات، الهادين المهديين.
نحن لا نفتقر إلى قدوات حتى يتهافت أبناؤنا على غثاء مشاهير اليوم، ولك أن تبحث وتقرأ في تاريخنا وتراثنا العظيم لتجد الآلاف المؤلفة من القدوات، بدءاً من القدوة الحسنة، نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، مروراً بصحابته الكرام، فالتابعون وتابع التابعين، ثم نماذج فذة ظهرت في عصور متتالية وصولاً إلى أيامنا هذه، التي لا تفتقر كذلك إلى القدوات الحسنة القابلة للاقتداء.
من
يعرف من شباب اليوم مثلاً أبي عبيدة الجراح أمين هذه الأمة، وسعد بن أبي وقاص، أو
سعد بن معاذ وخبيب بن عدي، أو الحسن البصري والشافعي، أو ابن تيمية وابن قيم
الجوزية، أو غيرهم من السلف والخلف كثير لا يتحمل المقام المحدود ها هنا لحصرهم
فضلاً عن ذكرهم؟ لن تجد سوى القليل من جيل
اليوم من يعرف تلك القامات والقدوات.
أبو عبيدة الإعلامي
حين ترى تلهف الكثيرين مثلاً لخطابات أبي عبيدة، الناطق الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، وتأثرهم بكلماته المنتقاة بدقة، وتقليد الأطفال له في طريقة حديثه وزيه العسكري، فإنما هو مؤشر إلى أن التأثير في الجيل الحالي من الأطفال والشباب، أمر ليس بالصعوبة التي يعتقد بها كثيرون منا، سواء عبر استحضار نماذج من ماضينا، أو صناعة نماذج جديدة من حاضرنا.
ها هو الرجل لا يفعل شيئاً غريباً أو مثيراً أكثر من التحدث إلينا بكلمات منتقاة كما أسلفنا، مع حركات قليلة جداً ليده اليمنى، لكنه مع ذلك استطاع لفت الأنظار، وحجز مكان له في ملايين القلوب. رجل ملثم بملابس عسكرية دون رتب أو نياشين مزيفة، يستحوذ على ألباب الملايين قبل أبصارهم حين يخرج متحدثاً عن آخر مستجدات عدوان الجيش الأكثر نذالة وخسة في العالم، وعن صمود وجرأة المقاومة في التصدي وإيلام العدو في الوقت نفسه.
أبو عبيدة، هو نموذج واحد ضمن عشرات
النماذج المرغوبة في صناعة المشاهير، إن صح وجاز لنا التعبير، الذين يستحقون
المتابعة بكل الطرق والوسائل. مشاهير تحمل رسائل وقيماً وطموحات راقية، لا مشاهير
الزيف والدجل، ناشرو الغثاء دون أدنى حياء أو خجل.
صناعة المشاهير
ماذا لو استثمرنا مثلاً هذا الحب والاعجاب بهذا الملثم من قبل جماهير هذه الأمة المتلهفة لأي انجاز يفتخر به، وربطنا بينه وبين أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح بصورة من الصور أو من نواحي أدب الحديث ورباطة الجأش وبث الأمل في النفوس، كما كان أمين الأمة يفعل؟
على شاكلة تلك المقارنة مثلاً، يتم استحضار نماذج أخرى وتعريف شباب الأمة بها ضمن برنامج توعوي منهجي، يتم استخدام أدوات العصر في ابراز النماذج، وتحويلهم لمشاهير تستحق الاقتداء، وبالتالي يمكن التصدي لحملات تشويه الذوق والمزاج والفكر الشبابي المسلم المستمرة عبر مشاهير فارغة مدعومة من مؤسسات وجهات لأهداف متنوعة، ليس من بينها بالطبع ما يصلح للأمة ولا شبابها.
المسألة إذن،
كخلاصة للحديث، تحتاج جهداً منظماً وفق منهج تربوي يستهدف الشباب قبل الكبار، يتم خلاله
استخدام الأدوات نفسها التي عند المعسكر الآخر، الذي لا يهدأ ليلاً ونهاراً في
تنفيذ ومتابعة برامج التأثير والاستحواذ على قلوب وألباب الشباب.
إنها معركة إعلامية فكرية لا تقل أهمية عن المعارك الأخرى، العسكرية منها والسياسية والاقتصادية.. والله بكل جميل كفيل، وهو دوماً حسبنا ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق