أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 5 ديسمبر 2024

الإنسان العجول اليؤوس

 


  

   جاء في تفسير جامع البيان للطبري أنه لما نفخ الله في آدم من روحه، أتت النفخة من قبَل رأسه، فجعل لا يجرى شيء منها في جسده، إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، حيث بقيت رجلاه. فلما كان بعد العصر، قال: يا ربّ عَجّل قبل الليل، فذلك قوله تعالى ( وكان الإنسان عجولا ).

   كانَ الإنْسانُ عَجُولا، أي ضَجِراً لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. أي أن الإنسان في وقت الضجر ربما يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استُجيب له في الشر كما يُستجاب له في الخير لهلك، كما جاء في تفسير الرازي، الذي أضاف بأن " الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يَقْدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور، غير متفحص عن حقائقها وأسرارها ".

   إذن خلاصة هذا الموضوع - لمن لا يحب الإطالة فيه ويرغب الانتقال إلى غيره - أن اليأس والعجلة من أبرز صفات بني البشر، بل ربما كثير من المشكلات والأزمات تأتي كنتيجة طبيعية لتلكم الصفات والطبائع البشرية.


ولكن لمن أراد المتابعة، أقول

بالتعلم والتدرب والاستمرار في العمل والسعي، مع عدم اليأس والقنوط واستعجال النتائج، يمكننا تحقيق الكثير من الأهداف والغايات السامية والنبيلة، بعد اليقين التام بأنه رغم العمل والسعي واتخاذ الأسباب، كلُ شيء بقدر.

الله تبارك وتعالى يصف الإنسان أنه يئوس قنوط ( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ). أي أنه يسأل الله دوام الصحة والعافية وسعة الرزق وغيرها من مباهج الدنيا وزينتها، حتى إذا ما نزلت به مشكلة في صحته أو ماله أو عياله أو مصدر رزقه، عاش الاكتئاب وخضع لمشاعر الإحباط والانهزام، ودخل في أجواء من اليأس والقنوط كأنه لم يذق نعمة من ذي قبل، ولم يسعد لحظة من لحظات حياته الفائتة، أو كأن الذي أنعم عليه ووسّع له في رزقه، وبارك في صحته وعياله، ليس هو من سيكشف السوء عنه إن دعاه. وهذا بالطبع سوء أدب مع الخالق، وسوء ظن واضح به وخلل عميق في الإيمان.

   الإنسان إذن مع عجزه في ضبط صفة اليأس والقنوط ، قد تتعقد أموره أكثر وتتشابك حين تداهمه صفات أخرى لا يقوم بضبطها سريعاً، وأبرزها استعجال الخير والنتائج، مع ما يترتب على ذاك النوع من الاستعجال من نتائج تكون على الأغلب سلبية، لا تحمل الكثير من الخير.


   حين تتأمل قوله تعالى ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) ترى أن الإنسان لا يستعجل الأمور الخيّرة فحسب، بل حتى السيئة، فهو إن غضب على ولده أو أهله أو خادمه أو مركبته أو أي شيء ذات صلة به، تجده يدعو عليهم بالسوء والشر. ولو أن الله يستجيب له كما هو الحال مع دعاء الخير، لهلك هذا الإنسان ومن يدعي عليه.

   بمعنى أكثر وضوحاً.. لو أن هذا اليئوس العجول يصبر بعض الشيء، ويمتلك زمام أموره ويسيطر على مشاعره المتنوعة قدر المستطاع، ويكون هو سيد قراره في أي موقف يدفعه إلى التهور والتعجل، فيضبط أعصابه كما تقول العامة، فإنما يكون قد سلك طريق خير لا غيره.. والأمر نفسه يتكرر حين يأتي ويستعجل نتائج عمله حتى لو اعتقد أنه عمل خير، فإن استعجال نتائج ذلكم الخير يأتي في نفس درجة من يستعجل بالدعاء على ما أغضبه.. النتيجة واحدة.


   زبدة الكلام.. عليك بالصبر في كل أمورك. إذ يكفيك اطمئناناً أن الله مع الصابرين. فهذا يدعوك لأن تصبر على جهالة وأذى سفهاء وجهّال البشر، وتصبر على آلام الفقدان والحرمان، أو غيرها من المكدرات جالبة الأحزان.

  هذه حياة كلها دروس وعبر. العاقل من يستفيد منها في تعديل مساره نحو الهدف الأسمى والأرقى أو الجائزة الكبرى في الآخرة. فاصبر وتصابر، وما صبرك إلا بالله. هكذا يُذكّرُ الله نبيه الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم. أي اصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله، كما يقول الطبري، وما صبرك يا محمد إن صبرت، إلا بمعونة الله وتوفيقه إياك.. فاللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين، ومن عبادك ( الذين  يستمعون القول فيتبعون أحسنه ).  

 

   

ليست هناك تعليقات: