أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأحد، 29 مايو 2022

الشذوذ وقبل أن يتعاظم أمره

 

   

   تذهلك قصص القرآن لاسيما مشاهد الأنبياء مع أقوامهم. وبحسب معايير اليوم، ستعتقد ربما للوهلة الأولى، أن الأقوام الغابرة في التاريخ، كانت السذاجة قد بلغت بهم مبلغاً لا يمكن تصورها. سذاجة في التفكير والسلوك، دفعت بهم إلى نهايات أليمة غير مسبوقة. فهل كانوا سذجاً فعلاً؟ وهل غابت الحكمة عنهم؟ 

   إن جئت تقـرأ في قصة لوط - عليه السلام - مع قومه، ستذهلك مشاهد عديدة فيها، لا سيما مشهد ردهم غير المنطقي على لوط – عليه السلام – وهو يدعوهم إلى عدم مخالفة الفطرة السليمة، فكان موقفهم القاطع الواضح ودون أدنى تردد أو خشية أو حياء، هو الفصل بينهم وبين لوط ومن معه، أي نفيهم وإخراجهم من القرية. لماذا؟ لأنهم أناسٌ يتطهرون ! هكذا بلغ بهم السفه، أن يطالبوا بنفي من يسعى لخيرهم وصلاحهم. وهكذا صار فعلاً.

   لم يختلف قوم لوط عما سبقوهم من القرون الأولى. كانوا على نفس النهج والفهم وإن بصور وأساليب متنوعة، لكن النتيجة واحدة كانت واحدة. قوم نوح يتهمون نبيهم الكريم بالضلالة ( إنا لنراك في ضلال مبين ) وبالمنطق نفسه اتهم قوم عاد نبيهم هود – عليه السلام – بالسفاهة والكذب ( إنا لنراك في سفاهةٍ وإنا لَنظُنك من الكاذبين ). ثم يتكرر المشهد مع قوم فرعون وهم يحرضون الفرعون ضد نبي الله موسى – عليه السلام – ويتهمونه بالفساد في الأرض ( أتذرُ موسى وقومَه ليُفسِدُوا في الأرضِ ويذَرَك وآلهتَك ) حتى صار توافق غريب بين مزاج الفرعون وقومه ضد موسى، ليتجرأ بعد ذلك ويعلن منتشياً، وهو يرى موقف قومه ودعمهم له ضد المفسدين – وهم هنا موسى وهارون ومن معهم - فقام وكأنما يطلب تفويضاً لمحاربتهم   ذروني أقتل موسى وليدعُ ربَّه إني أخاف أن يُبدل دينَكم أو أن يُظهرَ في الأرضِ الفساد ). هكذا بكل سهولة يتم توجيه تهمة الإفساد إلى أعظم المصلحين في زمنهم، موسى عليه السلام، ويطلب تفويضاً شعبياً وأمراً منهم ليقتل موسى، خشية أن يبدل معتقداتهم  !

المشاهد تتكرر

    المشاهد نفسها تتكرر عبر التاريخ بأشكال وأناس مختلفين، وثقافات مختلفة. لكن العجيب أن المفاهيم واحدة، لا تتغير عبر الزمان والمكان، أبرزها أن يصور الباطل نفسه كأحد المفاهيم، أنه الحق المبين، فيما المصلحون أو من يتضاد معه، مفسدون في الأرض بدعوى أنهم ( أناسٌ يتطهرون )  ! وهكذا نراهم اليوم أهل الشذوذ. يود أحدهم لو يتم نفي كل من يكون على خلاف توجهاتهم ونزواتهم ورغباتهم غير السوية، والسبب أنهم أناس يتطهرون، كما قال بذلك الأولون.

  كل قصص المصلحين مع المفسدين، إنما هي مشاهد من المعركة الأزلية بين الحق والباطل، منذ أن بدأت أولى المشاهد بين آدم عليه السلام وإبليس في الجنة، إلى أن انتقلت بعد ذلك إلى الأرض، لتستمر إلى يوم الناس هذا.  الباطل دوماً وأبداً يدرك تمام الإدراك أنه على غير هدى، وأن معركته مع الحق خاسرة نهاية المطاف، لكنه يعتبرها معركة ذات فصول عديدة، وكلما استطاع أن يكثر ويطيل من أمد تلك الفصول، كلما عاش فترة أطول وحافظ على مكاسبه لأمد أبعد. إنه يحاول بكل الطرق والأساليب، مستخدماً كل الأدوات الممكنة كي يحافظ على مكتسباته ونفوذه، حتى وإن دفعته الأمور لتشويه الحق وتصويره بأقبح الصور. لماذا؟ لأنها معركة بقاء، ومعركة صلاحيات ونفوذ.


إنهم أُناسٌ يتطهَّرون  

  أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون.. هكذا تبلغ الجرأة بعد حين من الوقت عند الباطل، ليعتبر المكان مكانه والقرية قريته والزمان زمانه، ومن يختلف معه يكون مصيره الطرد والنفي من قريته أو قمعه واعتقاله. ولو تراخى العالم أكثر في وجه دعوات الانفتاح على الشذوذ واعتبار ذلك أمراً طبيعياً لا يستدعي الانكار، فلن يكون غريباً الوصول إلى نقطة يقول الشاذون فيها بلسان الحال أو المقال: أخرجوا كل من ليس على مذهبنا اللاأخلاقي من مدننا وقرانا، فإنهم أناس يتطهرون. وهذا يفيد أن مواقف السابقين وكذلك اللاحقين، لم تكن سذاجة، إنما تُبنى مواقفهم، وكذلك كانت قديماً، على علم وإدراك لأفعالهم، ورغبتهم الواضحة في التصادم مع الفطرة السليمة. 

  أن تتنزه عن أفعال وسلوك الباطل بكل أنواعه، هو ذات التطهر الذي يقصده الباطل. هو يدرك أن ما عليه الحق وأهله، طهرٌ ونقاء وصواب، على عكس ما الباطل وأهله عليه. ولذلك تجدهما لا يبغيان ولا يمتزجان أبداً. ونتيجة لذلك، تجد مفهوم ( أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون ) يتكرر بصور مختلفة، وخاصة حين يعلوا شأن الباطل ويكون القرار بيده، حتى وإن كان لحين من الدهر لا يطول غالباً.

الإصلاح وتهمة التطهر

   من يحاول إصلاح فساد مالي، أو إداري، أو سلوكي، أو غير ذلك من صور الفساد في أي مجتمع أو أي بيئة، فالباطل متربص به وسيواجهه من فوره بتهمة التطهـر، وهو أن تسلك مسلكاً لا يعجب الباطل وأهله، فإن لم يتوقف الأمر عند ذاك الحد، سينتقل الباطل إلى خطوة ثانية أخيرة حاسمة، هي تقرير عقوبة الإخراج من القرية بصورة وأخرى.

   لكن رغم هذه الوحشية في التعامل مع الحق وأهله، فإن الجميل في مشاهد معركة الحق مع الباطل، أن النتيجة في النهاية محسومة بوعد إلهي (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). أي أن هذا الباطل ذاهب زائل لا يستمر. نعم، قد يكون له صولة وجولة إذا لم يقابله الحق بحججه وأدلته الدامغة، أو حين يكون الحق في أضعف حالاته. ولهذا تجد أن الباطل لا يروج، إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته. وأخشى أننا نعيش شيئاً من هذا الزمن، الذي أرجو ألا يكون في بدايته وألا يطول، ويعود الحق إلى ما يجب أن يكون عليه، بتكاتف أهله وزيادة الصلة بمصادر الحق. والله هو الحق، وهو أحق أن يُتّبع.  فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.   

                     

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم ٠٠٠الحمد لله اختصاصاحتي يبلغ الحمد منتهاه وهو حمده نفسه وهو الحميد ثم يصير الحمد ملكا له سبحانه وتعالي وهو أهل الحمد علي كل وجه واهل التقوي واهل المغفرة ٠٠٠تبارك الله رب العالمين٠والصلاةواللسلام علي خير الخلق ومعلم الناس الخير محمد عبد الله ورسوله
* من مأثور الدعاء (اللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه) أن يرينا الله فهذه نعمة وأن يرينا الحق فهذه نعمة اخري وأن نري الحق حقا فذلك جميل النعمة من الله وأن يرزقنا اتباعه فذلك من اكبر النعم (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) موسي عليه السلام قال ( رب أرني انظر اليك ) فلا رؤيةللحقيقة إلا من الله ولا رؤية للحق إلا منه ولا اتباع للحق إلا بإذنه والله يقول في النافقيي ( وتراهم ينظرون اليك وهم لا يبصرون) ٠٠