تنزل سورة القصص بمكة في وقت كانت القلة المؤمنة مع النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – بأمس الحاجة إلى أي عون مادي أو معنوي. تنزل السورة - كما قال المفسرون - والرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة. يطارده قومه، في مشهد هو نفسه الذي وقع لموسى عليه السلام. ولأن الدعم المادي لم يكن قد حان وقته بعد، فقد كان للدعم المعنوي دوره وأثره في تلك المرحلة من دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم . حيث تنزلت سور كاملة وآيات عديدة تثبّت الذين آمنوا. وقد كانت من تلك المثبتات المعينات على المواصلة والاستمرار في الدعوة، سورة القصص.
هي
سورة كأنما تراها وتسمع أحداثها بشخصياتها في صورة فنية غاية في الروعة والجمال.
تقرأ السورة مثلها مثل سورة يوسف، لا يمكنك التوقف حتى النهاية. فكيف تستطيع
التوقف والأحداث تلهب مشاعرك كلما قرأت أكثر، ووقع حدث ما ليتبعه آخر وثالث ورابع
حتى نهاية السورة، لتخرج في النهاية بروح معنوية عالية، لا يستشعرها إلا من سمع أو
قرأ أو عايش ظلماً من نوع ما، خاصة إن كانت القوة والغطرسة هما أساس ذاك الظلم..
وحتى لا نسهب في التفاصيل، لندخل السورة مباشرة..
منذ
الآيات الأولى يخبرنا القرآن عن ماهية قصة موسى مع فرعون. الأول ضعيف مظلوم، ومعه
ألوف مثله، شتت شملهم فرعون وجعلهم شيعا، يذبّح أبناءهم ويستحي نساءهم.. والثاني ظالم
متجبر، ومعه آله الذين كانوا على الطريق معه في الظلم والتجبر والطغيان.
لكن النهاية السعيدة ستكون للمظلوم، في إشارة لطيفة
تؤكد أن الظالم مهما تجبر وعلا وفسد في الأرض، فالنهاية ليست له، وأن العبرة دوماً
بالخواتيم.. ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين).
في
الآيات الخمس الأولى من سورة القصص، عرفنا القصة والشخصيات الرئيسية والجو العام،
بل والنهاية كذلك. ثم تبدأ التفاصيل التي تبين لك وتعطيك شحنات قوية من الإيمان، ملخصها
أن الظلم والظالمين، مهما بلغت قوتهم وبأسهم مادياً ومعنوياً عبر وسائلهم
المختلفة، الإعلامية والسياسية والمالية والأمنية، فإن هناك دوماً وأبداً قوة أعلى
هي من بيدها الأمور ، تفعل ما تشاء وقتما تشاء وأينما تشاء.
وإليك التفاصيل..
التوتر
والقلق والجزع والخوف كان قد بلغ بأم موسى مبلغاً لا يمكن وصفه بكلمات وعبارات.
مشاعر أم تحمل جنيناً تدري مسبقاً مصيره. إن كان ذكراً فمصيره الذبح على يد القوى
الأمنية التي كانت تتجسس على قوم موسى، تنفيذاً لأوامر الفرعون. وإن كانت أنثى، فإن
مصيرها الإذلال والعمل في خدمة فرعون وآله..
يولد موسى عليه السلام، وأمن فرعون بعدُ لم تبلّغهم مصادرهم بذلك، فتحتار أمه في تلكم الساعات. كيف تتصرف معه؟ إنه ميت ميت لا محالة. وهي في تلكم المشاعر غير القابلة للوصف بكلمات وعبارات، يوحي الله لها بصورة لم يوضح القرآن كيفيتها، لكنه وحي سكن وجدانها، وتحول إلى فعل يتجسد على الأرض. تضعه في سلة وتلقيه في اليم دون تردد (.. فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ).
إلهام من الله أن تلقي وليدها ولا تخاف من أي أذى، وأنه سيرجع إليها دون معرفة الكيفية، بل وأكثر من هذا أنه سيكون رسولا !! أمر عجيب. وليد لا حول له ولا قوة، تلقيه أمه في البحر، ليأخذه الماء إلى من كانت تخشاهم أم موسى. يأخذه الماء إلى آل فرعون أنفسهم، بل الأعجب إلى من أمر بقتل ذكور بني إسرائيل، الفرعون نفسه ! مشهد يبين لك أن هناك قوة مطلقة في هذا الكون، تفعل ما تشاء وبصورة لا يمكنك حتى تخيلها.. وبالطبع هذه المعاني لا يدركها إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
مشهد الفراق والحزن
كان مؤلماً لذاك المشهد، ولا يستشعره إلا أماً
فقدت وليدها أو أحد أبنائها. سيطر الحزن على فؤاد أم موسى الذي أصبح فارغا إلى
درجة لم تعد تتحمل وتصبر أكثر، حتى خطر على قلبها أن تخرج وتصيح بالناس أنها فقدت
وليدها، لولا أن ثبتها الله ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً، إن كادت لتبدي به،
لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) . وبدلاً من الخروج بنفسها، دفعت
بأخت موسى للقيام بمهمة التقصي والبحث، فوصلت بقدرة الله إليه، بعد أن تم الإعلان
عمن يمكنها القيام بأمر رضاعة طفل وليد يرفض أن يرضع من كل من تم استقدامهن لهذه
المهمة، فأسرعت إلى أمها تزف إليها الخبر، فكان ما كان من أمرها مع وليدها، وتحقق
لها وعد الله أمامها ( إنا رادوه إليك ).. لينتهي المشهد هنا ويبدأ القرآن ينقلنا
إلى الأمام لفترة لا تقل عن عشرين عاماً، حيث يعرض مشاهد فترة الشباب والاستواء
وحصول الحكمة، والأحداث التي جرت وخروج موسى من مصر إلى مدين وزواجه حتى تكليفه
بأمر الرسالة، ومواجهة الظلم والظالمين، وهي المشاهد التي ينتظرها كل مظلوم، يعزز
بمثلها إيمانه وعزيمته في مواجهة الظلم والظالمين.
تحدث
المواجهة بين موسى ومن معه، ويبدأ يتجمع حوله من الأتباع المؤمنين برسالته ودعوته،
لتبدأ القوة السماوية المطلقة بالوقوف هذه المرة مع المؤمنين المظلومين. على رغم أن
هؤلاء المظلومين كانوا قبل موسى يعيشون الوضع نفسه، بؤس وقهر وظلم وتجبر واقع
عليهم من فرعون وآله، فلماذا لم تقف القوة الإلهية معهم وتنصرهم؟
حين
كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، لم
تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة – كما يقول صاحب الظلال – فهم لم يكونوا يؤدون هذه
الضريبة إلا ذلاً واستكانة وخوفا. فأما حين استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا
بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب، وهم مرفوعو الرؤوس، يجهرون بكلمة الإيمان في وجه
فرعون دون تلجلج، ودون تحرج، ودون اتقاء التعذيب. فأما عند ذلك فقد تدخلت يد
القدرة لإدارة المعركة، وإعلان النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب..
هكذا
علم القرآن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الثبات وتحمل الأذى والصبر،
واتخاذ كل أسباب مقاومة الظلم والظالمين، حتى إذا نفذت وسائلهم المادية والمعنوية،
دون أدنى شك منهم في معية الله لهم ووعدهم بنصره ولو بعد حين، حينها فقط تتنزل
العناية الإلهية وتتدخل يد القدرة المطلقة لتدير معركة الحق والباطل، لترجح كفة
الحق وينهزم الباطل، الذي مهما علا وتجبر وشعر أنه الأقوى وبيده مقاليد الأمور، يفسد
ويتجبر ويسفك الحرث والنسل، إلا أنه مهزوم خائب لا محالة، ونهايته بائسة دون أدنى
ريب ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون ). والله بكل جميل كفيل وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق