الربيع العربي، هو الوصف الذي يتم تداوله الآن عالمياً، للإشارة إلى الثورات الفاعلة التي قامت أو التي ما زالت تتفاعل في عدد من بلدان العالم العربي، وأبهرت الشرق والغرب، بغض النظر عن نسب النجاحات التي تفاوتت من ثورة لأخرى. هذا الربيع ما زال يخيف أنظمة عربية أخرى، من أن يمتد ويتوسع أو تصل شراراته إليها بصورة أو بأخرى.
دول مجلس التعاون الخليجي تقع ضمن المساحات التي يمكن لتأثيرات هذا الربيع أن تصل إليها بشكل أو بآخر، والحكومات في المنظومة تدرك هذا، فمنها من قام بما يلزم للتعاطي مع إفرازات هذا الربيع، بشكل يمكنها من التوافق والسير معه بأقل ما يمكن من أضرار، ومنها من لم يستوعب بعد ما جرى ويجري في جغرافيات عربية ليست ببعيدة، وربما آخرون مطمئنون إلى أن هذا الربيع لن يصل إليهم لحسابات معينة، هم أدرى بها.
منظومة دول التعاون، بالطبع، ليست استثناءً من هذا الذي يجري، ولا يمكن اعتبارها بمأمن أو منأى عن الحاصل في بلدان عربية خمسة، توزعت ما بين الشرق والمغرب العربي. ما حدث في تلك الجغرافيات، ليس هناك ما يؤكد استحالة تكراره في جغرافيات عربية أخرى في العالم العربي الممتد من صنعاء إلى نواكشوط.
هل دول المنظومة الخليجية مهيأة للتعاطي الإيجابي مع إفرازات الربيع العربي؟ وهل قامت أو ستقوم بمبادرات استباقية تؤمن لها عدم الاصطدام بالسيل العربي الثوري القادم - لا محالة - إلى كل نقاط ومفاصل العالم العربي؟ وكيف لها أن تستقبل الربيع العربي برحابة صدر، وتتفاعل معه لتكون أنموذجاً لكيفية استثمار الأحداث العنيفة في مسائل الإصلاح والتنمية والبناء ؟
من استقراء سريع لأحداث ماضية، على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، يتبين أن منظومة مجلس التعاون هي رد فعل سريع على تهديد خارجي بالغ التأثير والخطورة، تمثل في الثورة الإيرانية التي قامت عام 1979م واستمرت ثلاثة أعوام فقط، ليظهر بالتوازي، تهديد آخر للمنظومة بعد أن ظهرت للحياة، وهي بعد طرية يافعة، وتمثل في حرب طاحنة ضروس على ضفاف الخليج بين العراق وإيران، دامت ثمانية أعوام عجاف، وانتهت باستسلام الأخيرة..
لكن السؤال: هل أفاد ظهور التهديدين دول المنظومة الخليجية لكي تعد العدة، لتكون تكتلاً ذا شان، له أهميته بين التكتلات العالمية الأخرى؟ الجواب بالنفي للأسف .. إذ لم تستفد دول التعاون من دروس الحرب بسبب غياب الرؤية الإستراتيجية الأمنية والسياسية للمنطقة، فلم تتعامل مع الحرب بشكل يحفظ لها الأمن، فمالت جهة طرف واحد وهو العراق، على أمل كبح جماح تهديدات الثورة الإيرانية، ولكن هل نجحت في الاستفادة من ذلك الميلان نحو العراق ؟
لم تمض سنتان على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 88، حتى بدأ يلوح في الأفق تهديد من جانب شط العرب، العراق، القوة العربية التي وصلت حداً باتت مخيفة وتحولت إلى تهديد حقيقي للجوار الخليجي. وبدأت تتفاعل مشكلة قديمة متجددة بين العراق والكويت، انتهت بكارثة عربية تمثلت في احتلال الكويت قائظ عام 1990، الأمر الذي فتح باب الخليج على مصراعيه للقوات الأمريكية تحديداً للدخول من أجل عدم الخروج!
انتهت الكارثة الثالثة في المنطقة، ودول المنظومة على ما هي عليه، لم تتحرك بالشكل المأمول لتستفيد دروساً مما حصل، لتتجنب كارثة أخرى تذهب بمقدرات المنطقة، ولكن لم يحدث من ذاك القبيل شيء يُذكر، حتى حلت مشكلة أخرى ستغير الكثير في المنطقة، وتمثلت في احتلال العراق وإنهاء وتفكيك قوة عربية، كان من الممكن استثمارها بشكل أفضل، لو أن العراق تجنب تهديد شريان العالم. هذا التهديد استدعى واشنطن لتضغط بكل ما أوتيت من قوة لانتهاز فرصة قد لا تتكرر، فكان ما كان عام 2003م، وفتحت واشنطن أبواب العراق على مصراعيها لإيران، لتختل الموازين مرة أخرى، لتجد دول التعاون نفسها في المربع الأول من جديد، وفي ظل الخشية من تعاظم نفوذ إيران في المنطقة.
استمرت منظومة التعاون في تقليديات إدارية روتينية تفصيلية، وغابت الرؤى الإستراتيجية في التعامل مع المشاهد والأحداث التي حلت بالمنطقة في عشرين عاماً، وصارت تراوح مكانها سنوات ثمان أخرى، حتى جاءت قاصمة الظهر لأنظمة، ما كان يتوقع أكثر المتشائمين أن تنهار كأبراج ورقية، وديكتاتوريات كانت أشبه بتماثيل من الملح ذابت في فترات قياسية غير مسبوقة في تاريخ ثورات العالم .
الربيع العربي الذي اجتاح أنظمة أمنية صارمة وقمعية في تونس وليبيا ومصر واليمن، والآن في سوريا، لا يبدو أنه سيقف في جغرافيات معينة. سيتحرك شرقاً وغرباً، والرابح من يتفهم طبيعة هذا الربيع، وكيف يسير، من أجل المواءمة والتوافق معه، لا التضاد والمعاكسة في التعامل، وأحسب أن دول منظومة التعاون عليها عبء كبير في فهم ما يجري قبل أن يفوت الأوان. لكن السؤال هو: كيف تتجنب دول مجلس التعاون حصول ما لا يُحمد عقباه بسبب السيل الثوري العربي المتحرك ؟
دول الخليج يمكنها تجنب ما حدث في دول ثورات الربيع العربي، إن هي مضت في طريق ترسيخ مفاهيم المشاركة الشعبية في القرارات وتحمل المسؤوليات، وفي ذلك تخفيف للكثير من الأعباء التي تتحملها الحكومات حالياً. ودول المجلس بعد عقود ثلاثة، أمام تحد كبير وفرصة لتعويض ما فات خلال العقود الماضية التي لم تنجح المنظومة، في حقيقة الأمر، في أن تثبت نفسها كتكتل له وضعه وشخصيته في العالم، سوى أنه تكتل يتبع سياسات القوة العظمى شبه الوحيدة في العالم، وهي الولايات المتحدة..
دول الخليج مطالبة بتعزيز مفهوم الولاء للدولة بالتراضي والمصلحة المتبادلة، بمعنى أن تقدم الدولة لمواطنيها الخدمات الأساسية المعروفة كالتعليم والصحة والأمن، مقابل أن يقوم المواطن بالمسؤوليات والواجبات الملقاة على عاتقه. أضف إلى ذلك، أهمية دعم إنشاء مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والمجالس البلدية المنتخبة بأكملها، وتساوي جميع المواطنين أمام القانون، وحرية إبداء الرأي عبر مؤسسات ووسائل الاتصال وفق أطر واضحة للجميع، لا قمع فيها ولا ترهيب، وكذلك فتح المجال لتأسيس أحزاب أو جمعيات سياسية لكافة القوى والأفكار في المجتمع، وأن تطرح رؤاها في كيفية تحقيق مصالح الوطن من دون تحجيم أو تهميش. وإضافة إلى ما سبق، تبرز ضرورة وجود قوانين أو تشريعات دستورية تكفل وتحمي الحريات الفردية ، التي هي أساس في الإبداع البشري، وعامل مهم للإنتاج الإيجابي الفاعل عند الفرد.
ومن المهم أن تعمل دول التعاون على مراجعة خططها واستراتيجيات التعامل مع القوى الدولية المختلفة، بحيث لا تضع البيض كله في سلة الأمريكان، فهناك قوى أخرى صاعدة، لابد من ربط مصالحها بها، كالصين مثلاً، وأهمية وضع حد للتهديد المستمر والمتكرر من الجانب الآخر لضفة الخليج. والناظر لوضع منظومة دول التعاون اليوم، بعد ثلاثة عقود من قيامها، سيجد كما لو أنها كانت في بداية الثمانينيات، عند بدايات الثورة الإيرانية .. في خشية حقيقية من تهديد خارجي!
الوضع لابد أن يتغير، ودول التعاون يمكنها القيام بأدوار أفضل، فالمنطقة ليست بحاجة - بعد كل هذه السنوات - للعيش وفق سيناريوهات تقوم على التهديد والوعيد، يستفيد منها طرف أو بضعة أطراف، هنا أو هناك. وأحسب أن للشعوب الخليجية دوراً مهماً في هذا الجانب، من خلال مؤتمر شعبي تجتمع النخب السياسية والفكرية فيه، لوضع تصور ينهي الحالة غير المرغوبة في المنطقة، وهذا أمر لا يجب أن يكون حكراً على الرسميين فقط الذين تكررت اجتماعاتهم وطالت نقاشاتهم من دون نتائج ملموسة على أرض الخليج التي تستحق وضعاً أفضل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق