أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 11 ديسمبر 2025

فرعـون لم يمت بعـد


لا شك أن كثرة قصص فرعون في آيات وسور القرآن لها مغزى، وأنّ تلكم الكثرة ليست قصصاً تاريخية تروى من باب العلم بحكايا وأخبار الأقدمين، إنما لتنبيه من يأتي بعدهم جيلاً بعد جيل أن تلك الأحداث ومن عاشوا فيها، هي دروس للتأمل والتفكر وأخذ العظة والعبرة، وهكذا هي قصص القرآن الكريم.

  حتى لا نطيل في التقديم..

  الفرعون الذي كان يهيمن على مقاليد الأمور في مصر منذ ما قبل ولادة موسى عليه السلام، ثم استمر في الحكم حتى شب موسى وصار نبياً رسولاً مطلوب منه مواجهة فرعون وبقية القصة المعروفة، هو من أقبح النماذج الظالمة في تاريخ البشرية.

  إنه إلى جانب الظلم، كان جباراً عنيداً فاسداً. ظلم نفسه قبل غيره حين ادعى الربوبية، ولم يقم أحد من قبله بهذا الفعل الظالم غير الواعي. واستمر في ارتكاب المظالم الواحدة تلو الأخرى. منها تعذيب الناس في مملكته، لا سيما بني إسرائيل، حيث قام بتسخير رجالهم للعمل في أدنى وأحقر الأعمال، وإرهاقهم وتعذيبهم وامتهان كرامتهم. ومنها استحياء الإسرائيليات عبر تسخيرهن لخدمته في قصوره وقصور آله ومن يدور في فلكه. ومنها الأمر بقتل أطفال بني إسرائيل الذكور، ليسحق بذلك سعادة الأهالي بأي وليد ذكر. ومنها تفريق بني إسرائيل إلى جماعات وشيع وفرق، وبذر الشقاق والخلاف والعداوات بينهم، تجسيداً لمبدأ فرّق تسد.

   قائمة الظلم عند فرعون كانت طويلة عريضة، شملت إلى جانب ما ذكرناه آنفاً،  تهديد أي أحد يستمع لموسى وأخيه هارون، سواء عبر لقاءات مباشرة معهما، أو عبر وسائل إعلامية أخرى من وسائل ذلك الزمان، حتى وصل الضغط الفرعوني السياسي والإعلامي على الناس أن منع مجرد التفكير في تبنّي رأي مخالف، أو دعوة إصلاحية خلاف ما يراه هو ويدعو إليه، وبالتالي ازدحمت واكتظت سجونه بعشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء، من المعارضين لفكره السياسي أولاً، والمعارضين لغطرسته وظلمه ثانياً في مجالات حياتية أخرى عديدة، خاصة بعد انتشار دعوة موسى عليه السلام شيئاً فشيئا، حتى وجّه بوصلته نحو موسى يهدده ( قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ).

   هكذا كان فرعون. لم يكن يريد أحداً الخروج عن رأيه ورؤيته ( ما أريكم إلا ما أرى ) وخاصة أنه بدأ يشعر باهتزاز ما  يحدث لكرسيه، وأن موسى وهارون هما السبب الرئيسي، بل هما مصدر ( الإرهاب ) الذي رأى أنه يجتاح المجتمع المصري حينذاك ! ولهذا لا نستغرب اليوم من تكرار مزاعم الطغاة ضد كل مصلح أو ناقد، ذلك أنهم جميعاً من المدرسة ذاتها خرجوا.

 مدرسة الظلم والطغيان.


   من هنا يمكنك ملاحظة سر تنوع أساليب القرآن في عرض قصص فرعون، والتركيز على جزئية أو جزئيات معينة في كل قصة. لكن ما يهمنا هاهنا أن السبب الرئيس لفساد وظلم فرعون، ليس لأنه كان على رأس الهرم الرئاسي الذي وصله بقدرة قادر، والذي يتيح له فعل ما يشاء دون مساءلة، أو كما هو في قاموس الطغاة، بل لأن غالب البيئة يومئذ فاسدة ظالمة، حتى من قبل أن يأتي الفرعون.

    إنّ النتيجة الطبيعية لانتشار الظلم بين الناس بعضهم بعضا، هي وصول ظالم وفاسد إلى سدة الحكم، يكرس الظلم والطغيان، ويقود الناس بنفس الكيفية التي يتعاملون بين بعضهم البعض. وكيفما تكونوا يولّى عليكم، كما قال بعض السلف.

   لو تتأمل ما كان في المجتمع الفرعوني في ذلكم الزمان، وما هو حاصل في كثير من المجتمعات في هذا الزمان، لوجدت تشابهاً في السلوكيات والأخلاقيات، وانتشار الظلم بين الناس بعضهم بعضا، وهذا ما يفسر لك بالتالي كثرة الطواغيت والحكام الظلمة، وليس من تفسير لهذا اقتنعت به يفسر وجود حكام ظلمة في مواقع مختلفة، سوى أنه عقوبة ابتدائية إلهية متدرجة وتحذيرية أيضاً، قبل أن يرسل إليهم رسولاً يخرجهم مما هم فيه - وذلك في عهد الأنبياء والمرسلين - فيما اليوم على شكل دعاة إصلاح ومصلحين صادقين، يدعون إلى بناء مجتمعات جديدة توحّد الله لا تشرك به أحداً، ولا يظلم أحدٌ أحدا.

   خلاصة ما يمكن القول في ختام هذا الحديث الموجز،  أن المغزى من المشاهد أو القصص القرآنية عن الظلم والظالمين، هو التفكر والتأمل، وأنّ من يظلم لا بد أن يُظلم، والظالمُ إن لم يجد من يقلّم أظافره ويضع له حداً، استبد وتوحّش وتغوّل، وأن من أعان ظالماً سُلّط عليه عاجلاً أم آجلا ( ولا يظلم ربك أحدا ).

 

لكن السؤال المطروح على مدارالتاريخ :

هل يرتدع الظالمون، كلٌ في موقعه ومجتمعه ؟

لا يبدو أن فرعون قد غرق ومات، أو استفاد من جاء بعده من دروس عواقب الظلم والطغيان، ولا يبدو الدرس واضحاً لكثيرين حتى يوم الناس هذا، ما يفسر لك أن فرعون وإن مات بدنياً، إلا أن فكره لا زال ساري المفعول وقابلاً للتطبيق في كل زمان ومكان، وإلا ما تفسيرك لتزايد عدد الظلمة والطغاة حول العالم ؟

 لابد أن خللاً ما في الوعي والإدراك أصاب كثيرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.

الخميس، 4 ديسمبر 2025

وقطّعـن أيديهن ..

 


أرادت زوجة عزيز مصر أن تراود فتاها عن نفسه، وهو في كنف الله سبحانه ورعايته، يتم إعداده وتأهيله ليكون نبياً من أنبياء الله الكرام بعد حين من الدهر قصير. يأبى يوسف عليه السلام الخضوع لها ولغريزته ورفض. لكن الخبر بقدرة قادر انتشر في المدينة وصار حديث المجالس، لاسيما مجالس الطبقة المخملية من النساء، حتى ضاقت زليخة، زوجة العزيز مما يُقال عنها في تلك المجالس، فدعت مجموعة من تلك النسوة لوليمة أو حفل نسائي مغلق أو محدود على عدد معين قليل، وجاءت بأطعمة متنوعة، كان لابد من وجود سكاكين للتعامل معها.    

  بعد أن اجتمعت أولئك النسوة الثرثارات، طلبت زوجة العزيز من يوسف - عليه السلام - الخروج عليهن في المجلس لتقديم واجب الضيافة، وهن منهمكات في تقطيع بعض الأطعمة أمامهن. وما إن دخل عليهن، انقطعن فجأة عن واقعهن، كما لو أن كل واحدة أخذت حقنة مخدر شبيهة بتلك التي يتلقاها المريض في غرفة العمليات الجراحية.

  تعطلت الأحاسيس والمشاعر عندهن للحظات، لكنها كانت كافية لتجرح كل واحدة منهن يدها بسكين، فتعود بعدها النسوة إلى عالم الواقع سريعاً، بعد أن انتهى المشهد بخروج يوسف من المجلس، وهو ربما لا يدري سر الصمت الذي خيم على المجلس، وذهول النسوة إلى درجة الانفصال عن الواقع للحظات، وحدوث مشهد تقطيع الأيدي وإحداث جروح بها، لكن في الوقت نفسه، تحقق لزليخة ما كانت ترمي إليه، وبقية التفاصيل المعروفة التي يمكن الرجوع إليها لمن أحب الاستزادة في القصة في التفاسير المتنوعة، إذ ليس المجال هاهنا لسرد القصة، بقدر رغبتنا الدخول عبر هذا المشهد الى عالم الألم وكيفية السيطرة عليه ..

  

  في عالم الطب، يتم السيطرة على الألم المادي في الجسم بأدوات تخدير محكمة الكمية، كتلك المستخدمة في العمليات الجراحية، أو لتخفيف أنواع أخرى من الألام كالصداع النصفي مثلاً، أو غيره من آلام معروفة.. أما الآلام النفسية، فالمسكنات والمهدئات غالباً لا تكون كيماويات بقدر ما هي إيمانيات، إذ تعتمد على يقين وايمان الشخص نفسه بدينه وعقيدته، بغض النظر ها هنا عن الدين أو المعتقد، وليس هذا حديثنا أيضاً، وإنما استطراد مفيد يناسب جو الحديث عن الآلام.

   إن أردنا فهم ما حدث بشكل علمي مبسط في مجلس زليخة، مع النسوة اللائي قطّعن وجرحن أيديهن، فيمكن القول ابتداء بأن الحدث استثنائي نادر جعل النسوة لا يشعرن بألم القطع أو الجرح بالسكين، رغم عدم استخدام أي دواء أو مخدر، وهذا الأمر يمكن أن يُفسَّر علمياً من زوايا عصبية، هرمونية، أو نفسية.

  منها اضطراب وراثي نادر يولد فيه الإنسان وهو غير قادر على الشعور بالألم مطلقاً، وهذا خطر جداً على الإنسان، لأنه قد يعرض نفسه لإصابات بليغة دون أن يشعر. وهذا احتمال مستبعد في حال النسوة.  

   الاحتمال الآخر كما يقول المشتغلون بعلم الأعصاب، أن انفصال الإنسان عن واقعه للحظات قصيرة، قد تتسبب حالات الصدمة العاطفية أو النفسية الشديدة في حدوث ذلكم الانفصال اللحظي القصير. والسبب أن في حالات الصدمة الشديدة، يقوم الجسم بإفراز كميات كبيرة من " الإندورفين " وهي مادة كيميائية طبيعية تُنتجها الغدة النخامية وتعمل كمسكّن للألم، وتأثيره مشابه لمخدر المورفين.  

  كما يقوم الجسم أثناء الصدمات العاطفية والنفسية الشديدة بإفراز هرمون آخر هو " الأدرينالين " الذي يزيد من شدة انتباه المرء وتركيزه نحو حدث واحد دون غيره في لحظات قصيرة مؤقتة. وهذه المواد ترتبط بمستقبلات الألم في الدماغ والنخاع الشوكي. أي أن ما يحدث أثناء الصدمة، أنه يتم  تعطيل مؤقت، أو تجاهل لعملية نقل إشارات الألم من العضو المصاب إلى مراكز الألام بالجسم، رغم وصولها فعلياً من الأعصاب !  



 إن عدنا لمشهد النسوة تارة أخرى بشكل عميق، وأراد أحدكم أن يسأل ويقول بشكل دقيق:

 ما الذي جرى في أدمغة النسوة لحظة خروج يوسف عليهن؟


ما جرى هو حدوث نشاط هائل ومفاجئ للدماغ العاطفي، الذي يتعامل مع المشاعر القوية مثل الخوف، أو الدهشة، أو الرغبة. حيث يرسل إشارات تحفّز الجسم عبر المواد الكيمياية التي ذكرناه آنفاً، وهما " الإندورفين والأدرينالين " من أجل أن يتحول الانتباه كلياً نحو المثير العاطفي، ويخفف الإحساس بالألم. ذلك أن الدماغ يعطي الأولوية في تلكم اللحظات للتعامل مع الحدث العاطفي، أو المشهد المثير الذي نتحدث عنه، بدل الألم اللحظي.

  عندما جرحت النسوة أيديهن، انتقلت الإشارات العصبية للألم من الجلد إلى الدماغ، لكن الدماغ في تلكم اللحظة كان مشغولاً جداً بمشهد مثير، لا يمكن أن يصرف انتباهه  إلى أي حدث آخر بالجسم ! لكن بعد لحظات، أو حين زال المثير بخروج يوسف - عليه السلام - من المجلس، هدأت أجسام النسوة وعاد التركيز إليها، وبدأ الدماغ من فوره في استقبال إشارات الألم، ولكن في وقت متأخر عن المعتاد، وهو ما يفسر فجائية الإحساس بألم القطع أو الجرح لدى النسوة، حيث شعرت كل واحدة منهن بحرقة الجرح وكأنه حدث للتو !!

   بعبارة أخرى مختصرة، دماغ كل امرأة في تلكم اللحظات فضّل أن يرى، لا أن يشعـر ! والحديث عن عالم الألم متنوع ومتشعب، قد نجد في قادم الأيام فرصة لسبر أغوار هذا العالم بإذن الله.. فاللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

الخميس، 20 نوفمبر 2025

حياة العـبيد والعـباد

 


 

 واحدة من صفات عباد الرحمن، هي الحلم والإحسان وعدم مقابلة السيء بمثله.. لماذا ؟

 لأنهم في طاعة الله جُل وقتهم، لا ينشغلون بتوافه وسفاسف الأمورحولهم ، وما أكثرها..

إنهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، تجدهم لا يتلفتون إلى حماقة حمقى وسفاهة سفهاء، كما يقول صاحب الظلال في تفسيره، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين، كما يصفهم القرآن ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ). 

لا يقولون ذلك عن ضعف، ولكن عن ترفّع؛ ولا عن عجز، إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة، بما هو أهم وأكرم وأرفع.


   كثيرون منا في زحمة هذه الحياة، وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تراهم يتأثرون لكلام هذا وذاك من الناس، فينشغل أحدهم بها أيما انشغال، ويتألم منها كثيراً وطويلاً، وتراه مشغول البال في كيفية رد الصاع صاعين !

   لكن من وفقه الله لأن يكون من عباد الرحمن، أو قريباً منهم، تجده وقد اعتبر حياته أغلى وأرقى من أن تنزل إلى تلكم المستويات الدنيا من التفاعل مع الآخرين، لأنه اختار منهج التغافل أو التجاهل في حال الإساءة إليه بقول أو فعل، ليقينه التام أن التغافل فعلٌ إرادي ناتج عن إحاطة وإلمام وإدراك بما يدور في البيئة المحيطة.

 وهذا يعني أن التغافل أقرب إلى أن يكون حكمة من الإنسان حين يختاره وسيلة للتعامل مع المسيئين في موقف ما، كقوله تعالى في آية أخرى ( وإذا سمعـوا اللغـو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ).

  

الفرق بين العـبيد والعـباد 

إذن عباد الرحمن كما جاء وصفهم في سورة الفرقان، ولأنهم عرفوا الله حق معرفته،  فعبدوه حق عبادته، كانت نتيجة تلك المعرفة وذلكم العمل، استحقاقهم درجة الانتساب إلى الله عز وجل، فهم عباد له وليسوا عبيدا، والفرق بين الكلمتين كبير. إنّ كلمة عباد تُضاف إلى لفظ الجلالة، كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله، فالذين يعبدون الله يُضافون للفظ الجلالة، فيزدادون تشريفاً، فيُقال : عباد الله أو عباد الرحمن. أما كلمة عبيد فهي تُطلق على عبيد الناس وعبيد الله معاً، وعادة تُضاف إلى الناس. والعبيد تشمل الكل، محسنهم ومسيئهم، كما ورد في سورة ق ( ما يُبدلُ القَولُ لدي وما أَنا بظلَّام للعـبيد ).


  إنّ كل بني البشرعبيدٌ لله في هذه الأرض. المسلم والنصراني واليهودي والمجوسي وكذلك الملحد الذي لا يؤمن أساساً بوجود الخالق ! العبيد يعاملهم الله في أمور أساسية حيوية وبشكل متساو لا يُظلم في كونه وملكه أحد، وتعالى الله وتنزه عن الظلم..

   تجده سبحانه يرزق البر والفاجر، والمؤمن والملحد. لا يقطع ماء ولا هواء عن الذين يجحدونه ويكفرونه ويشركون به، ولا غير ذلك من نعمه التي لا تُحصى. الكل سواء هاهنا، لكن في الحياة الأخرى القادمة ولو بعد حين، الأمور لن تكون كذلك، وبالطبع ستتغير..

    لكن ليس الكل يرضى أن يكون في درجة العبيد، بل تجد آخرين يبذلون الجهد للخروج من نطاق العبيد، والدخول إلى نطاق أو منزلة العباد، وليس أي عباد، بل عباد للرحمن. وحين يسمي الله تعالى الذين يتقربون إليه ويعبدونه حق عبادته بأنهم عباد للرحمن، فإنّ هذه التسمية أو هذا الوصف يمكن اعتباره جائزة دنيوية قبل تلكم الأخروية المنتظرة بإذنه تعالى، بل ربما هذه التسمية بشرى لعاقبة طيبة وجزاء عظيم في الآخرة.

 

الأمن والاستقرار الداخلي 

 ما يهمنا هاهنا هو كيف وصل عباد الرحمن الى ما هم عليه، كي يمدحهم ويذكرهم الخالق في قرآن يُتلى الى يوم الدين؟ لاشك إن السر يكمن في ذلكم الأمن أو الاستقرار الداخلي، الذي يأتي كنتاج طبيعي ليقين وإيمان بالله عميق، والذي به يغنى المرء، وبه تعتدل صحته، وبه أيضاً يحقق نجاحات مستمرة على شكل ترقيات ودرجات ومكافآت، وغيرها من صور النجاحات المادية والمعنوية في الدنيا قبل الآخرة..


   الأمن الداخلي الناتج عن عميق الصلة والإيمان بالله، بسببه نعيش في سلام، وإن كان ما حولنا في قلق وفوضى أو رعب وبلوى، وبالتالي نبدع وننتج بشكل ايجابي. إنّ الذي نسميه بالسلام أو الأمن الداخلي، هو الذي يدعـو عباد الرحمن الى عدم الخوض في جدال عقيم ومراء لا يفيد.. فقد أدرك هؤلاء أن هذه الحياة ليست حالة ثابتة تجعلهم مستنفرين طوال حياتهم لأي أمر، أو يتقاتلون ويتنافسون على مباهجها وجميل ما فيها، أو يتعاركون بسبب تفاهات وهوامش تسنزف طاقاتهم في الأقل أهمية عن المهم، أو المهم عن الأكثر أهمية.


    عباد الرحمن تراهم مدركين أن كل ما في هذه الحياة العاجلة من أحداث ووقائع لن تستمر، بل زائلة دون أدنى ريب، وبالتالي أي قلق أو توترات بشأنها ستزول أيضاً. ومن هذا الفهم العميق للحياة ومفرداتها وأدبياتها، يعيش عباد الرحمن في سلام عميق، منتظرين السلام الدائم من السلام سبحانه، وقد ظفروا بجائزتهم المنتظرة، جنة عرضها السموات والأرض، وما أغلاها من جائزة ( يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ).

فاللهم اجعلنا وإياكم منهم.

    

الخميس، 16 أكتوبر 2025

يوم لا ينفع مال ولا بنون

 


    إدراك وفهم عميقان لمعنى وحقيقة يوم القيامة، اليوم الذي تنقطع فيه كل الصلات والوشائج والعلاقات التي كانت بين البشر في الحياة الدنيا. فلا علاقات رحم، ولا قربى، ولا مصالح ولا غيرها. إنّ مثل هذا الإدراك، أوالفهم العميق لحقيقة القيامة، هو الذي دفع بخليل الرحمن عليه السلام، أن يسأل الله من ضمن ما سأله ( .. ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ). 

   لن ينفع المرء يوم القيامة ماله ولا نسبه ولا أصله ولا جاهه ولا أحد من أبنائه وأزواجه وأرحامه. لن ينفع المرء منا ذلك اليوم إلا قلبه، بشرط أن يأتي الله بقلب سليم موحد خالص من الشرك.. لكن مع ذلك، يمكن أن ينتفع الناس بأموالهم وأولادهم، كما يقول الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره ( تأويلات أهل السنة ) :" إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القُرَب، وعلّموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ، كقوله ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا )  أخبر أنهم إذا آمنوا، وتابوا، تقرّبهم أموالهم وأولادهم عنده ". 

ويضيف الماتريدي بأنه جائز أن يكون على غير ذلك، أي لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى الله بقلب سليم. والقلب السليم هو السالم من الشرك، أو السليم من الآفات والذنوب، والخالص لربه، لا يجعل لغيره فيه حقاً ولا نصيبا. وشَرَطَ فيه إتيانه ربه ما ذكر، ليعلم أنه ما لم يُقبض على السلامة والتوحيد، لا ينفعه ما كان منه من قبلُ من الطاعات، إذا لم يُقبض على التوحيد.

 

اهتم بنفسك أولاً    

هذا يدعو المرء منا إلى الاهتمام بالنفس في هذه الحياة الدنيا، وهذا أمر ليس فيه ما يعيب، بل واجب المحافظة على هذه النفس في هذه العاجلة، من الأمراض ومن شر كل ما يمكن أن يعيبها ويعطلها عن هدفها الوحيد، أو الغرض الأساسي من وجوده في هذه الحياة، وهو إعداد نفسه وإنقاذها من مشاهد الآخرة المتنوعة غير المألوفة.

    لا أحد يومئذ معي ومعك، أو ينفعني وينفعك، أو يشفع لي ويشفع لك كما الحال في الدنيا. فإننا ذلك اليوم، لن ينفعنا مال ولا بنون إلا إذا أتينا الله بقلوب سليمة. ومن هنا يأتي مفهوم الاهتمام بالنفس أولاً وقبل الغير في حياتنا الدنيا، لأننا محاسبون على ما نقوم به. إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. 

    في الدنيا قد تقصر وتهمل في واجباتك الأسرية أو الوظيفية أو غيرها من مهام حياتية متنوعة، لكن غالباً ستجد من يشفع لك في نهاية المطاف، ويخرجك من ورطة أو مشكلة قد تقع فيها بسبب ذلكم التقصير والإهمال، أو على أقل تقدير، قد تجد من يخفف عنك بعض ما أنت عليه من هموم ومشكلات ومنغصات دنيوية لا تنتهي ولا تتوقف.

 

حقيقة مطلوب فهمها    

لكن يوم التغابن، أو يوم المحاسبة، فقد تتوسل إلى ولدك أو زوجك أو أمك وأبيك أن يمنحوك بعض ما لديهم من حسنات، أو تطلب منهم أن ينصتوا إليك لحظات تشرح لهم وضعك البائس، وكلك أمل ورجاء أن ترق قلوبهم لك بعض الشيء لتخفيف بعض ما يمكن أن تواجهه، فلا تجد منهم آذاناً صاغية، أو قلوباً واعية، ليس لأنك لا تعني لهم شيئاً، بل لأنهم هم أنفسهم في حاجة إلى من يتكرم، أو يعطف عليهم ويأخذ بأيديهم مما هم فيه أيضاً ! وربما تراهم يهربون منك يمنة ويسرة، لا يلتفتون خلفهم، وهم الذين ربما كنت تبذل الغالي والنفيس من أجلهم في الحياة الدنيا !


   لكن رغم كل ذلك، فإن هذا الأمر يفيدك ويفيدني ويفيد كل قارئ من ناحية أن الدنيا شيء، والآخرة شيء آخر لا يمكن أن يستوعبه أو يتخيله عقل. هذه حقيقة لابد من استيعابها وفهمها تمام الفهم. الأمر هنالك سيختلف تماماً تماماً، ولا أظن أحداً في حياتنا الدنيا عنده تلك المقدرة على وصف ما سيكون حال الناس حينها.. إنه يوم ليس كأي يوم. ثقيلٌ على الكافرين غير يسير، تبلغ الأمور فيه من الشدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تُخاصم الروح الجسد !


هكذا تبلغ الأمور يومئذ..

نسأل الله لنا ولكم العافية

وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.  

  

الخميس، 9 أكتوبر 2025

وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم

  


    ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، أي هجمة أولى حاسمة حازمة لا ثانية لها، تستأصل شأفتكم وخضراءكم، أو هكذا معنى الآية الكريمة، التي تبين لنا رغبة " الذين كفروا " وربما بعض الذين أسلموا، بخصوص أسلحة الفئة المؤمنة في كل زمان ومكان، كما الحاصل اليوم مع آخر جيب سني يقاوم أخبث عدو لهذه الأمة. هكذا هي رغبة العدو تجاه أسلحة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وهي لا شيء مقارنة بما لدى العدو من ترسانة حربية متنوعة، بل تكاد خزائنه لا تنفد بسبب ديمومة الدعم الأمريكي والغربي عموماً له.

 

لكن رغم التفاوت بين القوتين، الآية واضحة، والأمر الإلهي واضح

( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) .

 لماذا يأخذوا الحذر ومعه الأسلحة في الوقت نفسه يا رب؟

السبب كما في الآية أعلاه، أن هناك رغبة عميقة أكيدة لدى العدو في تجريد الفئة المؤمنة المقاومة له ولمشروعه من أسلحتها، الهجومية والدفاعية على حد سواء. العدو الكافر في كل زمان ومكان، يتطلع بلهفة شديدة للقضاء عليكم أيها المؤمنون المقاومون في أي فرصة تنشغلون عن أسلحتكم، سواء كان في أمر ديني أم دنيوي، فتراه يتربص بكم ليستغل فرصة أي انشغال عن قوتكم المادية تلك، ليهجم هو ومن معه من أهل الكفر جميعاً، هجمة مركزة شديدة تستأصلكم بشكل نهائي، أو هكذا رغبته وأمنياته في كل مكان وزمان.      

 

  الصهاينة بقيادة كبيرهم الذي علمهم الإجرام، لا يهمهم اليوم، وبعد دخول المعركة الجارية في غزة سنتها الثالثة، لا يهمهم كثيراً أسرى أو رهائن. إنّ هدفهم مزيد أراض، والتوسع شرقاً وغرباً، وحتى شمالاً وجنوباً، ولو أدى ذلكم التوسع إلى إهلاك كل الحرث والنسل الفلسطيني في قطاع غزة وبقية فلسطين المحتلة.


   سلاح حماس المتواضع مقارنة بما لدى العدو، هو حجر عثرة أمام استمرار سرقاته وتوسعاته بدعم أمريكي غربي لا يتوقف. ولأنه حجر عثرة، تجد أن هذا العدو الخبيث غير عابئ بأي بند من البنود العشرين في خطة المهووس بجائزة نوبل للسلام، سوى البند الذي يتحدث عن سلاح حماس، وكيفية نزعه أو تدميره مع البنية التحتية العسكرية للمقاومة.

 

 لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين

    لا أظن رجال المقاومة الشرفاء، العسكريين منهم والسياسيين، بالسذاجة تلك التي يتوقعها حاكم البيت الأبيض، ومجرم الحرب المطلوب للمحاكمة الدولية، ومن معهما من الشرق والغرب.  المقاومة أوعى من ذلك بكثير. رجال المقاومة الأشاوس يدركون أن أكسجين الحياة لهم ولحاضنتهم الشعبية، بعد التوكل على الله، هو هذا السلاح، مهما بدا متواضعاً أمام ترسانة العدو، وأن التنازل عنه جزئياً أو كلياً هو انتحار دون أدنى شك، فالأمثلة التاريخية أثبتت لهم أن هؤلاء المجرمين لا عهد لهم ولا أمان، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، أو هكذا المفترض أن يكون عليه المؤمن. 

 

  سلاح المقاومة، سلاح مبارك مؤثر لا نشك لحظة في ذلك، يستمد قوته وبأسه من قوة إيمان حامليه ومستخدميه بالله، فقد أرعب العدو، وفتك بجنوده ومصفحاته وآلياته، رغم قبابه الحديدية ودفاعاته الأرضية والجوية. هذا السلاح هو مقصد وغاية العدو وداعميه في أي مفاوضات جارية. إنه السلاح الذي يسعى القريب قبل البعيد لنزعه، أو دفع المقاومة بالانشغال عنه حيناً من الدهر، والاطمئنان إلى وعود وعهود الذئاب والثعالب، الذين يأتون على شكل دول ومؤسسات وأفراد !


الحذر واجب ومطلوب  

من هنا يتبين لنا كم هو تحذير القرآن واضح وهو يشرح الحالة التي تتكرر مع الفئة المؤمنة في كل زمان ومكان ( ود الذين كفروا لو تغـفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ). إنها أمنية ورغبة للعدو، قديمةٌ متجددة، وقد اقتضى التحذير منها بصيغة الأمر للجماعة المؤمنة ( وخذوا حذركم).


   إنّ مسألة الحذر وعدم ترك السلاح أو التغافل عنه، ليست سنّة مستحبة، أو فرض كفاية، إن قام بها البعض سقط الإثم عن الباقي.. لا، هاهنا الأمر يختلف، إنه واجب شرعي يشمل الجميع، وغير مسموح بأمر القرآن، أي تهاون مع القوة أو الأداة العملية التي تحفظ أمن وإيمان، وعزة وشرف الفئة المؤمنة وحاضنتهم الشعبية.


    غير مسموح للفئة المؤمنة ترك سلاحها، أو التغافل عنه، أو حتى ائتمان آخرين ولو من نفس الملة، على سلاحها، فالفرق شاسع بين الذين آمنوا والذين أسلموا.  ولا أظن مثل هذا الأمر بخاف على الفئة المؤمنة في غزة، التي لا أشك لحظة أنها ترى بنور الله وإلهام منه، تعينهم على سياسة وإدارة المواقف المتنوعة مع الذئاب واللئام من بني البشر من جهة، وينتشر أبطالها المجاهدين المرابطين بالميادين، يجاهدون بقوة الساعد والسلاح، يشدون أزر إخوانهم السياسيين ومساندة مواقفهم وآرائهم، من جهة أخرى.


   إنّ الحقوق والصلاحيات تُنتزع انتزاعاً في عالم الذئاب واللئام هذا الذي نعيشه، وشواهد التاريخ أكثر مما يمكن حصرها وذكرها في المساحة المحصورة هاهنا. وإنه مهما حاك العدو ومن معه ألاعيب ومؤامرات، فإنها وفق وعد إلهي، مرتدة عليهم بإذن الله عاجلاً أم آجلا ( ولا يحيق المكرُ السيء إلا بأهله ).      

الخميس، 2 أكتوبر 2025

غـزة .. غرناطة العـصر

 

 
   إن تأملت حوادث التاريخ، ستجدها تتكرر بنفس السيناريوهات تقريباً، أو أحياناً بشكل تكاد تكون طبق الأصل من بعضها البعض، على رغم اختلاف الزمان والمكان والأشخاص، حتى انتشرت مقولة التاريخ يعيد نفسه. ولأن هذا التاريخ يعيد نفسه، أو أن أحداثه تتكرر بين حين وآخر، فمن المنطقي ألا تكون قراءة التاريخ ترفاً فكرياً، بل علماً يقدم الدرس تلو الآخر، والعظة بعد الأخرى. فما فائدة استحضار دروس التاريخ دون الاستفادة من سلبياتها، فنعمل على تجنبها، أو ايجابياتها فنعمل على الاستفادة منها، أو على أقل تقدير، تقليدها؟

   مناسبة المقدمة الموجزة هذه، هي الأحداث الجارية على ساحة غزة العـزة، التي ربما دفعت بكثيرين لمراجعة التاريخ ومن قبل ذلك آيات القرآن الكريم الكثيرة، ومحاولة فهم تفسيرات تلك الآيات، واستخلاص الدروس من حوادث التاريخ، ومحاولة اسقاطها على ما يحدث في غزة، وكيف يمكن الاستفادة من توجيهات القرآن في المحنة والأزمة الواقعة حالياً في غزة، وكذلك استثمار دروس التاريخ، لا سيما تاريخنا الممتد، وصراعاتنا مع الأعداء التقليدين من يهود ونصارى ومن على شاكلتهم..

  ما إن نتأمل حصار غزة الظالم والممتد لسنوات عديدة، حتى نتذكر حصار غرناطة في 1492 للميلاد، آخر قلاع الإسلام والمسلمين في بلاد الأندلس. تلكم الدولة العريقة الراقية التي عاشت ثمانية قرون، حتى أصابها ما أصابها ما أصابها بفعل آفة الفرقة والخلاف، أن تفككت إلى أكثر من عشرين دولة، كل دولة بما لديهم فرحون، بينما كان العدو المتربص في الجانب الآخر، يزداد قوة وبأساً، وتتجمع قواه من كل حدب وصوب، حتى تمت السيطرة على كل تلكم الدويلات بصورة وأخرى، وبقيت غرناطة كآخر معقل سني يحارب العدو، فيكون المصير هو الحصار لأشهر عديدة، حتى تأزمت الأمور بالداخل، واشتد الجوع والفقر وفقدان الأمن بين الناس.

 

غرناطة تستغيث ولا مجيب 

 

   لم تسقط غرناطة كأخواتها العشرين دولة من دويلات الأندلس بسهولة، بل قاومت وقاتلت وقدمت العديد من الشهداء، وصمدت في وجه غالب الأزمات الداخلية، حتى خارت القوى والعزائم بسبب وجود فئات مخذّلة مرجفة ومنافقة، كانت تستغل الأزمات الداخلية لمصالحها الخاصة، وبدعم من العدو الذي يحاصر المدينة. حيث لم تكن تلكم الفئات الخائنة تتردد في تقديم كل يد العون للعدو، مقابل حظوة أو مكرمة مستقبلية !

  أنهك الحصار غرناطة التي استغاثت بالجوار الإسلامي، لكن لا مغيث ولا معين. كلٌ انشغل بنفسه وخاف على مصالحه، وآثر عدم التدخل بين غرناطة والعدو الصليبي، لتواجه غرناطة قدرها بنفسها، وهذا ما حدث فعلاً، حيث استسلمت غرناطة وتم التوقيع على اتفاقيات ومواثيق يتم بموجبها تسليم المدينة للملك القشتالي، الذي كان يحلم هو وزوجته بالاحتفال بزواجهما في قصر الحمراء وهو ما كان فعلاً. وخرج من خرج من المسلمين، فيما بقى آخرون لكن في حياة ذليلة مهانة، وسقطت المدينة سريعاً، آخر حصون الإسلام والمسلمين.

   غرناطة القرن الحالي هي غزة المحاصرة. حيث أزمات الجوع والمرض وفقدان الأمن، وتخاذل العرب والمسلمين عن النصرة، مرددين العبارة القديمة ذاتها: نفسي نفسي، في ظل تواطؤ دولي، يقوده الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، المندفعة بفكر صهيوني يحلم بالتوسع كما كان العدو الصليبي يفعل في حروبه ضد دويلات المسلمين، والذي أسماها يومئذ بحروب الاسترداد، وهو المسمى ذاته الذي تستخدمه اليهودية المتصهينة ممثلة بالكيان الإسرائيلي، من أجل استرداد مملكة اليهود الممتدة من النيل إلى الفرات !  

 

اليوم بقيت آخر جيوب أهل السنة، وآخر حصن جهادي يدفع عن أرض إسلامية بعد أن ابتعد عنها القريب قبل الغريب، بل تدافع الإخوة الأعداء للتعاون مع المحتل المغتصب وداعميه، من أجل تصفية وإنهاء هذا الجيب، وهذه المقاومة، أو هذا الصداع المزمن في الدماغ العربي الكبير، فلعل هذا التعاون يكون جميلاً يمكن الرجوع إليه واستثماره في قادم الأيام !

  سقوط غزة لا قدر الله، تكملة لمسلسل سقوط الدولة العربية الكبيرة، التي وإن كانت اليوم أكثر من عشرين دولة كما كانت دويلات الأندلس، فليس مستبعداً أن تتضاعف وتتكاثر، فيما يتعملق العدو المحتل ويكبر، ويزداد حجماً وعدداً وعدة، لنعيش حقبة ذل ومهانة جديدة كتلك التي عاشها مسلمو الأندلس بسبب تفرقهم واختلافهم وصراعهم، بل وتحالفهم مع العدو المتربص ضد الأخ المسلم !

 

    خلاصة القول أن دروس التاريخ هي للتأمل، وأخذ العظة والعبرة. وأحسبُ أن تلك الدروس قد تم تأملها ودراستها واستثمارها من لدن مجاهدي غزة ، وجزء كبير من حاضنتهم الشعبية، فيما بقية العالم العربي والإسلامي في سبات أو غفلة عميقة،  وتكرار عجيب لأخطاء مسلمي الأندلس ومواقف الخذلان مع غرناطة، والتي أحسبها نتاج تغافلنا عن دروس التاريخ وتأملها، وأخذ الحيطة والحذر كي لا تتكرر..

   لكن لا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن استفادة ما قد تمت من تلكم الدروس. ولا أريد أن أكون متشائماً إن قلت: لا شيء يمنع من تكرار قصة الأندلس في عالمنا العربي تحديداً بعد عدد من السنين قادمة، ما لم يحدث حادث، يدفع الأمة للنهوض، ومواجهة خطط المتربصين بها. وهو أمل كل غيور، وكل من في قلبه ذرة كرامة، وإسلام وإيمان..