أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 21 يوليو 2022

الجماهير حين تغضب

 

 
أغلبنا ربما شاهد قيام الجماهير السريلانكية الغاضبة بمحاصرة القصر الرئاسي الأسبوع الفائت، احتجاجاً على تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد ووصول الدولة إلى حافة الإفلاس، إن لم تكن أفلست فعلياً، حتى اضطر الرئيس وبعض وزرائه للهرب، كنتيجة حتمية لأي قيادة فاسدة.


   الجماهير الغاضبة أو الثورات الشعبية، قوة هائلة ذات قدرة على التغيير لو أنها اندفعت باتجاه صحيح نحو الهدف. أي تسير نحو هدف محدد مع قيادة واعية راشدة، تعرف أولاً معنى حشد الجماهير وتوجيهها نحو تحقيق هدف معين باستخدام القوة الهائلة الكامنة في تلك الجماهير، وتعرف ثانياً كيفية استنهاض وتوجيه تلك القوى الكامنة في الوقت المناسب، مع مهارة وقدرة تلك القيادة على ضبط وربط تلك الحشود حتى الوصول إلى الغاية المنشودة، دون أن تتشرذم تلك الحشود، ويحصل ما لا يُحمد عقباه.   

  لكن الكارثة تقع لو أن الحشود الجماهيرية حادت عن الطريق، وضلت أو تم تضليلها، أو أضاعت الهدف الأساسي من هيجانها وثورتها. إذ ستجد تلك الجماهير نفسها وقد عادت إلى المربع الأول، وكأنك يا بوزيد ما غزيت – كما تقول العامة – ولعل هذا هو ما يحدث في كثير من الانتفاضات حول العالم التي لا تستمر إلا أياماً ثم تذبل وتختفي، كأنما هي بركان يفور لدقائق معدودة، يلقي بحممه في السماء ثم يهدأ، ولا تجد أحداً يستفيد من تلك الفورة وتلكم الحمم بصورة تعود بالنفع على الصالح العام. 


 ليس كل حشد ثورة


  من بحثوا فلسفة الثورات وعلم نفس الجماهير، وجدوا أن الثورة يمكن أن تطلق على حركة شعبية تحدث تغييراً ونقلة نوعية في المجتمع، تشمل الجانب السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الأمني وغيرها من جوانب. بمعنى آخر، يمكن أن نطلق على أي فوران شعبي أنه ثورة، إذا اشترك فيه غالب قطاعات المجتمع، وهدف الجميع واحد أو محدد وهو إزالة نظام بكامله، وليس شخوصاً بعينهم.

 

   لكن إن حدث تغيير جزئي في المجتمع، كتغيير رئيس النظام مثلاً أو تغيير حكومة، مع بقاء بقية أنظمة الدولة كما هي، فهذا التغيير لا يمكن أن يطلق عليه ثورة، بقدر ما هو انقلاب أو انتفاضة على وضع معين، أو أقرب في التعريف إلى الاحتجاج لكن بزخم ثوري. وهذا عادة يكون عمره قصيرا، ولهذا لا يمكن اعتباره ثورة. لماذا؟ لأن ذاك الفعل، سواء اتفقنا على تسميته انقلاباً أو احتجاجاً، وإن أحدث تغييراً جزئياً في المجتمع، إلا أنه يبقى محدود الأثر إن توقف عند ذلك الحد من التغيير. بمعنى أنه لا توجد أي ضمانات أن تأثيراته ستمتد لتغيير تام في البلاد، وبالتالي يحتاج الأمر إلى موجة ثانية وثالثة ورابعة وربما عاشرة من العمل الجماهيري ذات الزخم الثوري، حتى يستحق أن نطلق عليه ثورة.

 

انقلاب مكة نموذج للتغيير الصحيح


    أبرز الأمثلة التي دوماً نتحدث عنه في مثل هذه القضايا، ذلكم التغيير الهائل الذي أحدثه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في مكة. فما قام به خلال مرحلة الدعوة السرية ثم الجهرية، هو ثورة عملية بمعنى الكلمة. فهو - صلى الله عليه وسلم - بدأ مشروع التغيير ببناء قاعدة صلبة من الرجال والنساء سيعتمد عليهم مستقبلاً، حين يثور ضد أنظمة المجتمع الجاهلي كلها، ليس بمكة فحسب، بل كل الجزيرة العربية. فقد كان يخطط - صلى الله عليه وسلم - وفق توجيه إلهي دقيق، لتغيير النظام السياسي والاجتماعي والقيمي والاقتصادي وغيرها من أنظمة كانت سائدة في تلك المجتمعات الجاهلية. لم يتفاعل مع استفزازات قريش له ولأصحابه، بل تحمل الأذى لسنوات، ليقينه التام أن الوقت ليس وقت مواجهة وخسارة ما يتم الإعداد له وبنائه، نظراً لتفاوت القوى بين الطرفين حينها.   

 

   لكن في غضون سنوات قليلة، نجحت الثورة بفضل الله والقيادة الحكيمة لرسول الله، وبدأ ميزان القوة يتغير، وصار الوقت مناسباً لوضع أساسات نظام جديد يهدم كل أنظمة المجتمع الجاهلي البالية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها، حتى تحول ذاك المجتمع المفكك الجاهلي، الذي كانت تسوده قيم فاسدة وأنظمة جاهلية بالية، إلى نموذج للحكم الرشيد، قابل للاقتداء والتطبيق من بقية مجتمعات وشعوب الأرض في قادم الأيام والسنوات.

 

القيادات وضبط الإيقاعات الجماهيرية 

  لكي لا يحيد أي فوران وهيجان شعبي ضد الفساد والظلم عن طريقه، لابد من قيادة مخلصة حكيمة، توجّه وتهذب وتنظّر وتحاول ضبط الإيقاع الجماهيري، والتحذير من القوى المتربصة بها، وإلا فإن النتائج غالباً تكون كارثية لو تُرك الحبل على الغارب، أو انشغلت القيادات بخلافات بينية أو هامشية، والتي سيتضرر منها الثائرون الهائجون ربما أكثر من المُثار عليهم، والذين بحكم إمكانياتهم وما يسيطرون عليه من أدوات تنفيذية وصلاحيات سيادية، قادرون في وقت معين على إحداث فُرقة أو ثغرة في المد الثوري عبر ما يمكن أن نطلق عليها بالثورة المضادة، التي تكون مهمتها الرئيسية امتصاص الصدمة.

حتى إذا ما انتهت من مهمة امتصاص الصدمة،  بدأت من فورها في تفتيت القوى والقيادات الثورية بوسائل عدة، وربما بمعية خارجية أيضاً، حتى ينتهي المطاف بالانتفاضة الشعبية والتغلغل بينها من أجل تغيير أهدافها أو طموحاتها شيئاً فشيئاً، حتى تجد أن الحشد أو الهيجان الجماهيري أو الانتفاضة الشعبية - سمها ما شئت -  تبحث عن أي مكسب من خروجها، والتي غالباً ستكون مكاسب محدودة مؤقتة، ستزيد من تمكّن النظام الحاكم أكثر فأكثر، ويرجع الناس إلى ما كانوا عليه، ليجدوا أن ما خسره المجتمع بعد الحشد أو الاحتجاج أو الانتفاضة أكثر مما كان قبل ذلك ! وما ذلك إلا لغياب القيادات الواعية، ودخول من يهمهم استمرار الأوضاع الفاسدة ضمن المنتفضين، لأجل تشتيت قوتهم وتفرق كلمتهم. وهذا هو الحاصل في كثير من بقاع العالم، وانتفاضات الربيع العربي من أبرز الأمثلة.

   تلكم كانت خلاصة سريعة لكيفية استثمار أي غضب شعبي على أنظمة فاسدة ظالمة، وكيفية توجيه ذلك الغضب بما يعود بالنفع على البلاد والعباد، قبل أن يتدارك المُثار عليهم أمورهم، ولملمة أوراقهم وضبط قواهم وجنودهم. وفي التاريخ دروس وأحداث تنفع دوماً في التأمل، والبحث فيها وأخذ العبر والعظات منها.

 فهل من مُدّكر ؟                           

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

انه التعليم العصري ولكن هل تسمح الانطمة الجاهلة او ربما العميلة وإن بدرجة ما بمثل هذا التوجه في نوعية التعليم الذي ينتج قادة بالصفات والسمات التي تستطيع التوجيه وقت الأزمات ٠٠نوعية التعليم هي التي تبني الإنسان وتنمي قدراته ٠٠والذي ألف بناؤه النقد وتقديم الأفكار ومناقشتها والأخذ بالنافع منها ٠٠فهل يقبل إنصاف الآلهة الذين يحكمون بهذه النوعية من التعليم