لا تزال أصداء حلقات برنامج (عصير الكتب) الثلاث، التي تم بثها في تلفزيون
العربي حول الخلفاء الراشدين، قوية متفاعلة لم تهدأ، لا في الأوساط العلمية
الدينية ولا الإعلامية ولا الاجتماعية بشكل عام.. ذلك أن ما جاء في واحدة من تلك
الحلقات لم يكن بالأمر السهل الذي يمكن تمريره، كما أراد له القائمون على
البرنامج، والذي على إثر الضغوط المتنوعة عليه، قام التلفزيون بتقديم اعتذار عما
جاء بالبرنامج – وإن لم يكن مقنعاً ولا يعفيه من المساءلة – وتم حذف كافة الحلقات
الثلاث، في محاولة من تلفزيون العربي تهدئة الرأي العام العربي وغلق ملف
البرنامج.. لكن رغم ذلك، الموضوع ما زال يتفاعل، بل وعلى إثر هذا التفاعل، تجد
ملفات عديدة قد فتحت وما تزال تُفتح، وكلها مرتبطة بالموضوع.
ما حدث – سواء أكان يقصد القائمون على البرنامج
أم خلافه - لا يمكن تبرأته أو أخذه بأي درجة من حسن نية، بل ربما يدفع المراقب للأمر
إلى إدخاله - دون تردد - ضمن محاولات
قديمة متجددة ومستمرة للنيل من الإسلام كدين بشكل عام، على رغم أن جلّ تلك
المحاولات متعثرة، لكن لا يمكن إنكار أنها مؤثرة نسبياً بصورة وأخرى.
لا شيء في أن
تطرح موضوعات وقضايا من تلك المختلف عليها عبر تاريخ الإسلام للنقاش والحوار، ليس
من أجل النقاش ذاته، بل لتصحيح ما يمكن تصحيحه وتنوير الأجيال الحديثة من
المسلمين، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس كل من هب ودب وزعم أنه يفقه في بعض جزئيات
من علوم الدين، تتم استضافته وترك المجال له يسرح ويمرح دون ضبط وربط، فأمثال
هؤلاء تمتلئ بهم ساحات الإعلام والفكر والثقافة في العالم العربي، وقد علا صوتهم
وتجبّر للأسف بفعل قوة وتأثير وانتشار وسائل التواصل الإعلامي.
التشكيك في أمر هذا الدين وثوابته وقيمه ورموزه
العليا، ليس بالجديد، كما أسلفنا. فقد بدأت المحاولات الأولى منذ أيام النبي
الكريم – صلى الله عليه وسلم – سواء عبر أصوات المشركين في مكة أو بعد ذلك أصوات
المنافقين بالمدينة. لكن قيض الله رجالاً تصدت لتلك المحاولات ووأدت الكثير منها،
لكن لم تمت جميعها بل ظهرت تارة أخرى في عهود الخلفاء الأربعة الكرام ومن جاء بعدهم
من خلفاء حتى العصور المتأخرة، ليتولى من يتم تسميتهم بالمستشرقين – والأصل أنهم
المشككون - راية النيل من الإسلام. تبعتهم فئات ضالة مضلة من أبناء المسلمين، تدفعهم
قوى ومراكز بحوث ودراسات عديدة في الشرق والغرب، تجد مصلحة في استمرار حركة
التشكيك في هذا الدين، لاسيما إن صارت تُدار بيد من أسماؤهم عربية مسلمة، وما
أكثرهم اليوم.
نكرر القول إنه لا شيء في أن تسأل وتبحث وتناقش
وتبدي رأيك وتنصت للرأي الآخر في مجالات لا حصر لها. وحديثي هذا موجه بالطبع لكل
مسلم، سواء كان بالعقيدة أو حتى الهوية، لأن من هم من ملل ونحل أخرى لا يشملهم هذا
الحديث، فلهم دينهم ولنا ديننا، وأحاديثهم المتنوعة عن ديننا ليست لنا علاقة بها ولن
نهتم لشأنها إن كانت تجري وتدار في ديارهم وبين أبناء ملتهم.. لكن بكل تأكيد، سينطبق
عليهم ما ينطبق على المسلمين في ديار الإسلام، وهو أن هناك مجالات محددة ليس للرأي
والرأي الآخر فسحة له أن يرتع ويجادل فيها كيفما شاء، لا للمسلم ولا لغيره.. فهناك
ضوابط ومحددات لا يمكن قبول تجاوزها.
ليس هناك أي
قيمة للرأي والرأي الآخر في مجال التشكيك بالقرآن أو السنّة الشريفة أو حقيقة
الإسلام نفسه، أو التشكيك في رموزه ومُثله العليا - والخلفاء الراشدون المهديون على رأس
تلك الرموز والمُثل - إذ يمكن أن نناقش أعمالهم وأداءهم لكن لا نشكك في نواياهم أو
ننتقص من جلال قدرهم ومكانتهم، فهم بشهادة خير المرسلين، أفضل من يأتون بعده – صلى
الله عليه وسلم – من أمته.
محاولات
التشكيك والعبث بثوابتنا وقيمنا وديننا ورموزنا لن تتوقف، وخاصة في ظل ثورة
إعلامية معلوماتية مستمرة، سواء من بعض المغرر بهم من أبناء هذه الأمة أو من غيرهم،
ما يفيد ويستدعي أهمية التصدي لها بكل وسيلة حضارية ممكنة وأولها بالتعليم، الأساس
المتين في هذه المعركة. إذ حين يتم تعظيم أمر هذا الدين وأمر القرآن وشخصية الرسول
الكريم وصحبه الكرام في النفوس ومنذ الصغر، من شأنه تمتين وتقوية جبهة التصدي
ضد كل حملات التشكيك المختلفة. وإن ما يحدث الآن
من اهتزاز وارتجاف الكثيرين عند أي محاولات ابتدائية للتشكيك في عقائدنا وثوابتنا
وقيمنا ورموزنا، مرجعه إلى ضعف التكوين الديني في المدارس والجامعات والمجتمعات،
وقد ساعدت وسائل التواصل الإعلامي على هذه البعثرة والتشتت الحاصل في أذهان الجيل
المسلم الحالي، جعلته ينفتح على ثقافات وتوجهات الآخرين دون أن تكون معه كفايته من
المناعة الفكرية والثقافية والدينية، التي تجعله يتلقى تلك الأفكار والتوجهات،
يقلبها هو كيفما شاء، دون أن يحدث العكس وتؤثر عليه وتقلبه رأساً على عقب.
وسائل الإعلام
عليها دور عظيم كما لمحاضن التربية الأولى، المدارس وما بعدها من مؤسسات التعليم
المختلفة في المجتمع. وسائل الإعلام اليوم يمكنها اختصار الكثير من الوقت والجهد
لو أن القائمين عليها، أصحاب فكر سديد ناصح أمين ومخلص، لا أصحاب
أجندات مختلفة ربما تكاتفت جهودهم، سواء أعلموا أم لم يعلموا، مع حملات التشكيك
والتشويه المختلفة.
إن حسن اختيار
القائمين على وسائل الإعلام، صحفاً كانت أم قنوات متلفزة أم إذاعية أم دور نشر أم
غيرها، لا يقل أهمية عن مسألة اختيار القائمين على أمر التربية والتعليم. كلاهما
يكملان بعضهما البعض. وليس من الحكمة أن يصنع المربي في التعليم جيلاً مؤمناً متعلماً
واثقاً، ليأتي الإعلامي - بقوة نفوذ وتأثير سلاحه الإعلامي - ويفسد عمل الأول بزرع
بذور التشكيك في ذاك الجيل، ويتدرج في رعايتها لتنمو في النفوس، كي تهتز وترتجف في
أول مواجهات ومشاهد الحياة المختلفة، كتلك التي نراها اليوم على شكل مجموعات
شبابية إما ملحدة أو متشككة في كثير من ثوابتها أو مجموعات لا إلى هؤلاء ولا إلى
هؤلاء..
التربية
والإعلام من المسؤوليات العظيمة للدول والحكومات، فمهما كان للأفراد جهودهم ونشاطهم
في المجالين، إلا أن الرعاية الحكومية السديدة الواعية والحكيمة المنضبطة، سياسياً
ومالياً، هي الأساس في بناء جيل واع مثقف واثق لا يخاف ولا يهتز، مهما كانت قوة
وبلاغة المشككين والمرجفين في الأرض.. والله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق