نتساءل كثيرا في ندواتنا أو مؤتمراتنا ولقاءاتنا الثقافية المتنوعة، عن الأزمة الثقافية في الخليج، وهل هناك بالفعل ما يمكن أن نطلق عليها أزمة ثقافة، أم أن الأزمة في المثقفين أنفسهم؟ ومن هم المثقفون أساسا حتى نعلم إن كانوا في أزمة أم لا؟؟ وهل منطقة الخليج تعيش حالة ضعف في الثقافة بشكل عام، أم أن المفاهيم اختلطت علينا بحيث لم نعد نقدر أن نفرق بين ما إذا كانت هناك حياة ثقافية أم لا، وهل هناك أزمة في حالة وجود تلك الحياة؟ الأسئلة كثيرة ومتعددة، وتحتاج إلى عديد من الندوات يشارك فيها نخب المهتمين بالأمر، فإن الحاصل الآن يفيد دون شك بأن السياسة قد لعبت دورا مؤثرا على الحركة الثقافية، ليس في منطقة الخليج فحسب، وإنما المنطقة العربية كلها.. ولعل في السطور الآتية محاولة للتفاكر في هذا الأمر
.
لاشك أن النفط وتدفقه على المنطقة قد لعب دورا مهما في الحياة والحركة الثقافية، مثلما الحال مع بقية المجالات الحيوية الأخرى في المجتمعات الخليجية، من تعليم وصحة واقتصاد وحياة اجتماعية.. على أنه لم يكن بذاك التأثير القوي على الثقافة بشكل عام بسبب أن الواقع الذي كان عليه أهل المنطقة قبل ظهور هذا السائل الحيوي المهم، قد لعب دورا مهما في تشكيل ثقافتهم التي قامت على أساس الحرمان والظروف الاقتصادية الصعبة، والكفاح من أجل حياة عزيزة كريمة، والتطلع إلى حياة أفضل ..
ولكن النفط وعائداته الكبيرة لعبت دورا لا يمكن إنكاره في تأسيس الحركة الثقافية في المنطقة على أسس قوية. فكان من ضمن النتائج الجميلة لعائدات النفط، هي هذه المؤسسات الثقافية القائمة حاليا، وبروز حركة التأليف والإنتاج الفني في فترة من الفترات، وإن قلت الآن عن ذي قبل، وصارت الحكومة تنفق على المؤسسات الثقافية، وزادت الموازنات الخاصة بتلك المؤسسات، وكان من نتاج تلك الزيادة أن كثر عدد المهتمين بالجانب الثقافي بشكل عام، إلا إنه لا يمكن القول بأن كثرة عدد المهتمين تعني زيادة المثقفين، باعتبار أن أغلب أولئك كانوا من الذين يمكن أن نقول عنهم أنهم من مثقفي السلطة أو أشباه المثقفين، الذين تم التحكم فيهم بشكل غير محسوس، فصاروا إلى التدجين أقرب، أو إلى السطحية والضحالة في المستوى والمحتوى.
ولعل أيضا مرور المنطقة بفترة تاريخية معينة هي أيام المد القومي والناصري وكذلك اليساري، قد أثر وبشكل بالغ على ثقافة أهل المنطقة، التي كانت تعيش أيضا تحت ظل الاستعمار البريطاني، والشعور السائد حينها بضرورة التحرر من ربقة هذا الاستعمار.. فكانت نتيجة تلك العوامل، تأثر كثير من طلاب البعثات وكذلك التجار كثيروا السفر إلى البلاد العربية الثورية، بثقافة ذات طابع سياسي ثوري استمرت إلى أن حصلت دول المنطقة على استقلالها، وانحسار المد القومي، وبداية التأثر بنتاج وعائدات النفط، والاستعداد للانتقال إلى حياة جديدة تختلف عن السابق وبدرجة كبيرة.
كل تلك العوامل بدأت في التأثير مرة أخرى على نوعية وتوجه ثقافة أهل المنطقة، التي كانت تستعد لتبني ثقافة من نوعية جديدة هي ما يمكن أن نطلق عليها بالثقافة الاستهلاكية البحتة، التي لا تتوقف عند حد معين، بل كلما تعمق المرء في الأخذ منها، ازدادت درجة الارتباط بها والسير على هداها وفي طريقها.
إذن يتبين مدى تأثر المنطقة الخليجية بعائدات النفط فيما يتعلق بالثقافة.. فلقد تغيرت كثير من القيم والمفاهيم بسبب الحياة الجديدة، والتغير الهائل الذي حصل للمجتمعات الخليجية خلال جيل واحد فقط. فصار الاهتمام بالجوانب الاستهلاكية للحياة هي الأهم تقريبا، فصار التعليم أضعف ما يكون في مواجهة هذه القيم وهذا التوجه الجديد الذي سيطر على ثقافة أهل المنطقة. إذ إن التعليم الآن في المنطقة صار يركز على الكم وليس الكيف أو النوع، وبالتالي صارت مخرجاته على درجة من الضحالة في الفكر والثقافة بحيث لا يمكن أن تصمد أمام الثقافات الأخرى التي تغزونا كل يوم بأشكالها المختلفة المنوعة والمثيرة أيضا..
بسبب تلك العوامل آنفة الذكر، صار الخليجيون يعيشون حالة من الاغتراب الثقافي، المتمثل في حالة من الازدواجية البليغة بين القيم الموروثة والقيم العصرية، التي صاروا يتعرفون عليها من خلال وسائل الإعلام المختلفة، المقروءة منها والمرئية، إضافة إلى حركة السياحة الخليجية إلى العالم الخارجي الأجنبي، وتأثر من في تلك الحركة بقيم ومفاهيم جديدة، هي السائدة في بلدان المقصد السياحي، والتي غالبا ما تكون من البلدان المتقدمة التي يشار إليها بالبنان، الأمر الذي ساعد على تعميق عنصر أو مركب النقص في النفس العربية بشكل عام ومنها النفس الخليجية، والتي صارت تتقبل من المنتصر كل ما يصدر عنه من قيم وأفكار.
يذكر الدكتور محمد العيدروس، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الكويت، في كتابه "تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر"، بأن المثقف الخليجي صار الآن سلبيا وعلى درجة من الضعف والقبول بالعيش على الهامش.. حيث إن أغلبية المثقفين تهرب من القضايا المصيرية إلى تفصيلات الحياة اليومية والإغراق فيها. في حين أن البعض الآخر يهرب إلى الماضي.. كما أنه لا يوجد تواصل بين المثقفين أنفسهم أي نوع من التعاون والتفاعل، فصاروا في عزلة يعيشون، ولا يلتقون في ندوات أو مؤتمرات يناقشون همومهم ونتاجاتهم، إن كانت هناك إنتاجية!! كما أنه ليس هناك تفاعل علمي وثقافي بين الجامعات الخليجية، أو تبادل للكتب والدوريات وبشكل منتظم ودوري..
ويشير الدكتور العيدروس بأن من الأسباب المؤدية إلى هذا الحال الحاصل الآن للمثقفين الخليجيين، السلطات الرسمية التي تنظر إلى النتاج الثقافي الجاد على أنها من الممنوعات الخطرة المؤثرة على الاستقرار الأمني؟! إضافة إلى ظهور طبقة من "أشباه المثقفين" أو من مدعي الثقافة، الذين صاروا يمتطون صهوة الثقافة من أجل مناصب عليا يخططون للوصول إليها، وهم من أكثر الذين يحاربون الأنشطة والفعاليات الثقافية الجادة..
إننا اليوم نعيش مرحلة هامة من التاريخ الإنساني، بل ونحن مقبلون على ما يسمى بصراع الحضارات أو حوارها، لا بد وأن نعد العدة لتلك المرحلة من الصراع أو الحوار، بمرحلة قبلية هي ما سماها الدكتور النفيسي بالإرشاد الثقافي، الذي به نتعرف على طبيعة الصراع في تلك المرحلة من مراحل تطور العالم. هذا التعرف ليس من باب "اعرف عدوك" وإنما من باب "استيعاب المقولات العصرية وتحديد الموقف الموضوعي منها في إطار شامل مبني على أساسيات ومقومات الدين"..
إن هناك مشكلة أخرى لدى أغلبية المثقفين، ليس في الخليج فقط، وإنما بقية أقطار العالم العربي، وهي "الإرهاب الثقافي" أو الخوف من كل ما هو جديد في الرأي والثقافة والحضارة.. هذا الخوف حول المثقفين إلى عناصر ديناميكية جامدة، بدلا من أن يكونوا عناصر ميكانيكية فاعلة.. وإن الرغبة في النكوص أو التراجع أو الانكفاء على الذات، صارت شديدة لدى المثقفين، بل تلقى قبولا واسعا لديهم !! بل وللأسف الشديد صار المثقفون هم من أكثر العناصر في المجتمع استهلاكا لثقافات الغير، وخصوصا الثقافة الأميركية، سواء كانت ثقافة المأكل أم الملبس أم الفكر أم غيرها من طرز الثقافة الأميركية التي تجتاح العالم كله ومنها منطقتنا الخليجية..
إننا اليوم نعيش في عالم يعج بالحركة الفكرية الثقافية، وتساعد على انتشارها وسائل إعلام واتصالات متطورة، تجعل الاصطدام بها أو التأثر بها حتميا، ولكن تبقى درجة التأثر معتمدة على قوة أساسات ثقافة المستقبلين.. لا نقول بالامتناع عن الثقافات العالمية، بل لا مفر منها، ولكن نقول بضرورة إعداد العدة المناسبة للتعامل معها وأخذ الصالح منها وتجاوز الطالح.. ولن يتأتى لنا ذلك إلا بإيجاد نظرية مستمدة من الدين، كما يذهب إلى ذلك الدكتور عبدالله النفيسي، لتحليل المجتمع وحركة التاريخ، إضافة إلى حل مشكلة الثقافة المتمثلة في الرهاب الثقافي، وذلك باستحداث الأجهزة الثقافية وحشد الإمكانيات الثقافية الإسلامية، وتوظيف الاختصاصيين في مهمة التخطيط المركزي لعمليات التثقيف الجماعي، من أجل النهوض بمستوى المسلم المعاصر كي يتمكن من استيعاب النظرية المشار إليها في تحليل الأوضاع الاجتماعية وحركة التاريخ وتوظيفها لصالح القضية الإسلامية العربية المعاصرة.
لقد تطور الخليج، ولكن هذا التطور كان ماديا وليس ثقافيا، والثروة النفطية مؤقتة مهما بقت في المنطقة، والتطور الحضاري أساسا يقاس بالتطورات الثقافية والفكرية.. وإن الحالة التي عليها الثقافة اليوم من تهميش وسطحية بليغة، فإنما يتحمل وزرها المثقفون بالدرجة الأولى، والذين يقع عليهم عبء ومسؤولية النهوض بمجتمعاتهم والإنسان الذي يعيش بها، من أجل التعبير عن نفسه وذاته، وإعادة صياغتها ضمن مشروع متكامل هدفه هذا الإنسان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق