كان عام 1979 من الأعوام التي لا تُنسى في
العالمين العربي والإسلامي ، فقد انطلقت الثورة الخمينية في إيران بداية العام وما
أحدثتها من زلزال رهيب ما زالت المنطقة تعيش
نتائجها إلى اليوم ، وما كاد العالم يتنبه لهذ الثورة وأهدافها حتى تفاجئ بخبر
احتلال الحرم المكي في نوفمبر من ذلك العام ، الذي وافق بداية القرن الهجري الرابع
عشر 1400 للهجرة ، وما كان لذلك من صدمة عميقة ، تبعتها مباشرة صدمة أخرى ربما
أعمق وأكثر خطراً باجتياح السوفييت لأفغانستان بدعوى الاستجابة لطلب الحكومة الأفغانية
حينها بالتدخل والحماية ، وفق معاهدة التعاون والصداقة الثنائية بين الدولتين ،
فتم فعلاً التدخل وإزاحة حفيظ الله أمين
وتنصيب بابراك كارمل ، الذي كان قنصلاً في تشيكوسلوفاكيا .
اعتقد السوفييت أن بإزاحة حكومة أمين وتنصيب
كارمل المتشبع بالفكر الماركسي ، هو حل مناسب ولو الى حين ، من أجل تهدئة الثورة الشعبية
التي كانت قد وصلت مرحلة متقدمة في أفغانستان ، وأن الأمر سيتم الانتهاء منه في
غضون أيام معدودات ، وفي الوقت ذاته ، يتم السيطرة على البلاد وتحقيق أهدافهم
السياسية والاقتصادية واستغلال ثروات هذا البلد الفقير ، عبر حكومة عميلة ، والانطلاق
بعد ذلك نحو المياه الدافئة بالخليج العربي .
شاءت
الأقدار أن يتخبط قادة الكرملين في قرار الاجتياح الكامل للبلد ، ليتورط السوفييت لسنوات
عشر بائسات في حرب أهلكت الحرث والنسل وكانت من أعظم وأبرز نتائجها ، تفكك
المنظومة الشيوعية بتفكك وانهيار الدولة الحاضنة والراعية لها ، الذي أدى بدوره
إلى نتيجة أسوأ على المنظومة الدولية ، تمثلت في تفرد الولايات المتحدة بإدارة
العالم لسنوات طوال تلت تلك الحرب .
عانت أفغانستان ، بعد الحكم الملكي وسقوط ظاهر شاه ، من كثرة الانقلابات في
فترة السبعينيات وعدم الاستقرار ، وقيام بعض الحكومات بإصدار مراسيم وقوانين وإصلاحات
تتصادم مع قيم وتراث الشعب الأفغاني الذي يتميز بتمسكه الشديد بالدين ، وبالتالي
كانت تلك شرارات كافيات لقيام ثورات متعددة ، تعاظمت في أواخر السبعينات حتى
التدخل السوفييتي ، فتحولت الثورات الشعبية ضد الحكومات إلى شبه مقاومة موحدة لعدو
مشترك ومحتل للبلد ، ومنها بدأ العالم يسمع عن الجهاد الأفغاني ، الذي وحّد جهود كثيرة في
أفغانستان ، وتقاطعت مصالح قوى خارجية أخرى مع الجهاد الأفغاني التي رأت أهمية
استثمار الأحداث في التخلص من المنظومة الشيوعية ، وكانت الولايات المتحدة هي أبرز
تلك القوى ومن يسير في فلكها .
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgJlw_3mMoAoFhbGjxZ1ww6I69JhY0S3KSFT3KkIw_lfU8HkiiWQVLP4RCxE2yFA-azMYMoMCbiyqy67DX_1ZCV3MDtxmlE7eV7lbsU8gjlubH3OFY1ORazNLm7pMH3RJoFVbdGxke8jZ0/s400/images+%25281%2529.jpg)
تدور الأيام لنجد في الأفق ما يؤشر على أن السيناريو الأفغاني مرشح للتكرار
مع اختلاف في الجغرافيا وبعض العناصر في المشهد ، حيث تبدل المكان من أفغانستان
إلى سوريا ، والحكومة الشيوعية هناك بنظام الأسد هنا ، وثورات الحركات الجهادية
الأفغانية بفصائل المقاومة السورية ،
وتبدلت باكستان إلى إيران ، فيما بقيت الصين كما كانت ، وبعض دول الخليج
كذلك ! فيما اللاعبان الرئيسيان، الأمريكي والروسي ، يعيدان الدور نفسه بعد مرور أكثر من عشرين عاماً
على الكارثة التي حلت بالمنظومة السوفيتية .
اليوم
تجد اللاعب الأمريكي يقوم بالدور نفسه تقريباً ، حيث " الميوعة " في
التصريحات وردود الأفعال تجاه ما يحدث في سوريا منذ انطلاق الثورة السورية وحتى
قبل أيام ، فالموقف الأمريكي مبهم منذ البداية وغير حازم ، ووصل الى حد ابداء بعض
القلق فقط مع التحركات الروسية الأخيرة !!
فيما يبدو اللاعب الآخر لم يستوعب الدرس الأفغاني جيداً ، وإن احتمالية الوقوع في
الفخ الأمريكي مرة أخرى كبيرة بل وكبيرة جداً !
روسيا بوتين ، المنهكة اقتصادياً من بعد أزمات أوكرانيا والقرم وانخفاض
أسعار النفط ، تحاول إعادة أمجاد ستالين ولينين وبريجينف بصورة وأخرى ، وأهمية أن
يكون لها حضورها الفاعل القوي على الملعب الدولي ، ومنافسة اللاعب الأوحد الذي لم
يظهر من يتصدى له بصورة وأخرى . لكن فيما يبدو للمتابع للوهلة الأولى أن هناك
اتفاقاً بين الروس والأمريكان على عموميات المشهد السوري مع بعض الاختلاف في تفاصيله
، لكن من واقع الأحداث أن الأمريكان ما زالوا يعتبرون الروس عنصراً مزعجاً ومعيقاً
لتطلعات التوسع الاقتصادي الاستراتيجي نحو آسيا الوسطى ، وثبت ذلك في مواجهة أحداث
أوكرانيا وجزر القرم ، التي انتصر فيها الروس على الغرب بعض الشيء ، وكان لهم
الصوت الأعلى في توجيه الأحداث ، وهذا ما يبدو أثار الأمريكان وربما دفعهم لنصب فخ
جديد لهذا العنصر غير المريح ، وهو ما تمثل في الفخ السوري الجاهز للتفعيل .. وإن مشهد تدفق الأسلحة والعتاد الروسي إلى سوريا بحجة وأخرى، شبيه بما كان يحدث أواخر عام
79 في أفغانستان ، وأن الأمر في سوريا عند قادة كرملين الجدد ، لن يستغرق طويلاً
لترتيب الأوضاع ، تماماً كما كان الاعتقاد في أفغانستان ، الذي طال الأمر بهم ليصل
إلى عشرة أعوام.. الظروف اليوم في المشهد السوري شبيهة جداً
بالأفغاني .. حرب طاحنة مستمرة ، ثورة شعبية ، حركة لجوء كبيرة ، مآسي متواصلة ،
فصائل متنافسة ، قوى خارجية ، دول محيطة متربصة قلقة ، دول كبرى تعيد أجندتها
وترتب أولوياتها ، مخابرات دولية تخدم أهدافها ، ومصالح متنوعة بين هذا وذاك .
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi0c553EqsamARfJJ2r2oRBeFUrjFQOLiCXIrFOQlSNGNSMiSBEIZCM9SEp7HzbiJzb8ezja8NtnSXw3AMUDcCW22p5UqnXtm8LGymM67ewuHuooONUe-phN5K-sIpDclb_1KQRFnAcQ1w/s400/6c3f2_6__1_.jpg)
تلك الاستراتيجية الأمريكية بعيدة المدى تعتبر التخلص من العقبة الروسية
شرطاً للاستمرار فيها للعقود الخمسة القادمة دون عقبات ، وربما إعادة السيناريو
الأفغاني مع الروس في المشهد السوري ، هي واحدة من تكتيكات تلك الاستراتيجية ،
ليتفرغ الأمريكان في تعزيز وتجميع غنائمهم بعد استنزاف الروس، فيما بقية اللاعبين في
المشهد السوري ، سيكونون ما بين منشغل بتضميد جراحه وآخر في متابعة خسائره ، وثالث
في بناء ما جرت عليه الحرب من كوارث ، وهكذا ..
فهل
يمكن القول بأن الجزء الثاني من " فلم " حرب الروس على الأفغان ، سيبدأ انتاجه
وعرضه بعد قليل في السينما السورية ؟ في رأيي أنه لا شيء يمنع من ذلك .. والتاريخ
يعلمنا أن أحداثه تتكرر وتتشابه كثيراً ولكن لا أحد يتعظ ويتعلم ، وهذا هو سبب
كثرة الحوادث والوقائع ، والأيام حبلى بكثير من المفاجآت ..
لننتظر بعض الشيء إذن ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق