أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأحد، 13 أكتوبر 2019

إن جاءكم فاسق بنبأ ..


  
   بعث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليستلم منهم الصدقات، وفرح القوم بمقدم رسول رسول الله إليهم وخرجوا لاستقباله، لكن الوليد خاف من ذلك وبدأ يحدّث نفسه أنهم ما خرجوا إلا لقتله، فرجع إلى رسول الله - صلَى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ! فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً.. وبينما يحدّث نفسه – صلى الله علسه وسلم - أن يغزوهم، وصل وفد من بني المصطلق إلى المدينة، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وخشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله..  فأنـزل الله آية (وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة..)  


    لقد كانت قبيلة بني المصطلق قاب قوسين وأدنى من مصيبة ستلحق بهم قريباً، لولا أن الله أنزل آية من فوق سبع سماوات تدعو إلى التريث والتحقق من الأخبار قبل تصديقها والتعامل معها.. توجيه قرآني مهم ضمن قواعد السلوك والتعامل مع الأخبار، وهذا ما يسميه الإعلاميون بميثاق الشرف الصحفي، الذي من إحدى بنوده أهمية التريث والتثبت والتحقق من أي خبر قبل البناء عليه. وإن مثل هذه القواعد السلوكية أجد أهميتها وأهمية أن يلتزم بها كل من يتواصل مع الآخرين بأي وسيلة من الوسائل، لاسيما في وقتنا الحاضر في ظل تنوع وكثرة وسائل التواصل في عالم، يتفجر تقنية ومعلومات وبشكل مذهل غير مسبوق في تاريخ البشرية.

 
إن واحدة من سلبيات وسائل التواصل الاجتماعي، هي في الكم الهائل المتدفق من الأخبار والمتناقلة بين مستخدميها دون كثير وعميق تثبت وتحقق أو على أقل تقدير تأن وانتظار، بل تجد وكأن من مهمة أي شخص فينا ما إن تصله أخبار معينة، أن يقوم من فوره بتمريرها على معارفه وزملائه وأصدقائه، لتجد بالمثل في أولئك المعارف والزملاء والأصدقاء من هو على نفس الشاكلة !   


   ما إن تبدأ يومك، حتى تجد عشرات التنبيهات في تطبيقات التواصل بالهاتف، من تويتر إلى واتزاب ومرورا بانستغرام وفيسبوك وغيرها. تتدفق علينا الأخبار والمعلومات والصور والفيديوهات من خلال تطبيق الواتز آب، كأبرز وسائل التواصل الاجتماعي العديدة، والأكثر استخداماً حول العالم تقريباً، سواء وصلتك المواد بشكل خاص أو عبر مجموعات..

   وصفات طبية وعلاجات لأمراض ومواعظ دينية ورسائل تربوية، ونكت ونوادر وقفشات، وأخبار السياسة والاقتصاد والحروب والمآسي، بالإضافة إلى الأفراح والأحزان.. إلى آخر قائمة طويلة أو سيل عرم من المعلومات والأخبار، دون ذكر مصادر موثوقة عند غالبيتها، فتجد أغلبنا – كما أسلفنا - يعيد إرسال ما يصله بحسن نية.. لكن هل حُسن النية يكفي لكي أعيد إرسال معلومات وأخبار غير مثبتة أو وصفات طبية غير مأمونة أو معلومات دينية أو سياسية أو غيرها وفيها الكثير من التدليس وعدم الدقة؟ وهل المطلوب إعادة نشر كل ما يصلنا من رسائل ومقاطع أفلام وبرامج وغيرها؟

   الحاصل الآن، أن السلوك الغالب عند معظم مستخدمي وسائل التواصل هو إعادة الإرسال على الفور. وليست الإشكالية هاهنا أن تعيد إرسال مادة معينة تصلك، لكن الإشكالية في السرعة أو فورية التعامل، وكأنما أحدنا وكالة أنباء مطلوب منها سرعة النشر وتحقيق سبق صحفي! وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الحديث الصحيح، وفي رواية أخرى، كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع.

  
   إن واحدة من السلبيات التي لاحظتها مع هذا الإدمان الحاصل على وسائل التواصل، أن صار المرء منا يخاف أن يصل به هذا الإدمان وهذا الكم الهائل من المعلومات، إلى ما يسمى بتبلد الإحساس - إن صح وجاز لنا التعبير- لماذا؟ بسبب ضخامة وكثرة ما يرى من أمور دافعة لا شعورياً لبلادة الإحساس أو موتها تقريباً.

  من كان قبل هذا الانفتاح الحاصل في العالم يجرؤ بالأريحية التي عليها الآن على مشاهدة صور المذابح والقتل والدماء والأشلاء وعلى الهواء مباشرة؟ من كان يتصور أن يتبلد الحس إلى درجة أن يشاهد المرء منا الآن عمليات ذبح أو قطع أعناق البشر أو إعدامهم شنقاً وحرقاً ورمياً بالرصاص وصولاً إلى السيف؟ من كان يستمتع بمشاهدة أفلام حقيقية لبشر يموتون في حوادث سيارات أو غيرها؟ الأمثلة أكثر من أن نحصيها في مساحة محدودة كهذه..

  الأمر صار أشبه بمسألة الاعتياد على منكر من القول أو الفعل إلى درجة الألفة معه ! أي أننا اليوم، وبسبب كثرة الاطلاع على الصور والروابط المرسلة عبر وسائل التواصل، خاصة تلك المؤلمة والشنيعة، لم نعد نهتم ولا نشعر بما نرى ونسمع، وربما بعضنا يتألم بعض الشيء، لكنه بعد قليل سينشغل بأمور حياتية أخرى وينسى ما رأى أو سمع، لتجده يشاهد صوراً وأفلاماً أخرى مؤلمة تأتيه بالغد، وكأن بالأمس ما حدث شيء !  أليست هذه هي الألفة التي أعنيها؟

  هذا هو واقعنا وللأسف.. والمؤلم فيه أن العدوى انتقلت إلى الأطفال، الذين فقدوا البراءة التي كنا نستشهد بها قديماً، حتى صار طفل اليوم أكثر ميلاً نحو عنف الألفاظ وعنف التعامل، وصار أكثر جرأة في الاستمتاع بمشاهد الرعب والألم! وهذا بكل تأكيد لن تكون نتائجه المستقبلية سارة ومحمودة.


   هذا السيل المتدفق من المعلومات المتنوعة عبر وسائل التواصل، لابد من تهذيبها وضبطها بصورة وأخرى. وأرى أن المستخدم نفسه يبدأ قبل غيره. كما أن الآباء والأمهات والأبناء أنفسهم، مسؤوليتهم كبيرة هنا. أضف إليهم مؤسسات التعليم والتوجيه والإرشاد وما شابهها، عليها واجب التوعية والتنوير.

   الخشية أن نكون قاب قوسين أو أدنى من ظهور جيل عنيف سيتوحش بعد حين من الدهر قصير، وسينفلت كما انفلت غيره في مجتمعات أخرى سبقتنا إلى التقنية والتواصل.. ولو لم نتنبه للأمر سريعاً، فالجيل قادم في خطر آكد دون أدنى ريب.. إنني هنا لا أدعو إلى العزلة وتجنب مثل هذه التقنيات والبرمجيات، لكن أدعو إلى أهمية التثبت واستخدام بعض العقل في قبول ما يصل إلينا أولاً، ومن ثم جدوى إعادته ثانياً، واختيار الأشخاص المناسبين لتحويل ما اقتنعنا به ورأيناه صالحاً لهم، ثالثاً وأخيراً، فلعل وعسى بهذه الخطوات الثلاث، نقدر على التفاعل الإيجابي المثمر مع هذا السيل العرم من المعلومات المتدفقة علينا من كل حدب وصوب.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.       

الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

كيف تتعامل مع موظف كثير الأعذار ؟


   
 
  هي من العادات غير المحبذة عند أي مدير أو مسؤول. ولو بحثت يمنة أو يسرة في موقع عملك، لوجدت نوعية، سأتحدث عنها بعد قليل، من موظفين وعاملين، وستدرك كم الانزعاج والتذمر الصادر من المدير أو المسؤول في موقع عملك بسبب تصرفاتهم.

لنصطلح بادئ ذي بدء على تسمية هذا الفعل غير الإيجابي ولا الحضاري بـ ( فن خلق الأعذار ). هذا فعل يمكن إدراجه بشكل أوسع ضمن ثقافة الأعذار، التي لو بدأت بالانتشار في أي مؤسسة عمل، فاعلم من فورك أن روحاً من اللامبالاة والتنصل من المسؤوليات قد بدأت تنتشر هنا وهناك في أرجاء المؤسسة.
  الأصل في أداء العمل أن يقوم أحدنا به على أكمل وجه حين يُطلب منه، سواء كان في بيته أو مكتبه أو ناديه أو أي موقع يتعايش فيه البشر معاً، يعملون لأجل بعضهم البعض. ولكن حين يأتي هذا المكلف بأداء العمل ليبث لك عذراً تلو الآخر بسبب عدم إنجازه العمل المطلوب على الوجه المكلف به وفي الوقت المحدد، فإنه يعني عدم جديته وعدم إخلاصه وعدم تفانيه في أداء المطلوب. وربما أحياناً هناك أسباب أخرى، ولكن قلما تكون هناك أسباب غير التي ذكرناها، والمديرون يدركون هذا تماما..
حتى تتضح الصورة أكثر فأكثر، حاول أن تتصور معي هذا المشهد..
يطلب منك مديرك مثلاً أداء عمل ما ليكون جاهزاً بعد مضي وقت محدد يتفق هو معك، فتقبل منه وتستلم الأمر وتبدأ العمل بشكل ما.. ثم يأتي يوم الوفاء وعـرض العمل كما طُلب منك، فتجد أنه لم يتم بعد لأي سبب من الأسباب، فتعتقد حينها أنك تحتاج لوقت أطول أو بعض مساعدة.. فماذا تفعل حينها؟
بكل تأكيد ستبدأ في التبرير وإيجاد العذر أو الاثنين والثلاث للخروج من حرج الموقف مع مديرك. ستجد نفسك إما أن تماطل في تسليم المطلوب، أو أن تلقي باللوم على الآخرين، أو أن يكون للوسائل والتقنيات والأجهزة الإلكترونية نصيب من ذاك اللوم، وربما تتمادى لتجد لك عذراً تلصقه بالوقت أو الطقس أو البيت أو العيال أو السيارة، إلى آخر قائمة طويلة من الأعذار..
·        لماذا يضع أحدنا نفسه في مثل هذه المواقف المحرجة؟
·        لماذا، بدلاً من كل هذا الجهد في اختلاق الأعذار- العذر تلو الآخر- 
         لا يعمل بجدية في أي عمل يقوم به؟ 

الإجابة بكل وضوح كامنة في الآتي:
إن غياب الجدية في أداء العمل سببه ضعف أو غياب المتابعة ومن ثم العاقبة الصارمة، وهذان عاملان مهمان لشيوع ثقافة الأعذار في أي موقع أو أي مكان.. كيف؟
   أنت كموظف، لم تكن لتتكاسل في أداء عملك لولا معرفتك وخبرتك السابقة، أن الأمر ليس بتلك الأهمية لتجهد نفسك في أداء المطلوب أولاً، ومن ثم ليست هناك متابعة دقيقة من مديرك مثلاً حتى تهتم به ثانياً، وأخيراً تدرك أنه ليست هناك جزاءات رادعة تخيفك من أي تكاسل. وبالطبع هذا التكاسل ليس بالضرورة أن يكون عند أي أحد، بل في فئة من الموظفين تكون عندها قابلية التكاسل واختلاق الأعذار، سواء لأسباب نفسية أو ربما بسبب عقد قديمة كامنة فيها، وبدلاً من العمل بجدية وإخلاص وأمانة، تجد أحدهم يفكر ويبذل الجهد في إيجاد الأعذار الملائمة لكل مناسبة ! هكذا حالهم في غالب الأوقات والأعمال والمهمات.

كيف ينظر المديرون للمشكلة ؟
 قد ينظر المديرون إلى هذه المشكلة في البداية على أنها هامشية ولا تستأهل ذاك الاهتمام، بل ربما يحدث ابتداءً نوع من التعاطف مع الموظف حين يأتي بعذر ما، واعتبار ذاك العذر سبباً لعدم إنجاز العمل، ويتم بناء على ذلك إحسان الظن به.. لكن هل تسلم الجرّة كل مرة؟ يبدو نعم في بعض المؤسسات وعند بعض مختلقي الأعذار !
  إنّ تقديم أو اختلاق العذر – إن أردنا فهم وتحليل العملية - سنجد أنها نوع من الحماية الذاتية يقوم بها الشخص حينما يجد حاجة إلى حماية نفسه من اللوم والتقريع والإهانة وغيرها مما يمكن أن يلقاه، حالما يعجز عن تقديم عمله بحسب ما طُلب منه في الوقت المحدد.. والإنسان منا - أي إنسان - لديه قدرة هائلة على صناعة واختلاق الأعذار، كنوع من أنواع الحماية. ولو أن هذا البارع في اختلاق الأعذار، استخدم تلك القدرة في إنجاز أعماله بدلاً من صناعة الأعذار لكانت الأمور على غير الشاكلة التي عليها الآن كثير من مواقع العم المختلفة..
   إذن لا بد لك وأنت المدير أو المسؤول، أن تتنبه إلى مشكلة الأعذار التي يقدمها الموظفون. ولكن كيلا تكون فظاً غليظ القلب منذ البداية، فإنه لا مانع من قبول العذر الأول مع أهمية توجيه الموظف إلى عدم تكراره، وبالطبع لا بد أن يكون العذر معقولاً ومنطقياً، وإن كان ليس مطلوباً منك أيضاً كمدير، أن تتحول الى ضابط بحث وتحريات تتعمق وتبحث عن صدق أو زيف العذر. لا، ليس هذا من مهامك، لأنه إن فعلت، أصابك الجهد والإنهاك. ولكن بدلاً من ذلك كله، ابعث رسالة واضحة للموظف إلى أنك تقبل العذر، ليس لقوة عذره وحجته، بل لأنك تعطيه الفرصة للمرة الثانية أن يجيد ويتقن عمله، وإلا فالعاقبة القادمة لن تكون محبذة محمودة.

زبدة الحديث
هذه رسالة مختصرة جداً لكل مدير أو مسؤول مؤتمن على عمل ما :
 ابذل جهدك ألا تنتشر ثقافة الأعذار في مؤسستك أو شركتك أو دائرتك، بل حاول - بدلاً منها - نشر ثقافة العمل الجاد المخلص المبدع، وثقافة تقدير الوقت واحترامه.. ثم تخلص أيها المدير من مشكلة الأعذار عند بعض العاملين معك، وادفعها وأصحابها لخارج أسوار عملك بشكل وآخر، قبل أن تكون أنت بنفسك خارج تلك الأسوار.
 القرار بيدك الآن وقبل فوات الأوان.               

الخميس، 11 يوليو 2019

الدول وهي تمرض ..



ليس الإنسان والحيوان والنبات ضحايا للأمراض فحسب، بل كذلك الدول. وما يجري من سنن كونية على البشر وبقية المخلوقات الحية، فالسنن ذاتها تنطبق أيضاً على الدول، لا فرق ولا استثناء. فمثلما أن المرض الذي ينزل بالإنسان هو غالباً نتيجة سلوكيات وأفعال يقوم بها الإنسان، فكذلك الدول التي تمرض، حيث تكون أمراضها نتاج أفعالها وسلوكياتها أو ما نسميها بالسياسات والخطط..

    واحدة من الأمراض المهلكة القاتلة للدول - مرض الترف - بحسب ما جاء في القرآن الكريم، بحيث يمكن وصف الآية الكريمة التي سنذكرها بعد قليل وتحدثت عن هذا المرض، أنها حقيقة من حقائق هذه الحياة التي لا يمكن الجدال والتفلسف حولها، وخاصة أن نتائجها واقعية على مدار التاريخ القديم وإلى ما شاء الله لهذه الأرض والحياة أن تكونا، وهذا بالتالي يدعو كل ذي لب وبصيرة إلى التدبر والتفاكر والاتعاظ والتعلم.. 

   مرض الترف إن أصاب دولة أو أمة أو حضارة ما، أهلكها وعجّل في تدهور أمورها وبالتالي إلى شيوع ميكروبات المرض في نواح عديدة من جسمها، ما يؤدي وبالضرورة إلى ضعف عام وتآكل متدرج في بنيان وأساسات الدولة، ما يؤشر إلى نهاية قريبة منتظرة.

  اقرأ معي الآية الكريمة في سورة الإسراء، التي يمكن اعتبارها معادلة أو قانوناً حياتياً لا يقبل التشكيك، كما أسلفنا (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً). أي أمرنا المترفين الذين يتولون زمام الأمور في الدولة بالطاعة والبعد عن الفسق والفجور – كما يقول المفسرون -  لكنهم تغاضوا عن ذلك الأمر وفسقوا وفجروا، فكانت النهاية.

  المترفون في كل أمة – كما جاء في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله - هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغو في الأعراض والحرمات.


                                                                                       لكن لماذا الترف مهلك؟

   الإجابة بكل اختصار ووضوح: لأنه عامل رئيس مسبب لضياع حقوق البلاد والعباد. إن ظهر ترف وإسراف في أجهزة دولة ما، فهذا يعني استئثار فئة قليلة بغالبية الامتيازات على حساب فئات عديدة أخرى في المجتمع. هذا الاستئثار دافع أكيد إلى نشوء مرض آخر في الدولة، هو الحقد أو الكراهية في نفوس الفئات المحرومة على الفئة المترفة المسيطرة والمستأثرة بالخيرات وما شابهها..

   الترف مرض مهلك أيضاً لأنه يتضمن مرضاً عضالاً آخر ينخر في جسم الدولة وهو الظلم الذي عادة يكون مصاحباً للترف. فأينما وجدت مترفين، وجدت الظلم يصدر عنهم بصورة وأخرى. والترف كذلك يؤدي إلى الإسراف، وهذا مرض مؤذ أيضاً، بل هو عامل أساسي في دخول البلاد أجواء الفقر، والفقر إن استوطن بلداً طارت عنه القيم، وحلت الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. وقد جرت العادة في جميع الحضارات والأمم التي ظهرت وبادت، أن من كانت تؤول إليهم سلطات وصلاحيات وزمام الأمور، هم المترفون!   

   المترفون هم الفئة التي تتولى إهلاك الدولة - دون قصد بالطبع - لكن سلوكياتهم وأفعالهم هي السبب. فإن انتشار الفساد والظلم والعدوان في أي بلد، يدفع بعد حين من الدهر، طال أم قصر، إلى أن تصل فئة المترفين – باعتبار الترابط الوثيق بين المال والمناصب - إلى مراكز القرار والتحكم في شؤون البلاد والعباد، لتتولى تلك الفئة بعد ذلك تنفيذ المشهد الأخير للبلاد وهو مشهد الهلاك، كي تجري بالتالي عليهم السنّة الإلهية في هلاك وزوال الأمم.
  
مآلات غـياب الردع
  
   يذكر صاحب الظلال ها هنا أمراً مهماً متمثلاً في غياب الردع. هذا الردع الغائب هو العامل الحاسم في تسريع وتيرة الهلاك، فيقول:" وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها ".     

    ما ضعفت دولة بني أمية أو بني العباس أو دولة الأندلس وما جاءت بعدها من أمم مسلمة تفتتت وانتهت آخر الأمر، رغم عديد إيجابيات تلك الدول والممالك في بداياتها، إلا لظهور وشيوع مرض الترف في كثير من الولايات والأمصار التابعة لها، واستئثار فئات معينة بالخيرات والغنائم على فئات أخرى عديدة بالمجتمع، إضافة إلى أمراض أخرى بالطبع ساعدت على زوال تلك الدول، ليس المجال ها هنا للحديث عنها.. لكن المؤكد أن مرض الترف كان العامل الحاسم في هلاكها وزوالها، وبالمثل يمكن أن يقال عن الإمبراطورية الإغريقية والرومانية والفارسية وغيرها.. وهذا الذي يمكن أن يقال مرة أخرى عن أي دولة معاصرة، بغض النظر عن دينها وعقيدتها وثقافتها، أنها ستهلك وتنتهي إن تركت الباب مفتوحاً لمرض الترف أن يدخل منه إليها..


إن غياب القانون الذي يمنع الفئة المترفة من التجاوز، وتكاسل المجتمع عن القيام بواجب الردع بكل السبل المتاحة، وهو ها هنا متمثل في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يؤدي بالضرورة إلى هلاك الجميع.. وحديث السفينة يشرح ويوضح الكثير من مشاهد الصورة.

  روى البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:" مثلُ القائم على حدود اللَّه والواقعِ فيها كمثل قوم استَهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".

  لاحظ أن المفسدين الذين أرادوا خرق السفينة كان لهم تأويل ونظرة معينة للأمر، معتقدين بصوابية تأويلهم أو نظرتهم.. كانوا يريدون ألا يشقوا على من فوقهم بكثرة ترددهم عليهم لسُقيا الماء، فجاءت فكرة خرق خشب السفينة ليستقوا منه الماء. كان ذاك تأويلاً فاسداً ورؤية أفسد، وإن ذاك التأويل وتلكم الرؤية كانت لتكون سبباً في هلاكهم وغرقهم وغرق من فوقهم أيضاً، لولا ردع الآخرين لهم وصرفهم عن رؤيتهم واعتقادهم الفاسد ذاك.. وصدق الله العظيم حين قال (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).  أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. هكذا فسر ابن عباس الآية وفهمها، وهكذا نسأل الله أن يفهّمها لكل مسلم، فهو سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الخميس، 27 يونيو 2019

الرأي والرأي الآخر .. له حدود أيضاً


  لا تزال أصداء حلقات برنامج (عصير الكتب) الثلاث، التي تم بثها في تلفزيون العربي حول الخلفاء الراشدين، قوية متفاعلة لم تهدأ، لا في الأوساط العلمية الدينية ولا الإعلامية ولا الاجتماعية بشكل عام.. ذلك أن ما جاء في واحدة من تلك الحلقات لم يكن بالأمر السهل الذي يمكن تمريره، كما أراد له القائمون على البرنامج، والذي على إثر الضغوط المتنوعة عليه، قام التلفزيون بتقديم اعتذار عما جاء بالبرنامج – وإن لم يكن مقنعاً ولا يعفيه من المساءلة – وتم حذف كافة الحلقات الثلاث، في محاولة من تلفزيون العربي تهدئة الرأي العام العربي وغلق ملف البرنامج.. لكن رغم ذلك، الموضوع ما زال يتفاعل، بل وعلى إثر هذا التفاعل، تجد ملفات عديدة قد فتحت وما تزال تُفتح، وكلها مرتبطة بالموضوع.

   ما حدث – سواء أكان يقصد القائمون على البرنامج أم خلافه - لا يمكن تبرأته أو أخذه بأي درجة من حسن نية، بل ربما يدفع المراقب للأمر إلى إدخاله - دون تردد - ضمن محاولات قديمة متجددة ومستمرة للنيل من الإسلام كدين بشكل عام، على رغم أن جلّ تلك المحاولات متعثرة، لكن لا يمكن إنكار أنها مؤثرة نسبياً بصورة وأخرى.  

   لا شيء في أن تطرح موضوعات وقضايا من تلك المختلف عليها عبر تاريخ الإسلام للنقاش والحوار، ليس من أجل النقاش ذاته، بل لتصحيح ما يمكن تصحيحه وتنوير الأجيال الحديثة من المسلمين، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس كل من هب ودب وزعم أنه يفقه في بعض جزئيات من علوم الدين، تتم استضافته وترك المجال له يسرح ويمرح دون ضبط وربط، فأمثال هؤلاء تمتلئ بهم ساحات الإعلام والفكر والثقافة في العالم العربي، وقد علا صوتهم وتجبّر للأسف بفعل قوة وتأثير وانتشار وسائل التواصل الإعلامي.

   التشكيك في أمر هذا الدين وثوابته وقيمه ورموزه العليا، ليس بالجديد، كما أسلفنا. فقد بدأت المحاولات الأولى منذ أيام النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – سواء عبر أصوات المشركين في مكة أو بعد ذلك أصوات المنافقين بالمدينة. لكن قيض الله رجالاً تصدت لتلك المحاولات ووأدت الكثير منها، لكن لم تمت جميعها بل ظهرت تارة أخرى في عهود الخلفاء الأربعة الكرام ومن جاء بعدهم من خلفاء حتى العصور المتأخرة، ليتولى من يتم تسميتهم بالمستشرقين – والأصل أنهم المشككون - راية النيل من الإسلام. تبعتهم فئات ضالة مضلة من أبناء المسلمين، تدفعهم قوى ومراكز بحوث ودراسات عديدة في الشرق والغرب، تجد مصلحة في استمرار حركة التشكيك في هذا الدين، لاسيما إن صارت تُدار بيد من أسماؤهم عربية مسلمة، وما أكثرهم اليوم.

   نكرر القول إنه لا شيء في أن تسأل وتبحث وتناقش وتبدي رأيك وتنصت للرأي الآخر في مجالات لا حصر لها. وحديثي هذا موجه بالطبع لكل مسلم، سواء كان بالعقيدة أو حتى الهوية، لأن من هم من ملل ونحل أخرى لا يشملهم هذا الحديث، فلهم دينهم ولنا ديننا، وأحاديثهم المتنوعة عن ديننا ليست لنا علاقة بها ولن نهتم لشأنها إن كانت تجري وتدار في ديارهم وبين أبناء ملتهم.. لكن بكل تأكيد، سينطبق عليهم ما ينطبق على المسلمين في ديار الإسلام، وهو أن هناك مجالات محددة ليس للرأي والرأي الآخر فسحة له أن يرتع ويجادل فيها كيفما شاء، لا للمسلم ولا لغيره.. فهناك ضوابط ومحددات لا يمكن قبول تجاوزها.

   ليس هناك أي قيمة للرأي والرأي الآخر في مجال التشكيك بالقرآن أو السنّة الشريفة أو حقيقة الإسلام نفسه، أو التشكيك في رموزه ومُثله العليا - والخلفاء الراشدون المهديون على رأس تلك الرموز والمُثل - إذ يمكن أن نناقش أعمالهم وأداءهم لكن لا نشكك في نواياهم أو ننتقص من جلال قدرهم ومكانتهم، فهم بشهادة خير المرسلين، أفضل من يأتون بعده – صلى الله عليه وسلم – من أمته.

   محاولات التشكيك والعبث بثوابتنا وقيمنا وديننا ورموزنا لن تتوقف، وخاصة في ظل ثورة إعلامية معلوماتية مستمرة، سواء من بعض المغرر بهم من أبناء هذه الأمة أو من غيرهم، ما يفيد ويستدعي أهمية التصدي لها بكل وسيلة حضارية ممكنة وأولها بالتعليم، الأساس المتين في هذه المعركة. إذ حين يتم تعظيم أمر هذا الدين وأمر القرآن وشخصية الرسول الكريم وصحبه الكرام في النفوس ومنذ الصغر، من شأنه تمتين وتقوية جبهة التصدي
 ضد كل حملات التشكيك المختلفة. وإن ما يحدث الآن من اهتزاز وارتجاف الكثيرين عند أي محاولات ابتدائية للتشكيك في عقائدنا وثوابتنا وقيمنا ورموزنا، مرجعه إلى ضعف التكوين الديني في المدارس والجامعات والمجتمعات، وقد ساعدت وسائل التواصل الإعلامي على هذه البعثرة والتشتت الحاصل في أذهان الجيل المسلم الحالي، جعلته ينفتح على ثقافات وتوجهات الآخرين دون أن تكون معه كفايته من المناعة الفكرية والثقافية والدينية، التي تجعله يتلقى تلك الأفكار والتوجهات، يقلبها هو كيفما شاء، دون أن يحدث العكس وتؤثر عليه وتقلبه رأساً على عقب.

  وسائل الإعلام عليها دور عظيم كما لمحاضن التربية الأولى، المدارس وما بعدها من مؤسسات التعليم المختلفة في المجتمع. وسائل الإعلام اليوم يمكنها اختصار الكثير من الوقت والجهد لو أن القائمين عليها، أصحاب فكر سديد ناصح أمين ومخلص، لا أصحاب أجندات مختلفة ربما تكاتفت جهودهم، سواء أعلموا أم لم يعلموا، مع حملات التشكيك والتشويه المختلفة.

   إن حسن اختيار القائمين على وسائل الإعلام، صحفاً كانت أم قنوات متلفزة أم إذاعية أم دور نشر أم غيرها، لا يقل أهمية عن مسألة اختيار القائمين على أمر التربية والتعليم. كلاهما يكملان بعضهما البعض. وليس من الحكمة أن يصنع المربي في التعليم جيلاً مؤمناً متعلماً واثقاً، ليأتي الإعلامي - بقوة نفوذ وتأثير سلاحه الإعلامي - ويفسد عمل الأول بزرع بذور التشكيك في ذاك الجيل، ويتدرج في رعايتها لتنمو في النفوس، كي تهتز وترتجف في أول مواجهات ومشاهد الحياة المختلفة، كتلك التي نراها اليوم على شكل مجموعات شبابية إما ملحدة أو متشككة في كثير من ثوابتها أو مجموعات لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء..

   التربية والإعلام من المسؤوليات العظيمة للدول والحكومات، فمهما كان للأفراد جهودهم ونشاطهم في المجالين، إلا أن الرعاية الحكومية السديدة الواعية والحكيمة المنضبطة، سياسياً ومالياً، هي الأساس في بناء جيل واع مثقف واثق لا يخاف ولا يهتز، مهما كانت قوة وبلاغة المشككين والمرجفين في الأرض.. والله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.         

       

الاثنين، 6 مايو 2019

الصوم والرياء لا يلتقيان



  سألوا الفضيل بن عياض رحمه الله في معنى قوله تعالى ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) وما هو الأحسن عملا في هذه الآية، فقال الفضيل: أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل حتى يكون خالصاً صواباً؛ والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنّة." وقد قال في موضع آخر يشرح معنى الإخلاص: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص هنا أن يعافيك الله منهما. 

    شرح موجز دقيق لمعنى العمل الحسن الذي به يرتفع العبد ويرتقي عند الله. إنه ذاك العمل الذي يكون لله فقط لا غيره، ويكون وفق سنّة نبيه الكريم – صلى الله عليه وسلم – وأي شرط من الشرطين يغيب، فإنه يؤدي إلى ضياع العمل، ولن يرتقي للمستوى المأمول أو العمل الحسن. فكم من الأعمال تذهب سدى وتكون هباء منثوراً، لأن رغبات القائم بها اختلطت ما بين إرضاء الخالق ورجاء ثوابه، وبين استلطاف خفي لبعض المخلوقين وكسب مرضاتهم في ذات الوقت، لحاجات بالنفس لا يعملها إلا الله.

   كل أعمالنا قابلة لأن تدخل عالم العمل المختلط وتبتعد عن عالم العمل الحسن، الذي ذكرنا شروطه، قابلة لأن تختلط بمرض خفي من أمراض القلوب وهو الرياء. بدءاً من أداء الصلوات وإيتاء الزكوات، ومروراً بالحج والعمرة وغيرها من أعمال قد تبدو على ظاهر من يقوم بها، أنها أعمال صالحة، فيما النيات أو البواطن خلاف ذلك، لا يعلم بها سوى علاّم الغيوب.  

   لكن هناك عمل لا يمكن التلاعب فيه مثل عمل الصوم، الذي هو العبادة الوحيدة التي يمكن اعتبارها كالسر بين الله وعبده أو عبادة سرية خفية مخلصة، إذ لا يمكن للرياء والصوم أن يلتقيا معاً.. نعم قد تجد من يصلي خشية التأنيب أو حباً في الظهور بمظهر المؤمن الصالح، أو آخر يتصدق ليُقال عنه كريم، أو ثالث يقرأ القرآن ليقال عنه قارئ، ورابع يزكي عن بعض ماله متظاهراً بحب الخير والمساكين، أو غيرهم كثير. أما أن يجهد الإنسان نفسه بالصوم، حباً في نيل رضا فلان أو تقرباً من علاّن، فهذا لا يمكن أن يحدث.

   أنت حين تعزم على أداء عبادة وفعل الصوم عن كل ما أمرك الله أن تمتنع عنه من المباحات، وفي مقدورك بالوقت نفسه أن تشرب وتأكل في الخفاء، ولكنك لا تفعل. أتدري لماذا؟ لأنك تعلم يقيناً أنك تصوم لله وليس لأحد غيره، وهنا تكون قد حققت الشرط الأول لقبول عملك والدخول به إلى عالم العمل الحسن، وهو الإخلاص. أما الشرط الثاني فهو أن تصوم على الوجه الذي أمرنا به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهو أيسر من الشرط الأول. ومن هنا، تذكّر دوماً وأنت صائم مخلص في عبادتك وعلى الوجه الصحيح، ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به.


  هذا الحديث هو وصف دقيق لثواب وأجر الإخلاص الذي يظهر جلياً في عبادة الصوم. ولأن هذا الإخلاص حاضر في هذه العبادة، اعتبرها الله أنها له هو نفسه سبحانه. ولك أن تتصور عملاً يعتبره الله أنه له وحده لا يشترك معه أحد، كيف يكون أجره وثوابه؟ لا شك أنه عظيم خارج نطاق الوصف والخيال.

   لست هنا لأشرح معاني وأهداف هذه العبادة الجليلة، بقدر التذكير بهذا العمل النوعي الذي ميزه الله عن باقي العبادات والأعمال الصالحة بميزة معينة، مثلما سبحانه ميز كل عبادة وعمل صالح بميزة ما. كما في الوقت نفسه أعتبر حديثي هذا نوعاً من حث النفس والآخرين، لاستثمار عبادة عظيمة قصيرة الأجل ( أياماً معدودات ) ، ما إن يبدأ توقيتها حتى يبدأ العد التنازلي وانتظار النهاية بشكل سريع ملحوظ.

   رمضان إذن، فرصة ثمينة لعمل الكثير والكثير، سواء على مستوى كسب الأجر والثواب ومضاعفتها، أو صحياً عبر صيانة وتصحيح كثير من عاداتنا الغذائية السيئة، ومنح الجسم فرصة لتخليص نفسه من سموم عادتنا الغذائية طوال شهور العام، أو حياتياً عبر ضبط العادات الطيبة وتعزيزها، وتعديل الأخرى السيئة وتغييرها. الثلاثون يوماً من رمضان أشبه بمعسكر تدريبي داخلي، يتم فيه ضبط الأمور والتخطيط لأحد عشر شهر قادمة، يتم خلالها القيام بعديد الأعمال والسلوكيات، التي نريدها وفق مفاهيم ومعاني الشهر الكريم، حيث الإخلاص والجدية واستثمار الوقت أيما استثمار.

  أجد ها هنا في الختام، ضرورة أن نذكر بعضنا البعض ونحذر في الوقت ذاته، من لصوص الوقت في رمضان: المسلسلات التلفزيونية، الولائم الليلية، الانكباب على الفعاليات الفنية والرياضية وغيرها، الخيم الرمضانية، بالإضافة إلى اللص الأكبر، الهاتف الجوال ومعه وسائل التواصل المختلفة.. كلها لصوص وقت، تسرق الأوقات بهدوء سلس مستمر، لا نتنبه لها إلا وقد انتهى الوقت برؤية هلال شوال. فاز حينذاك من فاز، وخسر من خسر.. نسأل الله لنا ولكم العافية، ونسأله سبحانه العون لصيام نهاره وقيام ليله، والهداية لترك المنكرات وفعل الخيرات. إنه بكل جميل كفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.