أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأحد، 8 يناير 2017

حسناتك في لسانك ..

   
  قال الفضيل بن عياض، أو عابد الحرمين، وهو ممن عاش في القرن الثاني الهجري:" حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك! قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: إن صديقك إذا ذُكِرتَ بين يديه قال: عافاه الله، وعدوك إذا ذُكِرت بين يديه يغتابك الليل والنهار، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك، فلا ترضَ إذا ذُكِر بين يديك أن تقول: اللهم أهلكه.. لا، بل ادعُ الله: اللهم أصلحه.. اللهم راجع به، ويكون الله معطيك أجر ما دعوت به، فإنه من قال لرجل: اللهم أهلكه، فقد أعطى الشيطان سؤاله، لأن الشيطان إنما يدور على هلاك الخلق ".

   الله سبحانه وتعالى يدعو عباده أن يتجملوا في القول، ويختاروا الأطيب من العبارات والكلمات.. (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن). هذا هو ما نسميه بحلاوة اللسان، التي هي، وإن كانت هبة من الله، إلا أنها تبقى كذلك مهارة، يمكن اكتسابها بالتدريب والمثابرة عليها، شأنها شأن أي مهارة مكتسبة لدى البشر.


 إن من أساسيات اكتساب هذه المهارة، اختيار الكلمات ذات الجرس الموسيقي، أو التي تحمل في معانيها، الطيبة وخفة الروح، فإن استخدام الكلمات التي تحمل أكثر من معنى ومغزى، من شأنه في بعض الأحيان، إفساد الكثير من الأمور والعلاقات، حتى وإن كانت النيات صالحة، لا يُراد منها غير إصلاح أو كسب ود.

 أساتذة فن الخطابة يرددون هذا الأمر بكثرة، ويوصون بها تلامذتهم، وأن المهم ليس في إلقاء الكلمات، بقدر إخراجها من الفم، أي الطريقة أو الكيفية التي تقول بها وتستخدمها، لإيصال كلماتك إلى قلوب المستمعين قبل آذانهم.
   
 لنكن كالنحلة كما في الحديث (مثل المؤمن مثل النحلة. إن أكلت، أكلت طيباً، وإن وضعت، وضعت طيباً. وإن وقعت على عود نخر لم تكسره)..صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

        

الأربعاء، 4 يناير 2017

أطفالنا والتاريخ


  تطرقنا سريعاً في المقال السابق، أطفالنا وحفظ القرآن ، إلى مادة التربية الإسلامية في الابتدائية، وطالبنا باستثمار قدرات الطفل في الحفظ، التي تبدأ من سن الثالثة حتى السادسة، ثم تقل تدريجياً، وأن يتم استثمار تلك القدرة في حفظ القرآن، والبدء بذلك منذ دخول الطفل إلى الروضة حتى الثالث الابتدائي، بحيث تقتصر مادة التربية الإسلامية على الحفظ ليس غيره.
  
  نواصل اليوم ضمن السياق نفسه، ولكن حول مادتي التاريخ والجغرافيا للمرحلة الابتدائية أيضاً. ذلك أن الملاحظ هو دسامة وكثافة المادتين بالنسبة لطلاب الابتدائي، وما يتطلب منهم الكثير من الحفظ دون فهم ووعي كاف للأحداث والأسماء والمصطلحات.
  
  طالب هذه المرحلة يكفيه من التاريخ أن يدرس السيرة النبوية الشريفة، بحيث تُقدم له بصورة واضحة مشوقة تكون أقرب إلى القصص، دون التلويح باختبارات وامتحانات، كيلا يدرس السيرة لأجل الاختبار، وإنما ليستمتع بها أولاً، فإن حدث ذلك وأحبها، فإنه ثانياً وتلقائياً يكون قد أحب خير الخلق محمداً – صلى الله عليه وسلم – وأحب بالتالي الاقتداء به.

  
  ليس هناك من داع لإغراق طالب الابتدائي بأي تاريخ سوى تاريخ نبيه عليه الصلاة والسلام، وحياته العامرة والحافلة بالأحداث.. حتى إذا ما بدأ المرحلة الإعدادية يتم خلالها التركيز على تاريخ الوطن بدرجة عميقة، وشيء يسير من تاريخ الخليج. ثم يتم التوسع معه في الثانوية، ليدرس تاريخ العالم العربي وبعض الأحداث العالمية وتاريخ الحضارات المتنوعة، فهو حينها يكون قد بلغ درجة من الادراك والاستيعاب كافية، ليتعرف على أحداث وشخصيات عربية وعالمية.
   
   الأمر نفسه يسري على مادة الجغرافيا. إذ ليس هناك من داع لإغراق طالب الابتدائي بكمٍ هائل من المعلومات الجغرافية، التي أحسبه لن يدركها ولن يعرفها وإن حفظها عن ظهر قلب. يكفيه أن يتعرف على بعض جغرافية بلده وبعض المحسوسات من حوله من طقس ومناخ البلد وما جاورها، ويمكن بعد ذلك التوسع في علم الجغرافيا أواخر الإعدادية أو بداية الثانوية.
   
  يكفي في وقتنا الحالي إعطاء الطالب بعض المفاتيح وكيفية الحصول على المعلومات، سواء التاريخية أو الجغرافية على حد سواء، بدل من الحشو والضغوطات التي تتسبب فيها المناهج الطويلة على المعلمين والطلاب، الأمر الذي يدعو، والحال هكذا، إلى إعادة التفكير في تصميم المناهج التعليمية في عصر المعلومات والاتصالات..


الاثنين، 2 يناير 2017

أطفالنا وحفظ القرآن

  كثير من الدراسات حول قدرات ومهارات الطفل تؤكد أن الطفل منذ السن الثالثة، تبدأ معه قدرات الحفظ بالبروز. وتستمر هذه القدرة بكفاءة واضحة حتى سن السادسة، حيث تبدأ تقل تدريجياً.

  لاحظ أن في بعض البلدان ومنذ فترة طويلة إلى يوم الناس هذا، كالهند وباكستان وبنغلاديش، يبدأ الأهالي في تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم منذ الثالثة، بل كثيرين منهم في بنغلاديش على سبيل المثال، يستمر أبنائهم في حفظ القرآن حتى نهايته، ومن ثم يبدأ الطفل في الدراسة النظامية.

  مرحلة الروضة حالياً عندنا وفي كثير من بلدان العالم العربي، لا تستثمر قدرات الطفل في مسألة حفظ القرآن الكريم. بل تجد اليوم مناهج متنوعة لمرحلة رياض الأطفال، تعتمد على تعليم الأبجديات الإنجليزية والعربية، مع الإكثار من اللعب والرسم، وهذا شيء جميل.

   الأجمل من ذلك، لو نخصص الجزء الأكبر من المساحة الزمنية لأطفال الروضة في الحفظ، وليس أي حفظ. إنما القرآن وليس الأناشيد والأغاني فقط، لما في حفظ القرآن من إيجابيات كثيرة على الطفل في قادم أيامه، منها استقامة لسانه، والدخول في التعليم النظامي الابتدائي بحصيلة لغوية وفيرة ملحوظة، ستكون نتائجها باهرة كلما تقدم في مراحل التعليم.  


 السنوات الثلاث الأولى للطفل مع سنوات ثلاث أخرى في المرحلة الابتدائية، أرى أهمية التركيز فيها على حفظ القرآن، بل لم لا تكون مادة التربية الإسلامية في الصفوف الثلاث الأولى الابتدائية تقتصر على حفظ القرآن، دون اغراق الطفل في معلومات دينية إضافية، فإذا ما دخل الصف الرابع يتم البدء معه في أمور يبدأ يدركها كالصلاة وما يرتبط بها، مع الاستمرار في منهج حفظ القرآن.. وهكذا يتم التدرج معه في فهم الدين حتى السادس الابتدائي.

  نريد أجيالاً تحفظ كلام الله وتفهمه وتستوعبه منذ الصغر. حتى إذا ما شب الطفل في الإعدادية، يكون قد تهيأ لتذوق جماليات اللغة العربية، فيبدأ بحفظ الأشعار والحكم، ويتعلم فنون وقواعد اللغة بطريقة محببة للنفس.. وهكذا نضمن أن يصل الطالب للثانوية وفي جعبته الكثير من القرآن واللغة.. وهل بغيرهما نرتقي ونتطور؟
                                                                         


الخميس، 29 ديسمبر 2016

الحياة مواقف..

  مما يحكى عن الصحابي الكريم نعيم بن مسعود الغطفاني، أنه كان على صلة وصداقة مع يهود بني قريظة في يثرب، ومشركي قريش في مكة. وقد كتب الله له أن يكون صاحب عمل إيجابي رائع نادر، في مستقبل قريب. وسيذكر له التاريخ ذلك، ما بقي الناس يدرسونه.
  
  كعادة اليهود في كل زمان ومكان، قام يهود بني النضير بالتحريض على المسلمين، فتآمروا مع مشركي الجزيرة يحثونهم ويزينون لهم أمر الحرب على النبي، وسهولة القضاء عليه هذه المرة.

  خرج المشركون في عشرة آلاف مقاتل صوب المدينة، يريدون الإبادة الشاملة للمسلمين. وكانت أولى المفاجآت.. خندق عظيم ما رأوا مثله من ذي قبل، فأجبرهم على تعديل خططهم العسكرية القاضية بالهجوم المباغت، إلى حصار طويل بكل سلبياته على المحاصر، مثلما على المحاصَرين.
  
  في لحظة صفاء، جلس نعيم يتأمل الوضع ويدرس الأحداث. وتساءل في حوار مع نفسه عن سبب مقاتلة المسلمين، وهم لم يؤذوه وقومه في شيء، وإنما خرج مع قومه استجابة لطموحات قريش وأجندتها، ورغبة يهود بني النضير في الانتقام من المسلمين.. شعر نعيم أنه في هذه المعركة إنما أداة يستخدمها غيره لقضاء حاجاته، أو كالإمّعة، يسير مع الناس، إن أحسنوا أحسن، وإن أساءوا أساء! فلم يعجبه هذا الأمر في تلك اللحظات الصافية، وقرر أن يغيره، فكان إسلامه، لكن بهدوء ودون ضجيج.
  
  ذهب من فوره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:" إن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت يا رسول الله. قال:" إنما أنت فينا رجل واحد، فاخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة ". فكانت القصة المشهورة، وكيف أوغر صدور بني قريظة على قريش، والعكس، ثم أخرج قومه من المعادلة وانسحبت غطفان، حتى دب الخلاف بين المتحالفين أو الأحزاب، إلى أن جاء أمر الله وجاءت ريح باردة شديدة، هزمتهم وأرجعتهم خائبين، فيما المسلمون صاروا يرددون إلى يوم الناس هذا، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.

فهل نرى نعيماً بن مسعود جديدا، يشتت كلمة المتحالفين المتآمرين على أهالي سوريا المستضعفين؟
أرجو الله ذلك.


      

الخميس، 22 ديسمبر 2016

الحارس الشخصي


   شاهد العالم بذهول، عملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة قبل أيام، على يد ضابط شرطة من قوات مكافحة الشغب التركية. حيث أظهرت الأفلام وقوف الضابط الشاب لدقائق معدودة خلف السفير وبثبات واتزان، دلالة على قوة ودقة التدريب الذي تلقاه الضابط الشاب، الذي بدا أيضاً كما لو أنه حارس شخصي للسفير. ثم فجأة يخرج مسدسه ويفرغ ذخيرته في ظهر السفير من مسافة قريبة، وهي غالباً مسافة مميتة لا ينجو منها إنسان.

من اللقطات المصورة، التي تأتي ضمن سياق حديثي اليوم عن الحراسة الشخصية، تلك التي انتشرت مؤخراً، تصور محاولة أحد المواطنين السعوديين وضع يده على كتف الملك سلمان، أثناء السلام على جمهور كبير من المستقبلين، ليبدو كما لو أنه يلتقط صورة شخصية مع الملك، فانتبه الحارس الشخصي للملك بسرعة لافتة، وأبعد يد الشاب وطالبه بالابتعاد.
  ربما بعد تلك الوقائع تبادر إلى ذهنك موضوع الحراسة الشخصية للزعماء والمشاهير والشخصيات المهمة، وأهمية هذه المهنة الخطرة والحساسة، التي لا تُسند إلا لأشخاص على درجة عالية من الضبط والربط والكفاءة القتالية الدفاعية، والتمتع بحس أمني عال دقيق.

  المشاهير وأصحاب المهام والوظائف الحساسة، كزعماء الدول مثلاً، تدفعهم الظروف المحيطة إلى طلب الحماية الشخصية، أو يتم تخصيص تلك الخدمة لهم دون طلب، إن كانوا رسميين، كإجراء أمني معروف مطلوب. فترى الزعيم أو السياسي أو ما شابه، في حماية حارس شخصي يكون له كالظل، ويكون متحفزاً ومتنبهاً كالصقر، لا يتفاعل مع الجو المحيط، وكل همه وتركيزه أن يحمي صاحبه من أي اعتداء أو محاولة الاقتراب والتلامس الجسدي معه، ما لم تكن التعليمات عكس ذلك.

  في هذا السياق تذكر كتب السيرة قصة للصحابي الجليل المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه مع عمه، يرويها بنفسه، قائلاً: بعثت قريش عام الحديبية عـروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه، فأتاه فكلمه.. وجعل يمس لحيته، وأنا قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقنّع في الحديد، فقال المغيرة لعروة: كُف يدك قبل ألا تصل إليك!  هكذا بكل وضوح دون أي اعتبار لصلة القرابة بينه وبين عروة ومكانته في ثقيف . 
فقال: من ذا يا محمد؟ ما أَفظه وأغلظه ! فقال صلى الله عليه وسلم: ابن أخيك". فقد كان الصحابة يحيطون النبي الكريم ويحرسونه، تحسباً لأي أذى محتمل قد يتعرض له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي لم يرفض ذلك، رغم أنه معصوم محفوظ من الحفيظ سبحانه، ولكنه درس نبوي عظيم في أهمية اتخاذ الأسباب أيضاً.