كلنا يسافر بالطائرات ، لكن لم يلحظ أحدنا يومًا أن طائرة تطير بغير ما هو معروف في عالم الطيران من القواعد المتبعة فيه . فالطائرة قبل أن تطير تجد أن تعليمات معينة يتم التنويه بشأنها للمسافرين ، وقبل ذلك تكون هناك فحوصات فنية معينة وفق أسس معروفة.. وبعد أن تقلع الطائرة هناك قواعد وأنظمة على فريق القيادة أن يتبعها منذ لحظة الإقلاع حتى توقف الطائرة .. وهكذا تطير الطائرات ويسافر الناس عليها دون أن يشعروا أن أمراً غير طبيعي يحدث إلا ما ندر لظروف خارجة عن الإرادة . ولا اعتقد أن أحدنا اهتم يوماً قبل أن يركب الطائرة ويسأل عن اسم الطيار أو مساعديه . فلماذا لا يهتم أحدنا بذلك ؟
لا نهتم بذلك لأن المهم عندنا أن تطير الطائرة وفق التوقيت المحدد ونصل إلى وجهتنا سالمين ليس اكثر ، بغض النظر عن الطيار ومن يكون ، بل لا يهم مطلقا ذلك سواء كان الطيار شابا أم طاعنا في السن ، عربيا أم أجنبي ، كل ذلك لا يهم .. المهم أن تطير الطائرة من محطة إلى أخرى بسلاسة وهدوء حسب المستطاع ، واضعين في الاعتبار ظروف جوية استثنائية خارجة عن الإرادة فهكذا هي نفسية المسافر بشكل عام ..
نعود لموضوعنا الأساسي لنقول بأن الأمر شبيه جدا بدول المؤسسات . فدولة المؤسسات هي بمثابة الطائرة ، مهمتها أن تطير بالمسافرين من وجهة إلى أخرى بكل سلاسة وهدوء . لهم حقوقهم أثناء تقديم هذه الخدمة وعليهم واجبات أيضا .. قيادة الدولة القائمة على نظام المؤسسات هي بمثابة الفريق الذي يقود الطائرة وفق أسس وقواعد معروفة في عالم الطيران ، يتبعها الطيار ومساعده والفريق الهندسي إضافة إلى بقية أفراد الطاقم ، كل فرد يعرف ما له وما عليه .
الشعب ها هنا هم المواطنون الذين يريدون من قائد الطائرة أن يوصلهم إلى مقصدهم بأمان ويسر ، وهم على استعداد لدفع ما يلزم . فالشعب يريد هكذا قيادة . لا يهم من يكون الرئيس ومن سيعاونه . يريد أن تسير الدولة بهدوء نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية لها . يتعاون الشعب مع القيادة . كل فريق يعرف الحقوق والواجبات . القيادة تعرف أن واجبها إدارة وتنظيم العلاقات بين مؤسسات الدولة المختلفة لتحقيق سياساتها العامة والمرحلية وفق قوانين ووسائل مشروعة معروفة ..
مؤسسات المجتمع المختلفة في الدول المؤسسية تكون هياكلها وقواعدها معروفة وثابتة ، تقدم خدماتها في الدولة دون أن تتأثر أو تتلون بتوجهات رئيس الدولة ومن معه ، حتى لو تغير عدة رؤساء أو حكومات فهي لا تتأثر ولا تهتز ، بل تدرك أن هناك قوانين ودستوراً ، فهي لا تهتم بما يحدث في الجزء السياسي للدولة الذي يكون عرضة للتغيير ، فهي تبني أجهزتها وهياكلها على ذلك . ولهذا تجد أن الدولة المؤسسية يأتيها رئيس جديد ومعه بالطبع حكومته ، لكن بشكل عام لا تجد أن قلقاً أصاب الناس ، ولا تجد توتراً أو طوارئ ، بل الحياة هي نفسها التي كانت قبل مجيء الرئيس الجديد ..
ولهذا تجد عجلة الإنتاج والتقدم لا تقف ولا تتأثر بالظروف السياسية التي تمر بها قيادة الدولة ، عكس ما هو حاصل في عوالم أخرى حيث تهتز الدولة عن بكرة أبيها ، بل تتغير وتتلون حسب مزاج وفكر وعقلية الرئيس الجديد ، وتظل الدولة متأثرة غير مستقرة لحين من الدهر غالباً ما يكون طويلاً ، حتى إذا ما ظهرت بوادر استقرار تغير الرئيس فجأة بذاته عن طريق انقلاب عسكري أو ضغوط خارجية للتحول إلى اتجاه سياسي أو اقتصادي معين حدوث أزمة داخلية خانقة لا يجد الرئيس أو الحكومة من مفر سوى اتباع سياسة اللحظة والتي غالباً لا تأتي بخير ، فيتم تغيير قوانين وأنظمة للتغطية على الأزمة أو الفشل الحاصل في البلد ، فتتأثر تبعاً لذلك مؤسسات الدولة أيضاً ..
تجد دولاً كثيرة في العالم اليوم أنظمتها غير مستقرة . فمن عسكرية إلى ديمقراطية عوجاء ناقصة إلى ديكتاتورية فوضوية مرة أخرى ، إلى حكم الحزب الواحد إلى غيرها من أنظمة . وطبيعي أن تتأثر الدولة بمن وما فيها بتلك التغيرات . في حين أن الغرب والولايات المتحدة على رأسها مثلاً تشهد استقراراً وثباتاً في الهياكل والأسس والتنظيمات والقوانين ، ومؤسسات التشريع والتعليم والإنتاج والأبحاث وغيرها تسير وكأن شيئاً لم يقع أو يكن . يأتي ريغان ليدير الدولة ويروح ثم بوش ويختفي ثم يأتي الدور على كلينتون ثم جورج بوش وبعده أوباما .. وهكذا منذ سنوات عديدة ، وأمريكا هي نفسها ، تقوى وتكبر وتزداد قوة إلى قوتها وتأثيراً أكثر من ذي قبل .
الأمريكي إن ضاع حق له ، ذهب إلى مؤسسة القضاء وليس أوباما مثلاً ، فالمؤسسة هي الثابتة وأوباما هو غير الثابت ، بل يأتي لفترة ويذهب ، بل إنه لا يملك صلاحية المؤسسة القضائية أصلاً . تأتي مثلاً ابنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش وتخطئ ويتم إصدار حكم قضائي عليها ، فلا يقدر الأب الاعتراض على الحكم ، وهو رئيس أقوى دولة في العالم ، لماذا ؟ لأنه عرف واجباته وحقوقه ، مثلما أدرك صلاحياته وحدود مسؤولياته ، وأن أي مخالفة من شأنها تعريضه لمحاسبة ومحاكمة هو في غنى عنها .. فأنّى لهذا أن يحدث في غير دول المؤسسات ؟ بل هل تجرؤ محكمة في دولة غير دول المؤسسات والقانون ، التعرض للرئيس أو أحداً من عائلته أو أصدقائه أو حتى خدمه ؟!
إن دولة المؤسسات تحتاج إلى الكثير من التضحيات والجهد ، وليست إلى شعارات ودعايات ، فإن المسألة ليست متعلقة برغبات ونوايا فقط ، وإن كانت مهمة في البداية ، وإنما تحتاج إضافة لذلك إلى ربط كافة العناصر بعضها ببعض ، من توعية مجتمعية مستمرة إلى بناء هياكل وأنظمة للمؤسسات القائمة ، مرورًا بالتوسع في إنشاء المؤسسات أصلاً ، وانتهاء بتسيد القانون وتفعيله وغيرها من خطوات وإجراءات عملية عديدة لا بد منها في مشروع بناء الدولة المؤسسية الثابتة الراسخة .
هناك تعليق واحد:
موضوع رائع جداً وأعجبني رغم انه طويل
إرسال تعليق