في مقالين سابقين دار حديثنا حول شعورين قويين جارفين لا ينجو منهما إنسان وإن فعل ما فعل ، وهما شعور حزن على ماض وشعور قلق على ما هو آت.. وعرفنا أن الشعورين ما هما إلا وجهان لعملة واحدة، كل شعور يؤدي بصاحبه إلى أن يتوقف ويتعطل عن النافع المفيد.
يتعطل الذي يحزن على ما فات من أمر أو مصلحة أو غيرها من أمور الدنيا، ويتعطل بالمثل من تجده يحمل هموم الغد المتنوعة، بدءاً من البيت والعيال ومروراً بالعمل وتحدياته والصداقات وغيرها وانتهاء بالمال وطرق تحصيله.
يتعطل أولئك لسبب مهم ربما يدركونه أو لا يدركونه . يتعطلون عن النافع المفيد غالباً لأنهم لا يدركون فلسفة الحياة بشكل عام، تلك الفلسفة التي لو فهمناها حق الفهم فلن يكون هناك متسع أو مساحات من الوقت للحزن على ما فات أو حمل هم ما هو آت.
إن جلست تحزن على الماضي فلن تعيده أبداً، لأنه أمر وانتهى، وإن جلست تحمل هم الغد فلن تقدر على منعه أو تغييره لأنك لا تدري كنهه أو ما هو هذا الشيء القادم حتى تتخذ العدة اللازمة لمواجهته. لكن الطريقة الناجعة، أكيدة النجاح والمفعول والأثر ، للتعامل مع الأحزان على الماضي أوحمل هموم المستقبل، إنما تكمن تكون عبر الإيمان الراسخ الجازم الذي لا يتزعزع .. إنه الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما نكرهه قد يكون خيراً لنا، وما نحبه ونرغبه قد يكون شراً مستطيراً.
عبر هذا الفهم ، لن تجد أحدنا سيحزن بذاك النوع من الأحزان المقْعِدة عن العمل والمعطلة عن كل ما هو نافع ومفيد، ولن تجد أحدنا سيحمل همّ ما قد سيكون بعد لحظات من وقته الحاضر. إن ذاك الفهم للحياة وأحداثها وطبيعتها يقودنا إلى الاستمتاع الحقيقي بها، وبحسب ما أمرنا ربنا، لا نجزع ولا نحزن على أمر مضى، ولا نقلق على أمر ما زال في علم الغيب قائماً لم يتلق الأوامر بعد للنزول إلى الأرض وواقع الحياة الدنيا .
لا أقول بالتوقف عن الأحزان أو عدم التفكير في المستقبل، لا يمكننا القيام بذلك لأننا بشر أصحاب مشاعر وخواطر نحزن ونقلق، ولكن في حدود المعقول، لأن كتم الحزن لا نفع من ورائه، وقد يؤدي إلى ما هو أسوأ، وبالمثل الابتعاد عن القلق الإيجابي نحو المستقبل، سيؤدي إلى البلادة وفقدان الإحساس بأهمية إدارة الحياة، وهذه مشكلة أكبر من أختها السابقة.
وخلاصة القول إن الحياة تستحق أن نعيشها بالقلب والعقل معاً، لا يطغى أحدهما على الآخر.. فلا إفراط أو تفريط وحبيبنا صلى الله عليه وسلم ذكرنا بقوله الشريف :" من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا " وهذه خلاصة حديثنا اليوم واليومين الفائتين ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق