أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 17 يوليو 2025

حين يكون صاحب قرار مجنون عظمة !

  



    الوهم بحسب التعريف الطبي هو عدم قدرة الفرد على التمييز بين الواقع وما يتخيله. وهو أنواع عديدة لن نسترسل ونتحدث عن تلكم الأنواع سوى نوع واحد هو ما يسمى بوهم العظمة، أو ما يمسيه الأطباء بجنون العـظمة، الذي قالوا في تعريفاتهم أنه مزيج من مشاعر وأفكار ناتجة عن شعور مبالغ فيه من القلق، أو الخوف، أو الاضطهاد، أو التهديد، أو التآمر، بحيث تتحول تلك المشاعر أو الوهم بعد حين من الدهر قصير، إلى معتقدات غير حقيقية، لكن يؤمن بها من يعيش هذا الوهم أو جنون العظمة.


   قد تلعب الجينات أو الصفات الوراثية في صناعة هذا الوهم في الإنسان، لكن العنصر الأهم في ابتلاء المرء بهذا الوهم، هو البيئة المحيطة التي يعيشها من هو مبتلى بهذا المرض النفسي، إن صح وجاز لنا التعبير. فالمشكلات والاضطرابات العائلية، أو ما حولها تزيد من احتمالية أن يُبتلى المرء بهذا الوهم أو وهم العظمة، بحيث تراه بعد الابتلاء، أنه دائم الريبة والشك في الآخرين من حوله حتى يتعمق هذا الوهم عنده، ليبدأ يعتقد أن أي وجهة نظر أو انتقاد يسمعه أو يقرأه، إنما هي إشارات أو رسائل تقصده هو دون غيره، أو أن أفعالهم وأقوالهم لابد أنها موجهة ضده أو تقصده، بالإضافة إلى شعور خفي دائم عنده ويتعمق، مفاده أن دوره في البيئة التي يعيشها مهم، لكنه غير معترف به، وأن هناك من يسعى دوماً للانتقاص من قيمته وشأنه وإحباط جهوده !


   إنّ أسوأ السيناريوهات في هذا الأمر، أن يُبتلى بهذا المرض من تؤول إليه الأمور بقدرة قادر ليكون صاحب قرار، كأن يكون رئيس دولة، أو وزيراً في دولته أو مديراً عاماً في شركة أو مؤسسة ما، أو مدير إدارة أو ما شابه من مناصب ذات صلاحيات.. فإن حدث وصار المبتلى بجنون العظمة صاحب قرار في كيان ما، دولة كانت أم وزارة أم شركة أم نحوها، فإن الأجواء مهددة بأن تتسمم وتحيطها سحب القلق والتوتر، وفي الوقت ذاته تنشط جماعات التطبيل أو النفاق، الباحثة عن مصالحها قبل أي شيء، حيث ترى في إحاطة هذا الموهوم بالعظمة، فرصة ذهبية لاحت لهم وربما لا تتكرر، إن هم لم يستغلوها في تحقيق أكبر كمٍ من المكاسب بالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب.

 

نموذج لمجنون عـظمة


ربما وأنت تقرأ في هذا الموضوع، بدأت في استحضار نماذج من هؤلاء ربما أوقعتك الأقدار يوماً التعامل معهم، أو أنك لازالت تتعامل معهم، وصرت مجبراً على تحمل الكثير من المعاناة والآلام لظروف حياتية أجبرتك البقاء تحت ظلهم..

  قد يكون أفضل مثال تحدث كثيرون عنه وما زالوا، وربما سيأتي من يتحدث عنه مستقبلاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو ذاك الفرعـون الذي كان في زمن موسى وهارون عليهما السلام. الفرعون الذي ارتكب جرماً لم ولا أظن أحداً من بني البشر سيرتكبه، حتى تساوى هو وإبليس في الدرجة.

 فأما إبليس فقد استكبر وعصى أمر خالقه لأوهام اعتقد بصحتها، فكان نصيبه الطرد من رحمة الله بشكل قاطع نهائي. وأما فرعون هذا، فقد ادّعى الألوهية ( فقال أنا ربكم الأعلى ) ثم جاء في موقف آخر ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ) !  هكذا أوصلته أوهامه وجنون العظمة فيه إلى أن يدّعي الألوهية، في سابقة بشرية غير معروفة. 

  هذا الفرعون هو أبرز نموذج بشري أصابه مرض الوهم، أو وهم وجنون العظمة، فكان بلاء على شعب مصر، سواء المصريون أو غيرهم كبني إسرائيل.. الجميع عانى من أوهامه وشكوكه وارتيابه في أغلب من كان حوله قبل غيرهم من عامة الناس، وتلك الأوهام تسببت بالضرورة في معاناة الناس تحت حكمه سنين طويلة، حتى انتشر الرعب والخوف في مملكته، فكان بلاءً وعذاباً مستمراً. 

 

النهايات البائسة لمجانين عـظمة 
    

استمرت أوهام الفرعون حتى آخر دقائق حياته في مشهد نهائي، أو مشهد وصوله إلى البحر وهو يطارد بني إسرائيل.. فقد كان مشهد انفلاق البحر لبني إسرائيل على يد موسى عليه السلام، مشهداً رهيباً، وإن لم يحضر فرعونُ وجنوده لحظة الانفلاق تلك، التي وبقدرة الله تحول قاع البحر إلى اثني عشر طريقاً يبساً على عدد أسباط بني إسرائيل.

   يقترب فرعون وجنوده من البحر بعد حدوث الانفلاق، حتى إذا أشرف على الماء، كما جاء في تفسير الطبري، قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله، إنّ القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه، أي أعده إلى ما كان عليه حتى يكون حاجزاً بيننا وبين هذا المهووس بالعظمة وجنون الارتياب. فأراد موسى أن يفعل، فأوحى الله إليه ( أن اترك البحر رَهْوا ) أي اتركه على حاله، فإنما أمكرُ بهم، فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم.

   فلما نظر فرعون المتكبر المتجبر إلى البحر قال: ألا ترون البحر؟ فَرَقَ مني حتى تفتّح لي حتى أُدْرك أعدائي فأقتلهم ! هكذا وصل به الظن والجنون والوهم، فسار هو وجنوده نحو بني إسرائيل، حتى إذا ما انتهى إلى وسط البحر، أوحى الله إلى البحر أن خذ عبدي الظّالم وعبادي الظلمة، فإني قد سلطتك عليهم. فتغطغطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال، أي غطست تحت تلك الأمواج. فغرق فرعون وجنوده ولم يخرج أحد من أولئك الظالمين، وفي الطرف المقابل يقف بنو إسرائيل مع موسى وهم ينظرون.


   نهاية دنيوية بائسة لمجنون عظمة، تنتظره حسابات أخروية أليمة. ولا أقول بأن نهايات كل مهووس او مجنون عظمة تكون كنهاية فرعون، لكن من المؤكد أن المبتلى بهذا الوهم، والذي يخلو قلبه من إيمان بالله وحُسن ظن به، سيتعمق في أوهامه وجنونه حتى يرتكب آثام وكبائر ذنوب، خاصة إن وجد تفاعلاً إيجابياً يؤيد أفعاله وأقواله من لدن زمرة مطبلين أو منافقين منتفعين.

ومن المؤكد أيضاً، أن نهايته ستكون بائسة يسجد كثيرون لله شكراً على خروجه من مشهد حياتهم. وللأسف أن أمثاله كثير اليوم كما كان بالأمس، ولا تتسع المساحة ها هنا لحصرهم فضلاً عن ذكرهم..

فاللهم لا تسلّط علينا مجنون عظمة، لا يخافك فينا ولا يرحمنا. 

 

       

 

الخميس، 10 يوليو 2025

أين اختفى العـلماء ؟

   
  

 " إن العـلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً

 إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ".

 أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء.

العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة.

إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات.

تلك المرتبة لابد وأن تقتضي منهم الحفاظ عليها، والقيام بحقها.

فهل علماء اليوم كذلك؟

 

   العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغ وفاعل. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب.

فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟


  معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مئة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم..

فهل أجدت نفعاً؟

 

العلماء بوصلة الأمة    

   التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوض للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار ملفتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات.

وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا ارشاد علمائي؟         

  لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لهم. 

  فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها فانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم !

 

 استقلالية العلماء المالية    


    من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إنّ عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف !

   ما عاناه الأئمة والعلماء السابقين كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس. 

 

تأثير العلماء على مستقبل الدول  


   إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العـز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة له في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، يلعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول.

   مما يحكى عنه، أن الملك سيف الدين قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبد السلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد. 


  الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية ( لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش ) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة.

 

    خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبد السلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإنّ سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة.

    إنّ أمة ظهر فيها العز بن عبد السلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.