أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 9 يناير 2025

ولكن أكثر الناس لا يشكرون

    



يحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد العلماء، وشكا إليه فقره، فقال له العالم: 

أَيسُرُّكَ أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟

فقال الرجل: لا

قال العالم: أيسرك أنك أخرس ولك عشره آلاف درهم؟

فقال الرجل: لا

قال العالم: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟

فقال الرجل: لا

قال العالم: أيسرك أنك مقطوع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا؟

فقال الرجل: لا

قال العالم، أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك نعم بخمسين ألفا ؟!  

   

  بالشكر تدوم النعم. هكذا تقول التجارب البشرية، وهي التجارب ذاتها تؤكد أن كفران النعم، سبب لزوالها. والإنسان بحسب طبيعته - كما قال السعدي في تفسيره " لا تسمح نفسه بما عليه من الحقوق، فتؤديها كاملة موفرة، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية، إلا من هداه الله وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق".

   أغلبنا ينظر إلى المفقود من النعم وإن كانت قليلة نادرة، ولا يشعر بالموجود، وهي كثيرة وافرة.  ومن هنا يعاتب الله الناس أن أكثرهم غير شاكرين، غير حامدين، بل لنعمائه جاحدون ! حاول أن تجلس إلى نفسك يوماً لتعد وتُحصي نعم الله عليك، سواء في بدنك، أو بيتك أو محيطك أو ما شئت من المجالات التي ترى فيها نعم الله عليك وعلى أحبائك. حاول أن تكتبها كي لا تنسى نعمة أو أخرى.

  ستجد في لحظات قليلة، قائمة طويلة عريضة تشكلت عندك، وفيها من نعم الله الكثير الكثير. وستجد أن نعم الله عليك فعلاً لا تُعد ولا تُحصى. ولكن لتكرارها حولنا أو اعتيادنا على وجودها في كل لحظات حياتنا، ننسى أنها من نعم الله التي يغرقنا الله بها رغم كل التقصير في حقه سبحانه. نعمٌ ظاهرة وباطنة، تستوجب شكراً دائماً أبدا..


   إنّ زيارة سريعة لعدد من المرضى في أي مستشفى، ستدفعك دفعاً وأنت خارج عنهم أن تشكره سبحانه في كل دقيقة وثانية.. تشكره على نعمة العافية التي لا يمكن لأحد أن يساوم عليها بملايين الدراهم والريالات أو الدولارات، وهي واحدة من نعم الله علينا وعليك. ألا تلاحظ معي أن الناس في لحظات معينة من حياتهم صارت تدفع ما تملك، لتسترد ما كانت تملك من صحة وعافية؟ نعمةٌ لا نشعر بها إلا حين تغيب عنا ولو للحظات. 

  يقول ابن قيم الجوزية:" إظهار النعمة والتحدُّث بها من صفات المؤمنين الشاكرين، وأما أن يكتم المرء النعمة، ويُظهر أنه فاقد لها؛ إما بلسان الحال أو المقال، فهو كفرٌ لها، وهو من صفات الكافرين الجاحدين، وإنما سُمي الكافرُ كافراً؛ لأنه يغطي نعمة الله التي أسبغها عليه، ويجحدها ولا يقرُّ بها ".

      حين منّ الله على نبيه داود – عليه السلام – وآله، بأشكال وصور شتى من النعم التي لم توهب لغيرهم، قال لهم ( اعملوا آل داود شكرا )، ليس شكراً بترديد كلمات وأذكارا فحسب، بل ذلكم الشكر الذي يكون بالقلب واللسان والجوارح.

  أما الشكر بالقلب فيكون عبر الاعتقاد الراسخ أن ما أنعم الله عليك، فإنما هو من فضله سبحانه ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وأما باللسان فعبر الرضى والقناعة بما عندك، وفي الوقت ذاته تسأله سبحانه المزيد من فضله وكرمه. وأما الشكر بالجوارح فعبر استخدام نعم الله فيما يرضيه سبحانه لا ما يجلب غضبه.

   يروى عن أحد الصالحين أن الرجل إذا سلم على الرجل، وسأله كيف أصبحت، فقال له الآخر: أحمدُ الله إليك. يقول المَلَك الذي عن يساره للذي عن يمينه: كيف تكتبها؟ قال: أكتبه من الحامدين. وروي أن رجلين من الأنصار التقيا، فقال أحدهما لصاحبه: كيف أصبحت؟ فقال: الحمد لله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا هكذا

  نقطة أخيرة في موضوع الشكر وتدور حول الوعد الإلهي للشاكرين الحامدين، وهي أنه سبحانه يزيدهم من فضله ويبارك فيما ينعمه عليهم ( لئن شكرتم لأزيدنكم )  فكلما شكرتَ الواهب، زادك من فضله وبارك لك فيما أعطاك.

   لكن إن وجدت نفسك لا تشكر الله على نعمائه، وبعيد عنه سبحانه، ومع ذلك لا تشعر بنقصان النعم والخيرات والثروات، بل تراها تزيد وتتكاثر، فاعلم أن الله يستدرجك. والاستدراج يعني الهلاك دون أدنى شك ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) والمبلسون هم اليائسون من كل رحمة وكل خير.  

                    فاللهم اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أوّاهين منيبين.. آمين يا رب العالمين.



الخميس، 5 ديسمبر 2024

الإنسان العجول اليؤوس

 


  

   جاء في تفسير جامع البيان للطبري أنه لما نفخ الله في آدم من روحه، أتت النفخة من قبَل رأسه، فجعل لا يجرى شيء منها في جسده، إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، حيث بقيت رجلاه. فلما كان بعد العصر، قال: يا ربّ عَجّل قبل الليل، فذلك قوله تعالى ( وكان الإنسان عجولا ).

   كانَ الإنْسانُ عَجُولا، أي ضَجِراً لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. أي أن الإنسان في وقت الضجر ربما يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استُجيب له في الشر كما يُستجاب له في الخير لهلك، كما جاء في تفسير الرازي، الذي أضاف بأن " الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يَقْدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور، غير متفحص عن حقائقها وأسرارها ".

   إذن خلاصة هذا الموضوع - لمن لا يحب الإطالة فيه ويرغب الانتقال إلى غيره - أن اليأس والعجلة من أبرز صفات بني البشر، بل ربما كثير من المشكلات والأزمات تأتي كنتيجة طبيعية لتلكم الصفات والطبائع البشرية.


ولكن لمن أراد المتابعة، أقول

بالتعلم والتدرب والاستمرار في العمل والسعي، مع عدم اليأس والقنوط واستعجال النتائج، يمكننا تحقيق الكثير من الأهداف والغايات السامية والنبيلة، بعد اليقين التام بأنه رغم العمل والسعي واتخاذ الأسباب، كلُ شيء بقدر.

الله تبارك وتعالى يصف الإنسان أنه يئوس قنوط ( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ). أي أنه يسأل الله دوام الصحة والعافية وسعة الرزق وغيرها من مباهج الدنيا وزينتها، حتى إذا ما نزلت به مشكلة في صحته أو ماله أو عياله أو مصدر رزقه، عاش الاكتئاب وخضع لمشاعر الإحباط والانهزام، ودخل في أجواء من اليأس والقنوط كأنه لم يذق نعمة من ذي قبل، ولم يسعد لحظة من لحظات حياته الفائتة، أو كأن الذي أنعم عليه ووسّع له في رزقه، وبارك في صحته وعياله، ليس هو من سيكشف السوء عنه إن دعاه. وهذا بالطبع سوء أدب مع الخالق، وسوء ظن واضح به وخلل عميق في الإيمان.

   الإنسان إذن مع عجزه في ضبط صفة اليأس والقنوط ، قد تتعقد أموره أكثر وتتشابك حين تداهمه صفات أخرى لا يقوم بضبطها سريعاً، وأبرزها استعجال الخير والنتائج، مع ما يترتب على ذاك النوع من الاستعجال من نتائج تكون على الأغلب سلبية، لا تحمل الكثير من الخير.


   حين تتأمل قوله تعالى ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) ترى أن الإنسان لا يستعجل الأمور الخيّرة فحسب، بل حتى السيئة، فهو إن غضب على ولده أو أهله أو خادمه أو مركبته أو أي شيء ذات صلة به، تجده يدعو عليهم بالسوء والشر. ولو أن الله يستجيب له كما هو الحال مع دعاء الخير، لهلك هذا الإنسان ومن يدعي عليه.

   بمعنى أكثر وضوحاً.. لو أن هذا اليئوس العجول يصبر بعض الشيء، ويمتلك زمام أموره ويسيطر على مشاعره المتنوعة قدر المستطاع، ويكون هو سيد قراره في أي موقف يدفعه إلى التهور والتعجل، فيضبط أعصابه كما تقول العامة، فإنما يكون قد سلك طريق خير لا غيره.. والأمر نفسه يتكرر حين يأتي ويستعجل نتائج عمله حتى لو اعتقد أنه عمل خير، فإن استعجال نتائج ذلكم الخير يأتي في نفس درجة من يستعجل بالدعاء على ما أغضبه.. النتيجة واحدة.


   زبدة الكلام.. عليك بالصبر في كل أمورك. إذ يكفيك اطمئناناً أن الله مع الصابرين. فهذا يدعوك لأن تصبر على جهالة وأذى سفهاء وجهّال البشر، وتصبر على آلام الفقدان والحرمان، أو غيرها من المكدرات جالبة الأحزان.

  هذه حياة كلها دروس وعبر. العاقل من يستفيد منها في تعديل مساره نحو الهدف الأسمى والأرقى أو الجائزة الكبرى في الآخرة. فاصبر وتصابر، وما صبرك إلا بالله. هكذا يُذكّرُ الله نبيه الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم. أي اصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله، كما يقول الطبري، وما صبرك يا محمد إن صبرت، إلا بمعونة الله وتوفيقه إياك.. فاللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين، ومن عبادك ( الذين  يستمعون القول فيتبعون أحسنه ).