أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأربعاء، 28 أغسطس 2024

حياة الماعـز وصناعة السينما !

 

   

 ليس حديثنا هنا عن حيوان الماعز – أعزكم الله – ولا لي دراية بحياتها وكيف تعيش حتى أتحدث عنها. لكن بالطبع أزعجني وربما الكثير منكم، ذلكم الضجيج المثار حول الفلم الهندي السينمائي "حياة الماعـز" الذي تم انتاجه بناء على رواية صدرت قبل سنوات عدة لم ينتبه لها كثيرون إلا بعد أن تحولت إلى فلم درامي سينمائي، وخصوصاً بعد أن تم عرض نسخة مترجمة منه على منصة " نتفليكس " فجذب الاهتمام والأنظار، بل زاد من شعبيته !

   الفلم، وإن حكى قصة حقيقية وقعت بالسعودية قبل سنوات مضت لا تخلو أرقى المجتمعات منها، لم أجد أنه يحتاج لكل هذا التفاعل من الجانب العربي المسلم، سوى ما كان بالشكل الذي يتم عبره توضيح حقائق وخفايا أمور، لكن دون رفض محتوى الفلم جملة وتفصيلاً في الوقت نفسه، باعتبار أن الجانب الإنساني في الفلم والمتعلق بظلم الإنسان لأخيه الإنسان، قضية أزلية مستمرة منذ قصة قابيل وهابيل، وبالتالي لابد من الوقوف ضد الظلم في كل زمان ومكان.  هذه نقطة أولى.

   نقطة ثانية مهمة في هذه المقدمة وهي أن الفلم، وإن أظهر الجوانب الإنسانية في مشاهد العامل وهو بالصحراء، تناسى عن عمد وقصد، جوانب إنسانية لدى أهالي حفر الباطن، حيث جرت أحداث القصة بجزء بعيد في عمق صحرائها، الذين تكاتفوا وسعوا إلى جمع مبلغ 170 ألف ريال دية المقتول، وهو هاهنا الظالم، أو الكفيل كما سماه الفلم، وذلك بعد أن تم اعتقال العامل وسجنه لخمس سنوات بسبب القتل الخطأ.

ولم يتطرق الفلم كذلك إلى إنسانية أبناء الظالم، وتنازلهم عن الدية، بل ومنحها للعامل كاملة مع عشرين ألف أخرى، كنوع من التعويض على سنوات عشر أمضاها العامل في السعودية بدون أجر.

   إضافة إلى ما سبق، لم يتم التطرق في الفلم عن قصد أيضاً، إلى العامل غير المسلم وهو يرى إنسانية الأهالي، ومن ضمنهم أبناء ظالمه الجاهل، وتأثره بتلك الأخلاقيات الإسلامية، ما دفعه إلى إعلان إسلامه بعد أن رأى وعاين بنفسه سماحة هذا الدين التي ظهرت في سلوكيات الأهالي، والذين أظهرهم الفلم على أنهم عديمو رحمة وقساة غلاظ في إحدى مشاهد العامل وهو داخل المدينة، مع خلفية لصوت مؤذن ينادي الله أكبر، مع لقطة خاطفة لمئذنة مسجد، من أجل ترسيخ وربط فكرة القسوة والغلظة بالإسلام في ذهنية المشاهد !     

    لو نظرنا كنقطة ثالثة مهمة في هذه المقدمة، وبشكل أوسع إلى مسألة الظلم كما يريد الفلم أن يظهرها، ودققنا النظر في الواقع نحو ما يجري في الهند نفسها من اعتداءات الهندوس الممنهجة والمستمرة على المسلمين، فربما احتجنا مئات الأفلام وآلاف الروايات للحديث عنها، هذا بفرضية رغبتنا الدخول في سباق مع الآخر وبيان ما عنده من مساوئ ومظالم وشرور أيضاً. لكن ما هكذا تورد الإبل - كما تقول العرب - لأن المسألة تحتاج منهجية وعمل واضح منظم لا يعتمد على ردود أفعال، وهذا هو محور حديثنا اليوم.

   لكن قبل أن نتعمق أكثر، هناك نقطة أخرى أخيرة مهمة في هذه المقدمة الطويلة، ومن باب تأكيد المؤكد ليس أكثر، هي أنه لا يوجد مجتمع ملائكي الصفات بين البشر، والظلم بأنواعه موجود في أرقى المجتمعات والأمم، وليس عند العرب فقط كما يريد أن يقول هذا الفلم، كواحدة من رسائله غير المباشرة.  ثم إن الفلم لن يكون آخر الأفلام في سلسلة الانتاجات الفنية الموجهة والمغرضة، سواء الهندية أو غيرها من تلك التي تسير على درب هوليوود، والتي فعلت بنا أكثر من بوليوود ونظيراتها آلاف المرات.

 

  صناعة السينما

ليس المهم هاهنا الحديث عن الفلم بقدر أهمية تأمل السؤال الذي يفرض نفسه دوماً في مثل هذه المناسبات والأحوال:

 أين هي السينما العربية؟

 وأين هو الإنتاج الفني الإعلامي العربي المسلم الذي يكشف الحقائق دون مبالغات أو اساءات؟

 ستجد أنه لا أثراً أو إجابة مقنعة، وإن وجدت بعض أعمال فنية هنا وهناك، فهي غالباً لا تجد ذلكم الدعم الذي يوصلها للعالمية أو إلى الساحات التي يمكن عبرها توصيل رسالتنا للعالم، وهو الأمر الذي يدعونا للتساؤل المستمر أو المتكرر في كل حين : لماذا لا تنشط المؤسسات الفنية والإعلامية في انتاج دراما فنية هادفة تخدم قضايا الأمة، ولماذا لا تنشط في الوثائقيات وتكشف المستور في تلك المجتمعات التي تتفنن منذ عقود طويلة في الاساءة لنا كعرب ومسلمين، كالمجتمع الأمريكي أو الغربي بشكل عام، ومعهم الآن المجتمع الهندوسي والصهيوني وغيرها من مجتمعات معادية؟   

   الفن السينمائي أو إن صح التعبير، صناعة السينما، تحتاج إلى كثير رعاية واهتمام في عالمنا الإسلامي. لا أقصد بالسينما الترفيهية العبثية، إنما تلك التي تحمل رسالة واضحة، وتسير وفق رؤى ومنهجية محددة ضمن عمل إعلامي واسع. هذا الفن الإعلامي لا زال مدار بحث ونقاش طويل مفصل يتجدد بين الحين والحين في أوساط علماء الشرع، منذ أن عرف العالم الإسلامي فن التمثيل وإنتاج المسلسلات والأفلام. وما خرجنا من نقاش تلك المسألة بإجماع أو على أقل تقدير، برأي يتفق عليه عدد لا بأس به من العلماء، يكون موجهاً أو معياراً لهذا العمل المهم في زمن الإعلام والمعلومات. 

 

          التخلف السينمائي غير مقبول

نعود للموضوع مدار البحث، ونحن نعيش عصراً متسارعاً في أفكاره وعلومه وتقنياته، والفن السينمائي واحد من المجالات التي اختلفنا عليه فتأخرنا، لنؤكد بأن التخلف في هذا المجال أمر غير مقبول البتة - ونحن كما أسلفنا - نعيش زمن الإعلام والمعلومات ومنها السينما، فيما غيرنا مستمر في ابداعاته واتقانه في هذا المجال حتى ساروا بعيداً بعيدا. وصار هذا الفن سلاحاً فاعلاً بأيديهم لا يقل فعالية وكفاءة وأثراً عن الأسلحة العسكرية والاقتصادية وغيرها.

  هذا الفن أو هذه الصناعة، ايجابياتها تفوق سلبياتها. وليس لأن البعض يستخدمها في الشر فهي بالتالي شر كلها، فنترك جلها. لا، الأمر أوسع من هذا بكثير. إن الكاميرات السينمائية التي تصور الأفلام الهابطة، هي نفسها التي تصور أفلام الاستقامة. إنها آلات صماء تأتمر بأمرك، وأنت من يحركها ويديرها كما تريد وليس العكس.

  إنها هي نفسها الكاميرات التي قام المخرج السينمائي مصطفى العقاد - رحمه الله - باستخدامها لتصوير فيلمي الرسالة وعمر المختار، واستخدمها تلفزيون قطر لإنتاج أروع المسلسلات التاريخية مثل مسلسل عمر الفاروق والإمام ابن حنبل وغيرها الكثير النافع.


 السينما سلاح مؤثر

   ختام القول إنه لا شيء يمنع في استخدام فن السينما في تحقيق المقاصد الطيبة والأهداف الإنسانية النبيلة، وأن نقدم أنفسنا للعالمين بالصورة التي أرادها الله وأرادها رسوله الكريم محمد ﷺ. هذا فن وصناعة، ونحن من يسيطر ويحدد الأطر والضوابط لها، أو هكذا المفترض أن يكون.

 إن إنتاجاً فنياً على غرار مسلسل عمر، أو فلم الرسالة وعمر المختار ومحمد الفاتح كأبرز نماذج سينمائية مسلمة، يمكنها فعل الكثير من التأثير في الآخرين. ومطلوب بالتالي على غرارها، أن يستمر الإنتاج السينمائي أو صناعة السينما بذلكم المستوى وأفضل، وفق رؤى واضحة وأهداف محددة. وبها كذلك يمكننا أن نواجه المخالف الراغب في التشويه والإساءة بنفس السلاح الذي يستخدمه، ليس بالتشويه طبعاً، لكن عبر إنتاج أعمال راقية بديعة تكون قادرة على كشف رداءة بضاعة المهاجم حين يأتي وقت المقارنة.

   بمثل هذا التفكير وهذه المنهجية نخدم ديننا، دون أن نشتت ونهدر مواردنا وجهودنا على شكل ردود أفعال قد تصيب، أو تخيب غالب الأحيان. والله دوماً كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


 

الخميس، 18 يوليو 2024

الهجرة .. فكرة لا تموت

 

  

   بداية وقبل الخوض في بعض تفصيلات الهجرة النبوية الشريفة التي تمت على مراحل عدة، لم تكن الهجرة في شهر الله المحرم كما يعتقد كثيرون. الهجرة كفكرة ومشروع، بدأ التجهيز والاستعداد له في محرم، لكن تمت واكتملت فعلياً بهجرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام مع الصديق أبي بكر، في الثاني عشر من ربيع الأول، كما تقول أغلب روايات المؤرخين. 

   شهر الله المحرم تم اختياره في زمن الفاروق عمر رضي الله عنه حين كان الصحابة الكرام في نقاش حول أهمية وضع تأريخ خاص بالمسلمين، كما عند الرومان والفرس وغيرهم. فتم اختيار محرم لبداية السنة الهجرية، لأن فيه تم تداول فكرة الهجرة واتخاذ القرار، باعتبار الهجرة من أعظم الحوادث في التاريخ الإسلامي، ونموذج للتفريق بين الحق والباطل.

   مسألة الهجرة لم تكن عملاً عشوائياً أو وليد اللحظة. إنما كانت أحد التكتيكات أو الوسائل التي اتخذها الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى، إن صح وجاز لنا التعبير، حيث كانت الهجرة ضمن خطة عشرية رسمها خلال وجوده بمكة، نفذ منها مجموعة عمليات مهدت للهجرة، فكانت آخرها رحلته - صلى الله عليه وسلم – أو لجوئه السياسي إلى يثرب.


اللجوء والاندماج    

  إن هجرة شعب إلى ديار شعب آخر، ليس بالأمر الهيّن. قد يتم الترحيب بك كلاجئ سياسي حيناً من الدهر. لكن إن طال هذا الدهر، فإن احتمالات كبيرة أن تكون النتائج ارتدادية سلبية عليك كلاجئ. إنك حين تهاجر كلاجئ سياسي تطاردك حكومتك مثلاً بكل مؤسساتها وقواها، وربما معك مئات أو آلاف مثلك لسبب أو آخر، فلا شك أنه عبء كبير على الجهة المستضيفة، حكومة وشعباً، بل لابد أن يقوم بعض من آفاقهم وصدورهم ضيقة في بلد اللجوء، بالتحرش والتحريض ضدك وآخرين من اللاجئين أو المهاجرين بصورة وأخرى، تحقيقاً لأهداف أو أجندات خارجية، أو بسبب أمراض نفوس نعوذ بالله منها. ولكم في المشهد التركي مع اللاجئين أو المهاجرين السوريين مثالاً حياً مستمراً، ومواقف بعض العنصريين الأتراك من وجودهم بتركيا، رغم محاولات الحكومة ضبط الأمر، وبقية تفصيلات معروفة للجميع.   

   نعود لمشهد الهجرة المباركة، لنجد أن الجهة المستقبلة والمرحبة باللاجئين أو المهاجرين من مكة، لم تكن بقوة قريش العسكرية والاقتصادية والسياسية بالجزيرة العربية. فقد كانت مدينة متواضعة اقتصادياً. شعبها يعيش على الزراعة، وبينهم خلافات وتصدعات لا تهدأ، كانت تصل أحياناً لحد الاقتتال وسفك الدماء. وقد استفاد من ذلكم الوضع، شر البرية، يهود يثرب، على رغم أنهم هم كانوا قبائل متناحرة أيضاً، لكنها كانت تتفق وتتحد ضد الأوس والخزرج، وكانت تتسبب في أزمات مستمرة لهم. أي أن الوضع السياسي للمدينة أو يثرب، كان مضطرباً غير مستقر، وإثارته في أي وقت لم تكن بتلك الصعوبة، خاصة مع انضمام فئة جديدة هي المنافقون، إلى يهود يثرب أو المدينة فيما بعد.   


الأنصار نموذج للنصرة   

   حاول أن تتأمل وضع يثرب في تلك الفترة. ثم كيف ينقلب ذلكم الوضع بمجيء أفواج مهاجرة متتالية معارضة للنظام السياسي والقبلي والاجتماعي، من دولة ذات شأن وبأس. ثم تأمل كيف كان أغلب اللاجئين الذين خرجوا من ديارهم، لا يحملون سوى زاد الطريق، بعد أن تركوا ما عندهم من مال وممتلكات في بلدهم الأم، وبالتالي سيهاجرون وهم والفقراء في مرتبة واحدة أولاً، ومن ثم سيكونون ثانياً، عالة على أهل يثرب بسبب عدم درايتهم بمهنة أهلها الأساسية وهي الزراعة. فهل ذلك الأمر خفي على مهندس الهجرة صلى الله عليه وسلم؟ بالطبع لا .

فقد ذكرنا منذ البداية أن مشروع الهجرة تم التخطيط له منذ سنوات وبدقة عالية، وبالتالي مسألة اقتصاد البلد وكيفية المساهمة فيه، كانت من ضمن المسائل التي بحثها النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – ووضع الآليات المناسبة لدعم البلد وأهله، بل وعدم إطالة فترة الاعتماد على الغير في تدبير أمور المعيشة اليومية وما بعدها.

   أهل يثرب من الأنصار، بايعوا النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – قبل الهجرة، على أن يكونوا حماة له وللدين الجديد في المنشط والمكره، والسراء والضراء. أما وقد اكتظت يثرب بالمهاجرين، وأصبح الوضع الاقتصادي أصعب من ذي قبل، فإنه يعني أن وقت الضراء حل سريعاً.

   لكن الأنصار على دراية تامة بالتطورات، ووعدهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائم وراسخ بالنفوس لا يمكن أن يتزعزع، على رغم أنه سيدخل في ذلك المشهد بعد قليل يهود يثرب لتشويهه وخلط الحابل بالنابل، ومعهم من سيُطلق القرآن عليهم لفظ المنافقين، ليعمل الفريقان عملهما في إثارة النزعات العنصرية وبث الكراهية في نفوس ضعاف الأنصار ضد هؤلاء اللاجئين. منها: أنهم ما جاءوا إلا ليتقاسموا لقمة عيشهم مع أهل يثرب. ومنها أيضاً، أنهم ربما جاءوا للسيطرة عليها بعد حين، وغيرها من أكاذيب اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان، كما هو الحاصل في بلدان تحتضن لاجئين من نفس الملة !


هجرة الأفكار والمشاعـر 

  الشاهد من قصص وحوادث مشروع الهجرة، أن الفكرة هي نفسها في كل زمان ومكان. لا تموت، بل ترتقي وتتطور، ويتم تعديلها وتحديثها بحسب ظروف الزمان والمكان. إن الهجرة ليست انتقال مادي لأشخاص من موقع لآخر فحسب، بل هي انتقال لأفكار ومفاهيم ومشاعر وأحاسيس من زمن وموقع ما إلى زمن وموقع جديدين آخرين، وخاصة إن كانت ريادية إصلاحية، حيث يتم تفعيلها من أصحابها أو من يحملونها في نفوسهم وصدورهم وألبابهم، من أجل التأثير على من عنده الاستعداد لاحتضانها والتأثر بها.

   هكذا كان الأنصار الكرام. استعداد تام لاستقبال الأفكار والمشاعر والأحاسيس، بل والتفاعل معها بصدق وإيمان، رغبة في الوصول إلى تجانس تام معها ومن يحملونها، وتكوين جسم واحد متكامل بين المهاجر والداعم، أو كما نعرفهم في تراثنا بالأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم.   

   هكذا هي ذكرى الهجرة. دروس وعبر لا تنتهي في كل مرة نتذاكرها ونتدارسها. وكيف تنتهي وقد كانت رحلة هادينا، وقد حمل الإسلام لنا دينا، فسلامُ الله على الهادي والكونُ يردد آمينا.