لا شك أن كثرة قصص فرعون في آيات وسور القرآن لها مغزى، وأنّ تلكم
الكثرة ليست قصصاً تاريخية تروى من باب العلم بحكايا وأخبار الأقدمين، إنما لتنبيه
من يأتي بعدهم جيلاً بعد جيل أن تلك الأحداث ومن عاشوا فيها، هي دروس للتأمل والتفكر
وأخذ العظة والعبرة، وهكذا هي قصص القرآن الكريم.
حتى لا نطيل في التقديم..
الفرعون الذي كان يهيمن على
مقاليد الأمور في مصر منذ ما قبل ولادة موسى عليه السلام، ثم استمر في الحكم حتى
شب موسى وصار نبياً رسولاً مطلوب منه مواجهة فرعون وبقية القصة المعروفة، هو من
أقبح النماذج الظالمة في تاريخ البشرية.
إنه إلى جانب الظلم، كان
جباراً عنيداً فاسداً. ظلم نفسه قبل غيره حين ادعى الربوبية، ولم يقم أحد من قبله
بهذا الفعل الظالم غير الواعي. واستمر في ارتكاب المظالم الواحدة تلو الأخرى. منها
تعذيب الناس في مملكته، لا سيما بني إسرائيل، حيث قام بتسخير رجالهم للعمل في أدنى
وأحقر الأعمال، وإرهاقهم وتعذيبهم وامتهان كرامتهم. ومنها استحياء الإسرائيليات عبر تسخيرهن لخدمته
في قصوره وقصور آله ومن يدور في فلكه. ومنها الأمر بقتل أطفال بني إسرائيل الذكور،
ليسحق بذلك سعادة الأهالي بأي وليد ذكر. ومنها تفريق بني إسرائيل إلى جماعات وشيع
وفرق، وبذر الشقاق والخلاف والعداوات بينهم، تجسيداً لمبدأ فرّق تسد.
قائمة الظلم عند فرعون كانت طويلة عريضة، شملت
إلى جانب ما ذكرناه آنفاً، تهديد أي أحد
يستمع لموسى وأخيه هارون، سواء عبر لقاءات مباشرة معهما، أو عبر وسائل إعلامية
أخرى من وسائل ذلك الزمان، حتى وصل الضغط الفرعوني السياسي والإعلامي على الناس أن
منع مجرد التفكير في تبنّي رأي مخالف، أو دعوة إصلاحية خلاف ما يراه هو ويدعو إليه،
وبالتالي ازدحمت واكتظت سجونه بعشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء، من المعارضين
لفكره السياسي أولاً، والمعارضين لغطرسته وظلمه ثانياً في مجالات حياتية أخرى
عديدة، خاصة بعد انتشار دعوة موسى عليه السلام شيئاً فشيئا، حتى وجّه بوصلته نحو
موسى يهدده ( قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ).
هكذا كان فرعون. لم يكن يريد أحداً الخروج عن رأيه ورؤيته ( ما أريكم إلا ما أرى ) وخاصة أنه بدأ يشعر باهتزاز ما يحدث لكرسيه، وأن موسى وهارون هما السبب الرئيسي، بل هما مصدر ( الإرهاب ) الذي رأى أنه يجتاح المجتمع المصري حينذاك ! ولهذا لا نستغرب اليوم من تكرار مزاعم الطغاة ضد كل مصلح أو ناقد، ذلك أنهم جميعاً من المدرسة ذاتها خرجوا.
مدرسة الظلم والطغيان.
من هنا يمكنك ملاحظة سر
تنوع أساليب القرآن في عرض قصص فرعون، والتركيز على جزئية أو جزئيات معينة في كل
قصة. لكن ما يهمنا هاهنا أن السبب الرئيس لفساد وظلم فرعون، ليس لأنه كان على رأس
الهرم الرئاسي الذي وصله بقدرة قادر، والذي يتيح له فعل ما يشاء دون مساءلة، أو
كما هو في قاموس الطغاة، بل لأن غالب البيئة يومئذ فاسدة ظالمة، حتى من قبل أن
يأتي الفرعون.
إنّ النتيجة
الطبيعية لانتشار الظلم بين الناس بعضهم بعضا، هي وصول ظالم وفاسد إلى سدة الحكم، يكرس
الظلم والطغيان، ويقود الناس بنفس الكيفية التي يتعاملون بين بعضهم البعض. وكيفما
تكونوا يولّى عليكم، كما قال بعض السلف.
لو تتأمل ما كان في المجتمع الفرعوني في ذلكم
الزمان، وما هو حاصل في كثير من المجتمعات في هذا الزمان، لوجدت تشابهاً في
السلوكيات والأخلاقيات، وانتشار الظلم بين الناس بعضهم بعضا، وهذا ما يفسر لك بالتالي
كثرة الطواغيت والحكام الظلمة، وليس من تفسير لهذا اقتنعت به يفسر وجود حكام ظلمة
في مواقع مختلفة، سوى أنه عقوبة ابتدائية إلهية متدرجة وتحذيرية أيضاً، قبل أن
يرسل إليهم رسولاً يخرجهم مما هم فيه - وذلك في عهد الأنبياء والمرسلين - فيما
اليوم على شكل دعاة إصلاح ومصلحين صادقين، يدعون إلى بناء مجتمعات جديدة توحّد الله
لا تشرك به أحداً، ولا يظلم أحدٌ أحدا.
خلاصة ما يمكن القول في
ختام هذا الحديث الموجز، أن المغزى من المشاهد
أو القصص القرآنية عن الظلم والظالمين، هو التفكر والتأمل، وأنّ من يظلم لا بد أن
يُظلم، والظالمُ إن لم يجد من يقلّم أظافره ويضع له حداً، استبد وتوحّش وتغوّل،
وأن من أعان ظالماً سُلّط عليه عاجلاً أم آجلا ( ولا يظلم ربك أحدا ).
لكن السؤال المطروح على مدارالتاريخ :
هل يرتدع الظالمون، كلٌ في موقعه ومجتمعه ؟
لا يبدو أن فرعون قد غرق ومات، أو استفاد من جاء بعده من دروس عواقب الظلم والطغيان، ولا يبدو الدرس واضحاً لكثيرين حتى يوم الناس هذا، ما يفسر لك أن فرعون وإن مات بدنياً، إلا أن فكره لا زال ساري المفعول وقابلاً للتطبيق في كل زمان ومكان، وإلا ما تفسيرك لتزايد عدد الظلمة والطغاة حول العالم ؟
لابد أن
خللاً ما في الوعي والإدراك أصاب كثيرين، نسأل الله لنا ولكم العافية.



