أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأحد، 4 أكتوبر 2015

الحكيم الذي قتل نفسه !!

عتبة بن ربيعة ، الحكيم الذي قتل نفسه 
   ضاقت قريش ذرعاً بالدين الجديد، وهالها ما يحدث في أم القرى من أحداث تكثر وتسخن يوماً بعد يوم، أشبه ببدايات الثورات الشعبية وتململ الحكومات مما يحدث على الأرض، حيث يكون شغلها الشاغل ما يحدث للناس من انقلاب في المفاهيم والمعتقدات، والأصوات المنادية بالتغيير، وغيرها من ظواهر مصاحبة للتغيرات العظيمة.
  
   مما يروى من قصص عن تلك الفترة أن صناديد قريش اجتمعوا وقرروا الدخول في مفاوضات مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كطريقة لوضع حد مما يجري على الأرض.. فبعثوا أحكمهم، وقالوا: لا نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقد كان من حكماء قريش وأكثرهم دعوة للتهدئة في التعامل مع هذا المتغير الحاصل في مكة، ولم يكن يؤيد كثيراً الآراء المتطرفة التي كانت لدى أبي جهل مثلاً كالتعامل العنيف مع الدين الجديد.. ولحكمته وهدوء تعامله مع المتغيرات، اختاره زعماء قريش للقيام بمهمة التفاوض.

    قام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.. فإن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا.. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني.

عتبة يصف لقريش ما جرى بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم
   قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم. حـم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون "، ثم انتهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك ! فقال صلى الله عليه وسلم: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فبدأ عتبة يصف لهم ما جرى.

قال: سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.. يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب،  فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكهُ مُلككم وعزّه عزّكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا وعلى رأسهم أبي جهل: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم..

   نطق عتبة بالحق والحكمة معاً ، ولكن كيف للحكمة  أن تجدي نفعاً والأجواء ملبدة بالغيوم ، والناس في حراك مستمر ، والأوضاع لا تهدأ ، بل هي في حركة ونشاط مستمرين عكس ما يتمناه ويرغبه زعماء القوم ، الذين لم يعجبهم قول الحق من أحكمهم الذي اختاروه بأنفسهم لمهمة التفاوض مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقطعوا بأنفسهم أي سبيل لهذا الحديث الحكيم أن يستقر في الوجدان ، فعابوا على عتبة أنه تأثر بمحمد الذي سحره ، وتم غلق المشهد !


ابن الحنظلية أبوجهل وهو يشتد في تعذيب المؤمنين
   استمرت الأوضاع في مكة في التصعيد والغليان .. فمن جهة أولى ، زادت مقاومة عتاة القوم للدين الجديد ، ومن جهة أخرى يصبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه على الإيذاء الحاصل ، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .. ويستمر في الوقت ذاته الجدال عند أهل الحكم أو الحكومة حينها ، بين مؤيد للتصعيد ولو تأذى من تأذى من الأهل والأقارب ، وبين من يطالب بالتهدئة والتعامل المنطقي الحكيم ، وكان من ضمن الفريق الثاني ، عتبة بن ربيعة .

   يأتي يوم بدر ويتكرر مشهد عتبة مع زعماء القوم وقد استنفرهم ابن الحنظلية أو أبوجهل،  للخروج لملاقاة المسلمين ومقاتلتهم .. معركة يتواجه الأب مع ابنه ويتقاتل فيها الأقارب، من بعد تهديد شعروا به من طرف المسلمين تجاه تجارتهم ، حتى إذا ما زال التهديد وزال معه سبب الخروج للقتال، قام عتبة مسرعاً وناصحاً القوم بالرجوع حقناً للدماء ليس إلا، فقال: يا قوم  أعصبوها اليوم برأسي - أي اجعلوا عارها متعلقاً بي - وقولوا جَبُن عتبة ، وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.. لكن أبي جهل ، فرعون هذه الأمة ، طمس الله على بصيرته وأخذه الكبر والغطرسة ، ورفض اقتراح عتبة ، بل اتهمه بالجبن والخوف والرغبة في عدم ملاقاة ابنه أبي حذيفة الذي أسلم ، فضاعت الحكمة عند عتبة ها هنا ورضخ للاستفزاز ، فتحدى أبي جهل أن يريه من شجاعته غداً في الحرب ، فكان ما كان .. حيث قُتل عتبة في مبارزته مع حمزة وانتهى به المطاف إلى القليب أو البئر المهجورة التي دُفن صناديد قريش فيها ، فكان عتبة نموذجاً للحكيم الذي لم يثبت على حكمته  في أحلك الظروف ، فكانت النهاية البائسة ، دنيا وآخرة .                  

ليست هناك تعليقات: