أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 21 سبتمبر 2023

الانحلال .. منظومة عميقة

 


     في مقال سابق ذكرنا بأنه ما أتى رسول من الرسل إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. فقد كانت مهمة أي رسول تدور حول معالجة المرض، باعتبار عواقبه غير الحميدة، وغير المرغوبة لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم.. فكانت مهمة أحد الأنبياء الكرام وهو لوط – عليه السلام - معالجة قضايا لا أخلاقية انتشرت وتعمقت في قرى سدوم وعمورية وقرى أخرى قريبة منهما، فكانت مهمته الأساسية كما بقية الأنبياء والرسل الكرام، نشر وعي مجتمعي يُخرج شعوب تلك القرى أو البلدان، من رداءة في الأخلاق والمعاملة اشتهروا بها، مع انتكاسة غير مسبوقة للفطرة السوية في عالم البشر.


  اشتهرت سدوم وعمورية وما جاورها من قرى من بين الأمم السابقة، بفساد غير مسبوق تمثل كما هو معلوم للجميع، في فاحشة الشذوذ وبشكل علني واضح فاضح، دون أي وازع من ضمير أو أخلاق، إضافة إلى فسادهم في تعاملات متعلقة بالقوافل التجارية العابرة لبلدانهم، ونهبها وإجبار العابرين على دخول أجوائهم الفاسدة ! 


    كانت مهمة لوط - عليه السلام – بيان فساد ما هم عليه وخطورة سلوكياتهم الشاذة، ومحاولة إعادتهم إلى جادة الحق والصواب والصراط المستقيم. فهل استمعوا له؟ بالطبع لا، شأنه شأن بقية الأنبياء والمرسلين الكرام. فقد وقع تصادم بينه وبينهم منذ البداية، ثم جولات من النقاشات غير فاعلة، حتى وجدوا كخلاصة لتلك الجولات النقاشية، أن لوطاً عليه السلام، صار حجر عثرة أمام استمرار أسلوب حياتهم بالطريقة المتدنية التي كانوا عليها.

 

منظومة الانحلال    

   ذلكم الانحلال الذي انتشر في تلك المجتمعات، فإنما لأن منظومة متكاملة كانت تقوم عليه وترعاه، من رموز مجتمعية داعمة، ومنظمات ومؤسسات مالية، وأخرى إعلامية وغيرها من أطراف لها المصلحة بصورة وأخرى في شيوع ذلكم الانحلال الأخلاقي.  كانت منظومة الانحلال ترى في لوط  أنه عقبة أو حجر عثرة أمامها، وليس من بد سوى التخلص منه بصورة وأخرى، حتى ارتفعت أصوات عديدة من تلك المنظومة، جهاراً نهاراً تطالب المجتمع التخلص منه وأهل بيته، رافعين شعاراً يتكرر في كل زمان ومكان أمام أي داعية مصلح يريد الخير لمجتمعه ( إنهم أناسٌ يتطهرون ). بمعنى آخر: إنهم أناس رجعيين. عقولهم مغلقة لا تستوعب التطور والحداثة التي عليها الناس، وما يقوم به لوط هو تدخل سافر في حريات الناس، الذين لهم الحق في عمل ما يشاؤون في أجسادهم، والاستمتاع بها بالطريقة التي يرغبون فيها، فما شأن لوط بكل هذا ؟!


    إن أراد لوط ومن معه عدم اتباع أسلوب حياتهم، فلهم ذلك، لكن لا يتدخل في شؤون الآخرين. ثم من يكون لوط حتى يعترض على طريقة عيشنا وأسلوب حياتنا؟ هكذا كان لسان حالهم ومقالهم مع دعوات لوط وحواراته معهم. وأمام تلك الدعوات الإعلامية المعادية، تمنى لوط - عليه السلام - أن لو كانت معه قوة مادية بشرية يركن إليها من أجل تطهير المجتمع من تلك الأمراض الأخلاقية المنتشرة فيه.

 

معركة مع الإصلاح

   إذن تم رفع شعار ( أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون ) تمهيداً لمعركة أو حرب قادمة حاسمة. إنهم أصحاب فكر مختلف، بل إنهم عوامل مؤثرة على تقدم واستمرار ما عليه مجتمعنا وزماننا من أسلوب وطريقة حياة.. هكذا كان لسان حال تلك المنظومات تعبر عن الواقع، وهكذا تدريجياً تبلغ الجرأة بعد حين من الوقت عند تلك المنظومات أو الباطل بشكل عام، ليعتبر المكان مكانه، والقرية قريته، والزمان زمانه. ومن يختلف معه في النهج والفكر والرؤية، يكون مصيره الطرد والنفي من قريته أو قمعه واعتقاله، وفي أوقات أخرى، تصفيته.


    منظومات الباطل على اختلاف صورها ومناهجها، قد تختلف مع بعضها البعض في آليات ووسائل التنفيذ، لكنها تتفق جميعاً بصورة راسخة على ضرورة محاربة أي فكر إصلاحي في المجتمع، أو أي جهود إصلاحية يمكن أن تتسبب في تعطيلها أو تغيير مسارها وإلحاق خسائر بها وبمصالحها المتنوعة.

 

شراسة الباطل

    الباطل حين تنتفخ أوداجه في معاركه مع الحق، يتوحش في تعامله ومعاركه مع أهل الحق ورموزه. لكن ذلك لا يجب أن يبعث على الإحباط واليأس، لأن نهاية معارك الحق مع الباطل محسومة بوعد إلهي حازم واضح ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ).  الباطل ذاهب لا يستمر" وقد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق – كما جاء في تفسير السعدي للآية - لكن عند مجيء الحق، يضمحل الباطل ولا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته ".   

    انتهت محاولات لوط – عليه السلام – مع تلك القرى الفاسدة المفسدة، والمنتكسة فطرتها، الرافضة لكل أشكال الإصلاح والتقويم، بنتيجة طبيعية تمثلت في استمرار الباطل على عناده وغيه وفساده، تماماً كما سبقتهم في ذلك الأقوام البائدة، حتى كانت نهاية هؤلاء أيضاً، ومن بعد محاولات عديدة لإصلاحهم وتوعيتهم وإعادتهم إلى الصراط السوي المستقيم، أن جعل الله عاليهم سافلهم، وأمطر عليهم حجارة ملتهبة من السماء، أحرقتهم وأبادتهم جميعاً ( كأن لم يغْـنوا فيها ).

 

   هكذا عاقبة أي منظومة فاسدة مفسدة تتصادم مع الحق وأهله. لكن الأمر عند البشر، رغم ذلك يتكرر، ولا تجد من يرتدع ويتعظ ! فإن كانت قرى الفساد في زمن لوط سبعة، كما يقول المؤرخون، فقد ظهرت مئات بل آلاف منها اليوم، في مشهد يتكرر وبصورة ربما أسوأ وأعمق مما كان بالأمس، في إشارة إلى أن المعارك بين الحق والباطل مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.  

                           

الخميس، 14 سبتمبر 2023

شعيب ومنظومة الفساد

 



   خطيب الأنبياء، النبي العربي الكريم، شعيب – عليه السلام – استغرب فساد قومه فقال لهم ( إني أراكم بخير ) تعقيباً على ما كان سائداً بينهم من أمراض اقتصادية بلغت من العمق والقبح والسوء، أن يرسل الله رسولاً إليهم لهذا الأمر، ينير لهم ما أظلم وأشكل عليهم. لكن حدث ما حدث، إذ لم يختلف قوم مدين أو أصحاب الأيكة عن الأقوام البائدة من عرب الجزيرة، قوم عاد وثمود، فدخلوا معهم قائمة البائدين.  


   ما أتى رسول إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. كانت مهمة الرسول تتركز في معالجة المرض، باعتبار أن عواقب انتشاره واستفحاله غير حميدة، لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم.. فكانت مهمة النبي الكريم شعيب - عليه السلام - وقد أعطاه الله بلاغة وفصاحة وحجة، أن ينشر وعياً مجتمعياً يُخرج شعب مدين مما هم فيه من رداءة أخلاق تجارية، وسوء إدارة اقتصادية، ويواجه في الوقت ذاته منظومة فاسدة من تجار ورجال أعمال، ومشتغلين في قطاع اقتصادي كبير، ستكون بعد حين من الدهر لا يطول، ثغرة ينفذ منها عذاب من الله غير مسبوق.

 

 منظومة فسـاد  

 اشتهرت مدين بين الأمم السابقة بفساد اقتصادي معروف مكشوف ذكره القرآن الكريم، إضافة إلى ما كانت عليه من فساد في الفكر والعقيدة، وكان أساساً في ظهور شبكات ومنظومات اقتصادية فاسدة بعد ذلك، التي لم تكن تدخر جهداً في كسب المال بكل الطرق، لاسيما تلك غير المتوافقة، لا مع شرع إلهي ولا عُرف إنساني ولا قانون تجاري.


   غاية تلك المنظومات الفاسدة هي الربح السريع الوفير، والتحكم في حركة المال والتجارة، ولو كان على حساب حقوق الآخرين. الغش التجاري كان واقعاً متغلغلاً في النظام الاقتصادي في مدين. التاجر المدْيَني (نسبة إلى مدين) لم يكن يتردد في بيعك بضاعة أغلى من ثمنها المستحق، ولم يكن يتردد كذلك في أن يشتري منك بضاعة بثمن أقل من ثمنها بكثير. أي أن التاجر المديني كان يكسب في البيع والشراء ! إضافة إلى فسادهم في تعاملات أخرى متعلقة بالقوافل التجارية العابرة لبلدهم، والضرائب الباهظة التي كانت تُفرض عليهم دون وجه حق، بل أحياناً كثيرة كان يتم قطع طرق تلك القوافل ونهبها والاستيلاء عليها بقوة الساعد والسلاح، وهدفهم - كما أسلفنا - جمع مال وفير سريع، وإن تعددت وتنوعت الوسائل !

 

التعامل مع الفاسـدين

منظومة الفساد التي قرر النبي شعيب مواجهتها برموزها وشخوصها، قدم لهم بادئ ذي بدء توضيحات وطلبات عدة، منها:

(أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين)

 (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)

 (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).  

 

نهاهم عن الغش في البيع والشراء، أو الكيل المحرم وهو التطفيف في الميزان. ودعاهم إلى ترك تلك العادة كما يقول الرازي في تفسيره:" (ولا تنقصُوا المكيال والميزان) والنقصُ فيه كان على وجهين: أحدهما أن يكون الإيفاءُ من قبلهم، فينقصُون من قَدْرِه. والآخر أن يكون لهم الاستيفاءُ فيأْخذون أزْيد من الواجب، وذلك يوجبُ نقصان حَق الغيرِ، وفي القسمين حصل النقصان في حق الغيرِ".


ثم نهاهم عن بخس الناس أشياءهم، وهذا يشمل أي حق أو ملكية للآخرين يتم التصرف فيها دون إذن مالكها أو الاستيلاء عليها دون وجه حق. ثم طالبهم أخيراً ألا يفسدوا في البلاد عبر تشجيع الناس على الفساد، أو ترهيب من لا يستجيب لهم، وأن يتركوا عادة قطع الطرق ونهب القوافل وترويعها.


   لكن الإشكالية الكبيرة أن الفساد تغلغل في البلاد، حتى صارت منظومة متكاملة لها وسائلها وأدواتها وآلياتها ورموزها، بل بنفوذها صارت تؤثر على توجهات وقرارات الحكومة حينذاك. وبلغت المنظومة حداً لم يجرؤ أحد أن يقف في وجهها، أو التصادم معها، حتى جاء خطيب الأنبياء ويقوم بالمهمة الصعبة، حيث كان ظهوره مفاجأة للمنظومة. ووجه المفاجأة بدا في تلكم الجرأة التي كان عليها شعيب وبضع أشخاص على دينه وفكره. يكشفون أعمال وسوءات تلك المنظومة الأخطبوطية واسعة النفوذ والانتشار والتأثير، والمتغلغلة في عروق المجتمع وشرايينه!    

 

 الفساد وهو ينتفـض 

   رغم علمهم بوجاهة شعيب، واحترامهم لعشيرته التي لم تكن على دينه، لم يمنعهم ذلك من البدء في تهديد متدرج له ومن معه، وضرورة التوقف عن دعوته وألا يقف في وجههم، أو إن صح التعبير، ليس من الحكمة أن يقف شعيب في وجه منظومة - الفساد – في البلاد، لأنها أقوى منه بكثير، أو هكذا تعتقد أي منظومة فاسدة في كل زمان ومكان. فلا هي تريد التوقف عن إفسادها في الأرض، ولا تريد في الوقت نفسه أحداً يتحدث عنها بسوء، أو يحاول إشغالها والتصدي لها !


   شعيب - عليه السلام - استغرب من انغماس كثيرين في هذا الفساد الاقتصادي الذي لم يكن له ما يبرره، فكان يقول لهم (إني أراكم بخير) إذ أن وضع البلاد الاقتصادي مريح، وقد فتح الله عليكم من بركاته ورزقه، فلماذا هذا الفساد أو التطفيف والغش في تعاملاتكم وأكل أموال الناس بالباطل؟ ولماذا أصلاً تظهر منظومات فاسدة عندكم رغم أن الأوضاع لا تستدعي اللجوء لأساليب وطرق الغش والاحتيال والنصب وبقية مصطلحات الفساد؟ هكذا كان لسان حال النبي الكريم وهو في مواجهاته المتنوعة معهم.


   إنه لولا خشيتي - أو هكذا قال شعيب - أن يُنزّل الله عذابه عليكم ويسلبكم ما أنتم عليه من الاستقرار وسعة الرزق وبحبوحة العيش، ما دعوتكم ونهيتكم عن هذا الذي أنتم عليه. لكن هل لانت قلوبهم وخشعت؟ بالطبع لا، بل ازدادت المنظومة فساداً وقسوة وتأثيراً على البلاد كلها، حتى لم تبق حجة تمنع نزول العذاب، فكان يوم الظلة، حيث احتباس الهواء وارتفاع الحرارة، ثم غيمة عظيمة تأتي فيسرع إليها الفاسدون قبل غيرهم، فلعل ظلها يخفف عنهم بعض ما هم فيه وعليه، لتمطر ناراً أحرقتهم وأبادتهم جميعاً ( كأن لم يغْـنوا فيها ).

 فكم منظومة فاسدة في بلدان المسلمين قبل غيرها، تعتبر وتدّكر من هذه الأحداث والقصص؟

 للأسف، لا أحد يعتبر ويتعـظ !