أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 16 يناير 2025

حان وقت التغـيير

 

 


   إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. حقيقة حياتية لا ريب فيها. والآية الكريمة إشارة واضحة إلى أن تغيير واقع ما نحو الأفضل، إنما يتطلب أولاً أن يقع التغيير في الذين يقومون على أمر ذلك الواقع، سواء كانوا على شكل أفراد أو على هيئة كيانات سياسية، إدارية، مالية أو غيرها.

وبصورة أكثر وضوحاً، على شكل شركات، وزارات، دول، أمم وغيرها.  

 

  يحكى أن ملكاً كان يحكم دولة واسعة جداً، وأراد هذا الملك القيام برحلة برية طويلة ذات يوم. وبعد أن قطع شوطاً في الرحلة، بدأ في رحلة الرجوع، وخلال العودة وجد أن أقدامه تورمت بسبب كثرة المشي في الطرق الوعرة، فأصدر أمراً يقضي بتغطية كل شوارع المملكة بالجلد !

 لكن أحد المستشارين حوله، أشار عليه برأي آخر وجده أفضل مما ذكره الملك نفسه، وهو صناعة قطعة جلد صغيرة تكون تحت قدمي الملك فقط تمنع تورم قدميه. فارتاح الملك وأراح من كان حوله من عمل ضخم بلا جدوى، فكانت تلك الفكرة أيضاً بداية صناعة الأحذية - أعزكم الله.

   العبرة من القصة أنه إذا ما أردت أن تعيش سعيداً في هذه الحياة، فلا تحاول تغيير كل الحياة أو كل العالم، بل ابدأ مشروع التغيير في نفسك أولاً، وابذل جهدك عليه، ومن ثم ابدأ في تغيير ما حولك من بشر وحياة بقدر ما تستطيع.

 

   إن أراد نفرٌ تغيير واقع شركة مفلسة مثلاً، أو وزارة فوضوية أو حتى دولة متدهورة أحوالها، فلا بد أن يحدث التغيير أولاً فيمن سيقومون على أمر التغيير. سواء كان على شكل إعادة تأهيلهم وتدريبهم، أو حتى ابعادهم عن مواقع الإدارة والمسؤولية. ومن ثم يتم بعد ذلك تغيير الأنظمة والإجراءات والقوانين في تلك الكيانات. وهكذا، يكون أولئك النفر قد بدأوا الخطوات الأولى في تجسيد الآية أو أحد أبرز قوانين التغيير الحياتية ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).


   تغيير الكيانات البشرية إلى الأفضل حسب هذا القانون، يتطلب أن تطول عمليات التغيير كل الفاسدين والظلمة، والمرجفين والمنافقين، وكذلك المستفيدين من أوضاع التردي وأشباههم كثير كثير. إن مثل هذه التغييرات لا يمكن تحقيقها بالأماني والأحلام. بل بعمل صحيح ووفق رؤى سليمة بعيدة، وعلى أيدٍ مخلصة أمينة، ترى التغيير هو الحل الأنجع والأنجح في تغيير واقع سلبي محبط كئيب، إلى واقع آخر مشرق إيجابي سعيد.


   التغيير لا يمكنه أن يكون فاعلاً واقعاً ذا تأثير عميق ما لم يكن ناتجاً عن رغبة عارمة جازمة حازمة، وفيما غير ذلك لن يكون القيام بالعملية التغييرية بالصورة المثالية من تلك التي ترى أثرها إيجابياً على الواقع المراد تغييره.

   إذن واحدة من شروط التغيير الأساسية أن يكون بناء على رغبة عارمة في إحداث التغيير. وكلمة عارمة تفيد هذا المعنى. أي أن تتكون لدى راغبي التغيير، نهمٌ وشغف بتغيير ما يرغبون في تغييره، بحيث لا يمكن أن يحول بينهم وبين التغيير حائل، أو يمنعهم مانع.  

   بهذه الروح وبهذا التصميم وذاك الحزم، ستتغير الأمور والوقائع، لأن هذا هو المنطق السليم في التغيير كما بينته الآية الكريمة. نقطة البداية تكون من الداخل، سواء كانت على شكل أفراد أو لوائح وإجراءات أو أخلاقيات وقيم أو غيرها من عوامل التدهور والواقع السيء الذي عليه الكيان المراد تغييره، وتغيير ما يحيط به. ثم بعد ذلك ينتقل التغيير تدريجياً نحو الخارج أو المحيط.. 

 

 ولنا في رسولنا الكريم الأسوة والقدوة الحسنة.

 لاحظ وبتوجيه إلهي، كيف بدأ تغيير واقع متكلس جاهل غارق في الظلم والفوضى، ونقله إلى واقع آخر بشكل مختلف تماماً. فهو صلى الله عليه وسلم بدأ بعملية التغيير من الداخل أولاً، فأنذر عشيرته الأقربين، وشرح لهم دعوته.

هكذا بدأ بهم ثم توسع تدريجياً في اختيار من سيكون لهم أدوارهم المؤثرة قريباً في عملية تغيير واسعة شاملة، وهكذا تدريجياً خلال سنوات ثلاث حتى اكتملت العملية بفضل من الله، لتتواصل عمليات التغيير يوماً بعد آخر وتكتمل خلال ثلاثة وعشرين عاماً حافلة، ليأتي عليه الصلاة والسلام ويقرأ على أصحابه ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .  

والله سبحانه كفيلٌ بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.   

 


الخميس، 9 يناير 2025

ولكن أكثر الناس لا يشكرون

    



يحكى أن رجلاً ذهب إلى أحد العلماء، وشكا إليه فقره، فقال له العالم: 

أَيسُرُّكَ أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟

فقال الرجل: لا

قال العالم: أيسرك أنك أخرس ولك عشره آلاف درهم؟

فقال الرجل: لا

قال العالم: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟

فقال الرجل: لا

قال العالم: أيسرك أنك مقطوع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا؟

فقال الرجل: لا

قال العالم، أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك نعم بخمسين ألفا ؟!  

   

  بالشكر تدوم النعم. هكذا تقول التجارب البشرية، وهي التجارب ذاتها تؤكد أن كفران النعم، سبب لزوالها. والإنسان بحسب طبيعته - كما قال السعدي في تفسيره " لا تسمح نفسه بما عليه من الحقوق، فتؤديها كاملة موفرة، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية، إلا من هداه الله وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق".

   أغلبنا ينظر إلى المفقود من النعم وإن كانت قليلة نادرة، ولا يشعر بالموجود، وهي كثيرة وافرة.  ومن هنا يعاتب الله الناس أن أكثرهم غير شاكرين، غير حامدين، بل لنعمائه جاحدون ! حاول أن تجلس إلى نفسك يوماً لتعد وتُحصي نعم الله عليك، سواء في بدنك، أو بيتك أو محيطك أو ما شئت من المجالات التي ترى فيها نعم الله عليك وعلى أحبائك. حاول أن تكتبها كي لا تنسى نعمة أو أخرى.

  ستجد في لحظات قليلة، قائمة طويلة عريضة تشكلت عندك، وفيها من نعم الله الكثير الكثير. وستجد أن نعم الله عليك فعلاً لا تُعد ولا تُحصى. ولكن لتكرارها حولنا أو اعتيادنا على وجودها في كل لحظات حياتنا، ننسى أنها من نعم الله التي يغرقنا الله بها رغم كل التقصير في حقه سبحانه. نعمٌ ظاهرة وباطنة، تستوجب شكراً دائماً أبدا..


   إنّ زيارة سريعة لعدد من المرضى في أي مستشفى، ستدفعك دفعاً وأنت خارج عنهم أن تشكره سبحانه في كل دقيقة وثانية.. تشكره على نعمة العافية التي لا يمكن لأحد أن يساوم عليها بملايين الدراهم والريالات أو الدولارات، وهي واحدة من نعم الله علينا وعليك. ألا تلاحظ معي أن الناس في لحظات معينة من حياتهم صارت تدفع ما تملك، لتسترد ما كانت تملك من صحة وعافية؟ نعمةٌ لا نشعر بها إلا حين تغيب عنا ولو للحظات. 

  يقول ابن قيم الجوزية:" إظهار النعمة والتحدُّث بها من صفات المؤمنين الشاكرين، وأما أن يكتم المرء النعمة، ويُظهر أنه فاقد لها؛ إما بلسان الحال أو المقال، فهو كفرٌ لها، وهو من صفات الكافرين الجاحدين، وإنما سُمي الكافرُ كافراً؛ لأنه يغطي نعمة الله التي أسبغها عليه، ويجحدها ولا يقرُّ بها ".

      حين منّ الله على نبيه داود – عليه السلام – وآله، بأشكال وصور شتى من النعم التي لم توهب لغيرهم، قال لهم ( اعملوا آل داود شكرا )، ليس شكراً بترديد كلمات وأذكارا فحسب، بل ذلكم الشكر الذي يكون بالقلب واللسان والجوارح.

  أما الشكر بالقلب فيكون عبر الاعتقاد الراسخ أن ما أنعم الله عليك، فإنما هو من فضله سبحانه ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وأما باللسان فعبر الرضى والقناعة بما عندك، وفي الوقت ذاته تسأله سبحانه المزيد من فضله وكرمه. وأما الشكر بالجوارح فعبر استخدام نعم الله فيما يرضيه سبحانه لا ما يجلب غضبه.

   يروى عن أحد الصالحين أن الرجل إذا سلم على الرجل، وسأله كيف أصبحت، فقال له الآخر: أحمدُ الله إليك. يقول المَلَك الذي عن يساره للذي عن يمينه: كيف تكتبها؟ قال: أكتبه من الحامدين. وروي أن رجلين من الأنصار التقيا، فقال أحدهما لصاحبه: كيف أصبحت؟ فقال: الحمد لله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا هكذا

  نقطة أخيرة في موضوع الشكر وتدور حول الوعد الإلهي للشاكرين الحامدين، وهي أنه سبحانه يزيدهم من فضله ويبارك فيما ينعمه عليهم ( لئن شكرتم لأزيدنكم )  فكلما شكرتَ الواهب، زادك من فضله وبارك لك فيما أعطاك.

   لكن إن وجدت نفسك لا تشكر الله على نعمائه، وبعيد عنه سبحانه، ومع ذلك لا تشعر بنقصان النعم والخيرات والثروات، بل تراها تزيد وتتكاثر، فاعلم أن الله يستدرجك. والاستدراج يعني الهلاك دون أدنى شك ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) والمبلسون هم اليائسون من كل رحمة وكل خير.  

                    فاللهم اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أوّاهين منيبين.. آمين يا رب العالمين.