أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأحد، 1 أكتوبر 2023

وقـف الظلم قبل الظالم

 


   حين نتحدث عن الظلم وأسماء الظالمين قديماً وحديثاً، فإنك تسمع عن فرعون، جنكيز خان، هتلر، موسوليني، ستالين، أو حتى أسماء من تاريخنا القديم والحديث، رغم أن ديننا من أشد الأديان توجيهاً وتحذيراً من الظلم، ومع ذلك اشتهر في تاريخنا شخص مثل الحجاج بن يوسف الثقفي بالظلم وليس أي ظلم، بل كان مثالاً للطغيان والاستبداد، على رغم أنه كان في الوقت ذاته سبباً في نشر الإسلام عبر فتوحات بني أمية، وصلت للهند والصين !

  رغم بعض مآثر الحجاج، إلا أنه في حكمه وإدارته، كان ظالماً جباراً ومستبداً، لم يتورع عن ظلم الناس، بل وأن يتجرأ بالتعرض للصالحين من العلماء والأئمة والتابعين أمثال عبدالله بن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهما، إلى أن أصابه مرض ضيّقت عليه الأرض بما رحبت، وصار حينها يتمنى الموت على أن يعيش آلامه البدنية قبل النفسية، حتى شكا حاله ومعاناته للحسن البصري. 

فقال له الحسن: قد كنتُ نهيتُك ألا تتعرّض إلى الصالحين فلججت. فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرّج عنّي، لكن تسأله أن يُعجّل قبض روحي ولا يطيل عذابي ! وقد كان الحسن البصري يدعو عليه بالموت كي تموت سنَّته. فلما مات الحجاج، فرح وسجد شكراً لله، باعتبار أن الظالم حين يموت فهو مُستراح منه، كما في البخاري، أنه مرّت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة فقال: مُستريحٌ ومُستراح منه. قالوا يا رسول الله: مَن المستريح ومَن المُستراحُ منه؟ قال: المستريح هو العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والمُستراح منه العبد الفاجر، يستريح منه العباد والدواب والشجر. 

 

الظالم القبيح

   فرعون موسى من أقبح النماذج الظالمة في تاريخ البشرية. فهو إلى جانب الظلم، كان جباراً عنيداً فاسداً. فقد ظلم نفسه قبل غيره حين ادعى الربوبية، إذ لم يقم أحد من قبله بهذا الفعل الظالم غير الواعي. ثم استمر في ارتكاب المظالم واحداً بعد آخر. من ذلك، تعذيب الناس في مملكته، لا سيما بني إسرائيل، الذي قام بتسخير رجالهم للعمل في أدنى وأحقر الأعمال، وإرهاقهم وتعذيبهم وامتهان كرامتهم.

   من ذلك أيضاً، أمره بقتل أطفال بني إسرائيل الذكور، ليسحق بذلك سعادة الأهالي بأي وليد ذكر. ومن أفعاله الظالمة، استحياء الإسرائيليات عبر تسخيرهن لخدمته في قصوره وقصور آله ومن يدور في فلكه. ثم يزداد في الظلم بتفريق بني إسرائيل إلى جماعات وشيع وفرق، وبذر الشقاق والخلاف والعداوات بينهم، تجسيداً لمبدأ فرّق تسد.

  طالت وتمددت قائمة الظلم عند فرعون، لتشمل تهديد أي أحد يستمع لموسى وأخيه هارون، ومنع مجرد التفكير في عقيدة أو دين غير الذي يراه هو فقط. فازدحمت تبعاً لذلك سجونه بآلاف المعتقلين الأبرياء، من المعارضين لفكره وغطرسته وظلمه، خاصة بعد انتشار دعوة موسى – عليه السلام – شيئاً فشيئا، حتى قام يهدد موسى نفسه ( قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ). هكذا فرعون، لا يريد أن يخرج أحد عن رأيه ورؤيته.


واستمر يعيث في الأرض فساداً وظلماً كبيراً لم يسلم منه حتى أهله وأقاربه. هذه زوجته المؤمنة آسية بنت مزاحم تتألم من ظلم فرعون حتى ( قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) ومثلها مؤمن آل فرعون وكان يكتم إيمانه خشية ظلم فرعون، وأمثالهما ربما كثير كثير..


   لم يسلم منه كذلك كبار السحرة الذين كانوا من كبار موظفي القصر ومن المقربين، الذين أباح لهم فعل ما يشاؤون من السحر في سبيل تسخير الناس له. لكن حين انقلب السحر على الساحر، ورأى انقلاب السحرة على فكره ورؤيته، لم يتردد في تغيير معايير دعاياته الإعلامية، فقد خشي تأثر الناس بالسحرة وهم يشهدون لموسى بالرسالة، وبالله رباً لا شريك له، فقام بتغيير الدساتير والقوانين والمعايير بجرة قلم، فعاقبهم أشد أنواع العقوبة.

 

تغيير بيئة الظلم  

  نخلص مما سبق أن مهمة النبي الكريم موسى - عليه السلام - كما أسلفنا في المقالين السابقين عن أنبياء الله الكرام شعيب ولوط - عليهما السلام - بأنه ما أتى رسول من الرسل إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. فقد كانت مهمة أي رسول تدور حول معالجة مرض ما بالمجتمع وإزالة مسبباته، اتقاءً لعواقبه غير الحميدة وغير المرغوبة، لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم.

   كانت مهمة موسى - عليه السلام - إلى فرعون وقومه، معالجة اضطراب فكري وخلل عقائدي غير مسبوق ساد في المجتمع الفرعوني، حيث تأثر كثيرون به، رغبة أم رهبة، من بعد أن سلّط وسائله الإعلامية والسياسية وغيرها في تغيير قناعات وثقافة المجتمع، وتوجيههم نحو فكر معين أو عقيدة بذاتها تدور أساساً حول مسألة الربوبية، بعد أن هاله مشهد النيل بتفرعاته واعتقاده أن قدرته على منح أو منع أي جهة من جهات البلاد الأربع من مياه النيل، دليل على قدرته وبالتالي ابتع الشيطان الذي زين له فكرة الإعلان عن ربوبيته، في سابقة غير معهودة في تاريخ البشر.


  ذلكم الفكر الفرعوني الذي ساد المجتمع يومها، كان يحتاج إلى إصلاحيين أقوياء صالحين من أجل تغييره. يملكون البيان والحجة والجرأة في تغيير القناعات والثقافات السائدة حينذاك. فكانت مهمة موسى وهارون - عليهما السلام – البدء بالطبقة الشعبية الكبيرة، وصولاً إلى رأس الهرم أو قمة ذلك الفكر الفاسد، فرعون وهامان وقارون وبقية الملأ من حولهم.

 

الظلم أسرع المعاصي عقاباً 

   السبب الرئيسي لفساد وظلم فرعون، ليس لأنه كان على رأس الهرم الرئاسي، بل لأن البيئة يومئذ فاسدة وظالمة من قبل أن يأتي فرعون، فالنتيجة الطبيعية لانتشار ذلك الظلم بين الناس بعضهم بعضا، هي وصول ظالم وفاسد إلى سدة الحكم، يقود الناس بنفس الكيفية التي يتعاملون بين بعضهم البعض، وليس من تفسير لذلك سوى أنها عقوبة ابتدائية إلهية متدرجة وتحذيرية أيضاً، قبل أن يرسل إليهم رسولاً يخرجهم مما هم فيه، وبناء مجتمع جديد يوحّد الله ولا يشرك به أحداً.

  كانت قصة موسى مع فرعون - عليهما السلام - مثالاً لكيفية التعامل مع الظلم والظالمين، في مشاهد عديدة متنوعة حتى هلاكه، ومشاهد أخرى عديدة مصاحبة مع بني إسرائيل، ومعاناة موسى وهارون معهم في تغيير قناعات وفكر كثيرين، استمرت أربعين عاماً. وقد أشار القرآن لتلك المشاهد موجزاً حيناً، ومفصلاً في أحيان أخرى كثيرة، وكانت النتيجة النهائية التي يمكن تلخيصها من كل تلك المشاهد، أن من يظلم لا بد أن يُظلم، والظالم إن لم يجد من يقلّم أظافره استبد وتوحّش، وأن من أعان ظالماً، سُلّط عليه.


     خلاصة القول أو العبرة والعظة من هذه القصص القرآنية حول الظلم والظالمين، أن الله يُمهل ولا يُهمل، فإذا أخذ الله الظالم لم يفلته، كما في الحديث الصحيح ( إن الله ليُمْلي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِتْهُ ) أي لن يتركه الله حتى يستوفي عقابه..

 

أعاذنا الله وإياكم أن نضل أو نُضل، أو نظلم أو نُظلم.  

الخميس، 21 سبتمبر 2023

الانحلال .. منظومة عميقة

 


     في مقال سابق ذكرنا بأنه ما أتى رسول من الرسل إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. فقد كانت مهمة أي رسول تدور حول معالجة المرض، باعتبار عواقبه غير الحميدة، وغير المرغوبة لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم.. فكانت مهمة أحد الأنبياء الكرام وهو لوط – عليه السلام - معالجة قضايا لا أخلاقية انتشرت وتعمقت في قرى سدوم وعمورية وقرى أخرى قريبة منهما، فكانت مهمته الأساسية كما بقية الأنبياء والرسل الكرام، نشر وعي مجتمعي يُخرج شعوب تلك القرى أو البلدان، من رداءة في الأخلاق والمعاملة اشتهروا بها، مع انتكاسة غير مسبوقة للفطرة السوية في عالم البشر.


  اشتهرت سدوم وعمورية وما جاورها من قرى من بين الأمم السابقة، بفساد غير مسبوق تمثل كما هو معلوم للجميع، في فاحشة الشذوذ وبشكل علني واضح فاضح، دون أي وازع من ضمير أو أخلاق، إضافة إلى فسادهم في تعاملات متعلقة بالقوافل التجارية العابرة لبلدانهم، ونهبها وإجبار العابرين على دخول أجوائهم الفاسدة ! 


    كانت مهمة لوط - عليه السلام – بيان فساد ما هم عليه وخطورة سلوكياتهم الشاذة، ومحاولة إعادتهم إلى جادة الحق والصواب والصراط المستقيم. فهل استمعوا له؟ بالطبع لا، شأنه شأن بقية الأنبياء والمرسلين الكرام. فقد وقع تصادم بينه وبينهم منذ البداية، ثم جولات من النقاشات غير فاعلة، حتى وجدوا كخلاصة لتلك الجولات النقاشية، أن لوطاً عليه السلام، صار حجر عثرة أمام استمرار أسلوب حياتهم بالطريقة المتدنية التي كانوا عليها.

 

منظومة الانحلال    

   ذلكم الانحلال الذي انتشر في تلك المجتمعات، فإنما لأن منظومة متكاملة كانت تقوم عليه وترعاه، من رموز مجتمعية داعمة، ومنظمات ومؤسسات مالية، وأخرى إعلامية وغيرها من أطراف لها المصلحة بصورة وأخرى في شيوع ذلكم الانحلال الأخلاقي.  كانت منظومة الانحلال ترى في لوط  أنه عقبة أو حجر عثرة أمامها، وليس من بد سوى التخلص منه بصورة وأخرى، حتى ارتفعت أصوات عديدة من تلك المنظومة، جهاراً نهاراً تطالب المجتمع التخلص منه وأهل بيته، رافعين شعاراً يتكرر في كل زمان ومكان أمام أي داعية مصلح يريد الخير لمجتمعه ( إنهم أناسٌ يتطهرون ). بمعنى آخر: إنهم أناس رجعيين. عقولهم مغلقة لا تستوعب التطور والحداثة التي عليها الناس، وما يقوم به لوط هو تدخل سافر في حريات الناس، الذين لهم الحق في عمل ما يشاؤون في أجسادهم، والاستمتاع بها بالطريقة التي يرغبون فيها، فما شأن لوط بكل هذا ؟!


    إن أراد لوط ومن معه عدم اتباع أسلوب حياتهم، فلهم ذلك، لكن لا يتدخل في شؤون الآخرين. ثم من يكون لوط حتى يعترض على طريقة عيشنا وأسلوب حياتنا؟ هكذا كان لسان حالهم ومقالهم مع دعوات لوط وحواراته معهم. وأمام تلك الدعوات الإعلامية المعادية، تمنى لوط - عليه السلام - أن لو كانت معه قوة مادية بشرية يركن إليها من أجل تطهير المجتمع من تلك الأمراض الأخلاقية المنتشرة فيه.

 

معركة مع الإصلاح

   إذن تم رفع شعار ( أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون ) تمهيداً لمعركة أو حرب قادمة حاسمة. إنهم أصحاب فكر مختلف، بل إنهم عوامل مؤثرة على تقدم واستمرار ما عليه مجتمعنا وزماننا من أسلوب وطريقة حياة.. هكذا كان لسان حال تلك المنظومات تعبر عن الواقع، وهكذا تدريجياً تبلغ الجرأة بعد حين من الوقت عند تلك المنظومات أو الباطل بشكل عام، ليعتبر المكان مكانه، والقرية قريته، والزمان زمانه. ومن يختلف معه في النهج والفكر والرؤية، يكون مصيره الطرد والنفي من قريته أو قمعه واعتقاله، وفي أوقات أخرى، تصفيته.


    منظومات الباطل على اختلاف صورها ومناهجها، قد تختلف مع بعضها البعض في آليات ووسائل التنفيذ، لكنها تتفق جميعاً بصورة راسخة على ضرورة محاربة أي فكر إصلاحي في المجتمع، أو أي جهود إصلاحية يمكن أن تتسبب في تعطيلها أو تغيير مسارها وإلحاق خسائر بها وبمصالحها المتنوعة.

 

شراسة الباطل

    الباطل حين تنتفخ أوداجه في معاركه مع الحق، يتوحش في تعامله ومعاركه مع أهل الحق ورموزه. لكن ذلك لا يجب أن يبعث على الإحباط واليأس، لأن نهاية معارك الحق مع الباطل محسومة بوعد إلهي حازم واضح ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ).  الباطل ذاهب لا يستمر" وقد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق – كما جاء في تفسير السعدي للآية - لكن عند مجيء الحق، يضمحل الباطل ولا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته ".   

    انتهت محاولات لوط – عليه السلام – مع تلك القرى الفاسدة المفسدة، والمنتكسة فطرتها، الرافضة لكل أشكال الإصلاح والتقويم، بنتيجة طبيعية تمثلت في استمرار الباطل على عناده وغيه وفساده، تماماً كما سبقتهم في ذلك الأقوام البائدة، حتى كانت نهاية هؤلاء أيضاً، ومن بعد محاولات عديدة لإصلاحهم وتوعيتهم وإعادتهم إلى الصراط السوي المستقيم، أن جعل الله عاليهم سافلهم، وأمطر عليهم حجارة ملتهبة من السماء، أحرقتهم وأبادتهم جميعاً ( كأن لم يغْـنوا فيها ).

 

   هكذا عاقبة أي منظومة فاسدة مفسدة تتصادم مع الحق وأهله. لكن الأمر عند البشر، رغم ذلك يتكرر، ولا تجد من يرتدع ويتعظ ! فإن كانت قرى الفساد في زمن لوط سبعة، كما يقول المؤرخون، فقد ظهرت مئات بل آلاف منها اليوم، في مشهد يتكرر وبصورة ربما أسوأ وأعمق مما كان بالأمس، في إشارة إلى أن المعارك بين الحق والباطل مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.