أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الأربعاء، 17 يونيو 2020

جادلتنا فأكثرتَ جدالنا

     

نوح عليه السلام أبرز مثال بشري حين نتحدث عن أهمية السعي نحو الهدف وعدم اليأس، وأهمية بذل كل الأسباب الممكنة لتحقيقه.. فقد جلس نوح عليه السلام يدعـو قومه أكثر من تسعة قرون وليست تسعة أيام أو حتى أعوام، رغم أنه لم يؤمن بدعوته أكثر من خمسة عشر إنساناً طوال تلك الفترة الطويلة، ومع ذلك استمر إلى أن أوحى الله إليه أنه لن يؤمن بدعوتك أكثر ممن قد آمن..

  ليست القصة هاهنا عن اليأس، بل عن تلك العقلية التي استمرت على ماهي عليه من معتقدات ومفاهيم، وانتقلت من جيل إلى جيل. عقليات العند والإصرار لكن على الخطأ، وإن تبين الصواب في وقت من الأوقات.

   عقلية العناد تؤدي بصاحبها في النهاية إلى مساحات من التفكير عقيمة لن تكون عواقبها سليمة مطلقاً. لاحظ مثلاً في قوم نوح عليه السلام، وكيف أن العقلية العنيدة العقيمة والمستهترة في الوقت نفسه، يمكن أن تؤذي صاحبها دون أن يدرك ذلك. إذ بعد أن طالت مدة دعوته لهم إلى دين الحق، واجهوه عليه السلام، واعتبروا أن دعوته تلك ما هي إلا نوع من الجدال الذي طال عن اللازم. وإن كان صادقاً فعلاً في دعوته، وأنه مرسل من عند الله، فليسأل الله أن يأتيهم بالذي كان يخوفهم منه ( فأتنا بما تعـدنا إن كنت من الصادقين ) أي العذاب والنقمة الإلهية كما كنت تزعم !

  لماذا طلبوا العذاب والنقمة؟ لماذا لم تدفعهم عقولهم العنيدة المتكلسة إلى أن يطلبوا من نوح عليه السلام غير العذاب؟ مااذا لو أنهم طلبوا سعة فورية في أرزاقهم، أو أن تتحول بعض الحجارة حولهم إلى ذهب وفضة مثلاً، وغيرها من نعم الله الكثيرة ؟ لاشك أن وصولهم لذلك المستوى من الغباء حتى في الطلبات، إنما نتاج طبيعي لعقلية العناد والتي ما وصلت إلى تلك المستوى عندهم، إلا بسبب فراغ روحي عاشوه وتوارثوه جيلاً بعد جيل، وبما كسبت أيديهم.   

تكرار المشهد في مكة

الأمر أو المشهد نفسه تكرر بعد آلاف من السنين في عهد النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – مع قريش، الذين كانت عقلية العناد عند صناديدهم وكبار الرؤوس فيهم، قد وصلت حداً ربما فاقت عقليات الأقدمين من القرون الأولى، قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم.

  عقلية العناد والاستهزاء بالغير غير المساير لهم، دفعت بقريش إلى تكرار مشهد نوح عليه السلام مع قومه، رغم آلاف السنين بينهم، لكنه مرض العناد، الذي لا ينتهي من الوجود، وليس له تاريخ صلاحية، بل يتجدد ويتمدد مع بقاء الإنسان نفسه.

   سأل أحد كبرائهم ضمن معرض العناد والاستهزاء في الوقت نفسه، النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -  أن يثبت لهم أن ما يقوله حقاً وصدقاً وأنه نبي مرسل من عند الله، بأن يسأل الله نزول العذاب عليهم، في قصة رواها ابن عباس رضي الله عنهما قال :

 لما قص رسول الله – صلى الله عليه وسلم - شأن القرون الماضية ، قال النضربن الحارث:  لو شئت لقلتُ مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين، أي ما سطره الأولون في كتبهم - فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه : اتق الله فإن محمداً يقول الحق، قال : فأنا أقول الحق، قال عثمان: فإن محمداً يقول لا إله إلا الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ، ولكن هذه بنات الله ، يعني الأصنام، ثم قال : اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك فأمطرعلينا حجارة من السماء ) كما أمطرتها على قوم لوط) أو ائتنا بعذاب أليم  أي : ببعض ما عذبت به الأمم !!

   لولا عقلية العناد التي أغلقت كل منافذ التدبر والتفكرعنده، لكان طلب من الله أن يمطر عليهم ذهباً وفضة بدلاً من حجارة، فإنها بكل تأكيد ستفيدهم وتزيدهم غنى. لكن كما أسلفنا، الخواء أو الفراغ الروحي الذي عاشه أولئك القوم ورفضهم الحق، نتج عنه عقلية عنادية لمجرد العناد، بالإضافة إلى ما كان يخالط قلوبهم، حسد من عند أنفسهم.

الإيمان يزيل العناد  

لكن لاحظ معي العكس من ذلك حين يمتلئ القلب إيماناً بالله. تجد صاحبه بعيد كل البعد عن عقلية العناد، بل لن تجد في قاموس حياته مصطلح العناد. خذ مثالاً يعاكس الأمثلة التي أوردناها قبل قليل، قوم نوح ومثلهم قريش. إنهم حواريو أو أصحاب عيسى عليه السلام. أولئك النفر الذين آمنوا بعيسى نبياً ورسولاً من عند الله، من بين آلاف أخرى مؤلفة، كذبوه وعاندوه. الحواريون حين طلبوا دليلاً من عيسى عليه السلام يثبت صدق نبوته، ما سألوا الله أن ينزل عليهم عذاباً أو أياً مما يمكن أن يتأذى الناس منها، بل طلبوا مائدة طعام تنزل من السماء، تطمئن بها قلوبهم ولتكون آية ومعجزة لمن يأتي بعدهم.

   هل لاحظت الفرق وما يفعل الإيمان بالقلوب والعقول؟ القلب حين يفرغ أو لا يجد الإيمان سبيلاً إليه، تجده يقسو، والعقل بالضرورة، يتبلد ويتجه ليعاند ويكابر. والنتيجة النهائية غير سارة لصاحبهما دون أدنى ريب. فيما العكس يكون. حين لا تجد زاوية من زوايا القلب إلا والإيمان يكسوها، ليصل التأثير بالضرورة للعقل، الذي هو بالضرورة أيضاً، يبدع ويفتح لصاحبه آفاقاً رحبة من التفكير فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا قبل الآخرة.

   على صعيد العلاقات البشرية العادية، فإن العنيد عند خبراء النفس الإنسانية، هو ذاك الذي لا يرى غيره ولا يسمع إلا صوته، ولا يعتقد أن هناك من يفكر سواه، أو هكذا هو غالباً. ولو أوقعتك الأقدار أن تتعامل مع عنيد في موقف حياتي ما، فأنت ها هنا ودن أدنى شك، ستكون في مواجهة صعبة تتطلب منك سعة صدر ومرونة بالغة في الأخذ والعطاء، مع تفهّم عميق لما يمكن أن يصدر عنه من أفعال وأقوال. وما لم تكن تملك تلك المهارات والصفات قبيل المواجهة - إن صح وجاز لنا التعبير- فلا شك أنك ستدخل ما يشبه معركة طحن وكسر للعظام. إما أن يكسرك أو تكسره، أو هكذا هي الأجواء غالباً عند العنيد. ولا أعتقد أنك من تلك النوعية، بل أرجو ألا تكون أبداً، وإنما من أولئك المترفعين عن تلك النوعيات من البشر، فذلك هو الأحوط والأسلم، سلمك الله ورعاك.

الخميس، 16 أبريل 2020

كورونا ومحاولة لفهم القصة من جديد


   
لاحظ معي الأخبار التالية التي كانت تُنشر أواخر يناير الماضي، حين بدأ العالم يقرأ ويسمع الأخبار القادمة من الصين عن ظهور فيروس مستجد من عائلة كورونا، بدأ ينتشر في مدينة ووهان الصينية التي تقع في مقاطعة هوباي..
خذ بعض الأمثلة قبل أن نستعرض الأمور:
   لنبدأ بالصين والدول القريبة منها. فقد قالت الأخبار حينها بأن السلطات الصينية تأكد لديها إصابة 7700 شخص، توفي منهم 170 شخصاً معظمهم من ووهان، بؤرة المرض، وتم تسجيل 10 حالات في هونغ كونغ التي تتمتع بحكم ذاتي، غالبيتهم كانوا قد زاروا ووهان مؤخراً، فيما سُجلت 7 حالات في ماكاو التي يتردد عليها بكثرة زوار من الصين.
   في تايلند، الوجهة المفضلة للسياح الصينيين، أعلنت السلطات وجود 14 حالة مؤكدة. وكانت أكثر بلد فيه إصابات بعد الصين (أواخر يناير). وكان المصابون صينيين باستثناء عجوز تايلندية في السبعينات، لكنها كانت قد وصلت من ووهان خلال ذاك الشهر. أما تايوان التي حذرت منظمة الصحة العالمية مبكراً بالفيروس وخطره وسرعة انتشاره، فقد سجلت 8 إصابات آخرها لصينيين وصلا الجزيرة يوم 22 يناير مع مجموعة سياح. وفي سنغافورة أكدت السلطات إصابة 10 أشخاص بالفيروس، وصل جميعهم من ووهان أيضاً. وفي اليابان سجلت 11 إصابة، بينها إصابتان نقلتا عن طريق العدوى المباشرة من شخص لآخر على الأراضي اليابانية. والمصابان كان أحدهما سائق في الستين من العمر قاد حافلة تحمل سياحاً قدموا من ووهان في وقت سابق من يناير، والآخر امرأة تعمل مرشدة سياحية كانت على متن الحافلة.
  نبتعد قليلاً عن الصين، لنجد الهند تعلن عن تسجيل أول إصابة في ولاية كيرالا جنوبي البلاد، وهي لطالب كان يدرس في جامعة ووهان، وفي الفلبين تم الإعلان عن تسجيل أول إصابة لامرأة في أواخر الثلاثينات من العمر، كانت قد وصلت منتصف يناير من ووهان، ونقلت إلى المستشفى بعد أربعة أيام. وفي ماليزيا سجلت إصابة ثامنة لرجل صيني. تضاف إلى 7 إصابات، جميعها لسياح صينيين من ووهان كانوا يقضون العطلة في ماليزيا. والسيناريو يتكرر في كوريا الجنوبية التي تم تسجيل 4 حالات فيها، بينهم ثلاثة صينيين وكوري جنوبي، قدموا جميعهم من ووهان.
   لنغادر آسيا ونصل إلى الولايات المتحدة، التي أكدت السلطات 5 إصابات لأشخاص سافروا جميعا مباشرة إلى ووهان. وفي جارتها كندا تم الإعلان عن أول إصابة لرجل كان قد عاد من ووهان إلى تورونتو، وقالت الأخبار حينها أنه ربما نقل العدوى إلى زوجته. أما في فرنسا فقد تم تأكيد 5 إصابات بالفيروس، منها 3 إصابات، إحداها في مدينة بوردو والأخريان في باريس. وكان الثلاثة قد سافروا إلى الصين في الأيام الأخيرة..

   تلكم كانت مقتطفات لأخبار نشرت في بدايات ومنتصف يناير الفائت حول بدء تفشي الفيروس هنا وهناك في العالم. أخذنا بعضها من دول قريبة من الصين وأخرى بعيدة، لنخرج من جملة تلك الأخبار بملاحظة أراها مهمة في أي محاولة لفهم قصة انتشار الفيروس حول العالم في غضون شهرين من الزمن، وتحديداً خلال فبراير ومارس الفائتين. تلكم الملاحظة متمثلة في الإصابات التي بداية، كانت كلها إما لسواح صينيين دخلوا أقطاراً مختلفة، أو لمواطني بلدان كانوا في الصين لسبب من الأسباب وتحديداً في مدينة وهان، بؤرة المرض، ولم تكن منظمة الصحة العالمية قد حذرت بعد، دول العالم إلا في نهاية يناير حين أعلنت للعالم عن حالة طوارئ لابد منها لمواجهة الفيروس، بعد اكتشاف حوالي 100 إصابة خارج الصين، ولكنها لم تعلن أنها جائحة.
الحالة الإيطالية والإيرانية جرس إنذار
الظهور والصعود الفجائي لأعداد المصابين في كل من إيطاليا وإيران وكوريا الجنوبية بعد الصين، أثار الانتباه العالمي الذي كان بعدُ في طور مراقبة وملاحظة المرض في الصين وسرعة انتشاره، فلم يكن بمقدور العالم سرعة تحليل الحالة الصينية، بل لم يكد ينتهي من معرفة أصل الفيروس وبداية انتشاره هناك، حتى أثارت الحالة الإيطالية والإيرانية الانتباه، وخاصة إيطاليا التي أرعبت سرعة تفشي الفيروس فيها العالم كله، وبدأت أنظار دول العالم تتجه بعدها إلى الداخل، أو إلى نفسها، وكيفية الاستعداد والتصدي للفيروس، بدلاً من معرفة سبب ظهوره في الصين.
وهكذا بدأت دول العالم بالانشغال الذاتي، أو نفسي نفسي بادئ ذي بدء، قبل أن تمد يد العون لغيرها من القريب أو البعيد. حيث أذهلت الجميع سرعة تفشي الفيروس في أوروبا تحديداً وأثارت التساؤلات، وكانت ذروة تلك التساؤلات حين لاحظ العالم سرعة تحرك الولايات المتحدة في قائمة الدول التي ظهر كورونا فيها، حتى سبقت الجميع بما فيها الصين، التي كانت الأولى لأكثر من شهرين ونصف الشهر، فصارت الولايات المتحدة هي الأولى وبفارق شاسع وكبير عنها.

   الآن وقد صار الإعلان عن أرقام الإصابات والوفيات في كل دول العالم أمراً روتينياً، بدأت الأنظار تتجه أولاً إلى من بإمكانه انتاج المصل أو العلاج المناسب لهذا المرض، باعتبار أن الأولوية الآن هو البحث عن العلاج قبل بحث الأسباب أو توجيه الاتهامات، فلكل مقام مقال، ولكن في الوقت نفسه تتجه الأنظار نفسها تارة أخرى نحو الصين، من أجل فهم أدق وأعمق لهذا الفيروس وكيف انتشر، وما الذي كان يجب فعله ولم يتم. ولعل هذا هو السؤال الرئيسي الذي بدأت دول عديدة توجهها للصين، ولماذا تكتمت على الأمر منذ البداية ولم تنبه العالم لخطره واحتمالية انتشاره، ولماذا لم تتحرك جدياً وبالسرعة المطلوبة لعزل مدينة ووهان، بؤرة المرض، إلا بعد مضي من الوقت كان كفيلاً لأن ينتشر الفيروس حول العالم عبر عشرات الآلاف من السواح الصينيين أو الأجانب القاطنين في ووهان، سواء كانوا للدراسة أو التجارة أو حتى السياحة. ولماذا في الوقت نفسه أيضاً لم تتحرك منظمة الصحة العالمية سريعاً، مستفيدة من تجربتها السابقة مع انفلونزا الخنازير عام 2009 أو سابقاتها من الأوبئة والجائحات؟
الصين أم منظمة الصحة العالمية ؟ 
أصابع الاتهام إذن بدأت تكثر تجاه الصين وتراخيها في التعامل مع المرض أولاً، ومن ثم ابلاغ العالم به ثانياً، وكذلك الأصابع تلك بدأت توجه للمنظمة الأممية المسؤولة عن الصحة العالمية. فلقد أوقف انتشار هذا الفيروس أغلب مناشط الحياة في العالم كله، وبدأت الدول تتنبه إلى المشكلات وربما الكوارث القادمة بعد قليل، لاسيما في المجال الاقتصادي. ومن يجب أن يتحمل مسؤولية هذا الذنب أو هذه الجريرة. هل الصين أم منظمة الصحة العالمية؟
  
الولايات المتحدة والفيروس يفتك بها بصورة رهيبة دون غيرها من الدول، أعلنت مؤخراً على لسان رئيسها دونالد ترامب أنها ستوقف الدعم السنوي للمنظمة البالغ قيمته 400 مليون دولار، بسبب سوء إدارتها لأزمة كورونا، وأن العالم تلقّى الكثير من المعلومات الخاطئة حول انتقال العدوى والوفيات الناجمة عن المرض، وأن تصرفات منظمة الصحة العالمية أدت إلى إهدار أرواح بشرية، بحسب المتحدث باسم الخارجية الأميركية، الذي أضاف أن المنظمة تأخرت في إدراك خطورة الأزمة، ولم تعلن أن كورونا المستجد وباء عالمي إلا يوم 11 مارس الماضي، في حين أن الصين أبلغتها بتفشي الفيروس في ديسمبر 2019  ، والسبب الذي دعا المنظمة إلى عدم تقاسم معلومات تايوان مع الأوساط الصحية العالمية، ومشيراً في الوقت ذاته إلى إعلان منظمة الصحة منتصف يناير الماضي، أنه لا أدلة على انتقال العدوى بفيروس كورونا بين البشر، ما ساهم في نوع من التراخي في العالم، وعدم الخشية من هذا الفيروس الذي تحول إلى جائحة وباعتراف المنظمة الأممية، ولكن بعد فوات الكثير من الأوان!

   هل سيهدأ العالم بعد أن تسيطر كل دوله على تفشي المرض، وهل سيتم غض الطرف، رغبة أو رهبة، عن الصين ومسؤوليتها في انتشار المرض، وأنه كان بالإمكان تحجيمه منذ البداية؟ وكيف ستكون نظرة العالم أيضاً لأداء منظمة الصحة العالمية في هذه الأزمة أو الكارثة العالمية إن صح وجاز لنا التعبير؟
   الأسئلة تتقاطر وتتكاثر كلما طال أمد هذا المرض، وكلما ازدادت الضغوط على الشعوب المحجور عليها في المدن والقرى، وما يمكن أن ينتج عن تلك الضغوط من عواقب، سواء على حياتها بشكل عام أو على النظم الحاكمة في كل دولة..
الأمر بحاجة لمزيد رصد ومزيد ترقب وبعض استشراف، أرجو أن يكون فيه بعض أمل وتفاؤل بانفراجة قريبة ووضع عالمي أفضل.
         

الخميس، 23 يناير 2020

كلام الناس



من منا لا يهتم بالقيل والقال من كلام الناس؟


لا أظن أحدنا عنده تلك القدرة على تجاهل ما يدور بين الناس من موضوعات وخصوصاً تلك المتعلقة بالمرء نفسه. أحدنا قد يبذل جهده ألا يتفاعل كثيراً مع ما تلوكه الألسنة من سوء القول حوله أو في شأن من شؤونه، ويحاول أن يعتبر ذلك من الغيبة التي يؤثمون عليها، فيما هو يؤجر وتزداد حسناته..


  لكن مع ذلك، النفس البشرية تتلهف لمعرفة ما قيل ويُقال، سواء كانت الأقوال حسنة طيبة أو عكسها. أما مسألة التجاهل هذه، فإنها تحتاج نفساً راقية وصلبة في الوقت ذاته، لها القدرة على السمو وعدم الانشغال بها أو الحرص على معرفتها، وقليل من الناس من نفوسهم من تلك النوعية.
فما قصة حديث اليوم؟  
  
  قصة اليوم حول البعض الذي يعظّم من شأن أحاديث الناس حوله أو في شأن من شؤونه، فتراه يهتم لهذا ويحزن لذاك ويتوتر من تلك، فيظل يراقب وينصت ويسأل هذا وذاك وتلك، وقد تبخر من ذهنه مفهوم أساسي من مفاهيم الإيمان، تعلمه ودرسه منذ نعومة أظفاره في الابتدائية، هو ما جاء في حديث الحبيب – صلى الله عليه وسلم – وهو يوصي ابن عمه عبدالله بن عباس في قوله:".. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف".
  
  أي عمل أو قول يصدر منك وعنك لابد وأن تضع رضا الله نصب عينيك لا رضا الناس، وأحسبُ أن هذا من الأمور البدهية التي من المفترض أن أحدنا قد تأسس عليها منذ الصغر. لأن رضا الناس غاية لا تُدرك، ولن ترضي الناس كل الناس. إذ مهما أجدت وأبدعت وأخلصت في أي عمل، ثق أن هناك من سيخرج ويقلل من شأنه ولا يرضى عنه، وبالتالي سيكون سخفاً من العمل أن تهتم وتسعى بكل الطرق لكسب رضاهم، ورضاهم لن يضيف لك شيئاً.. وفي قصة أبي طالب عم الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – مثالاً على ما نقول..
  
  أيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله. هكذا كان يحث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - عمه أبا طالب وهو في سكرات الموت، لينطق الشهادتين من أجل أن يموت مسلماً يختم بها أعماله الجليلة في حق الإسلام والمسلمين. وكان حول أبي طالب حينها عددٌ من كفار قريش، من بينهم زعيم الكفر أبوجهل وهو يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ 

   الرسول يدعوه لنطق الشهادتين كآخر كلماته من الدنيا، وأبوجهل يخوفه من كلام الناس. وهكذا ظل الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل ويحاول إقناع عمه، فيما أبوجهل يعيد مقولته، حتى انتهى المشهد بقول أبي طالب كآخر ما نطق في دنياه:" على ملة عبد المطلب!  أي أنه مات مشركاً.
  
   رغم كل الجهود والأعمال العظيمة التي قام بها أبوطالب مع رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم – لكنه لم يسلم وظل على دين آبائه حتى أسلم الروح، ولم يكن من سبب يدفعه إلى عدم دخول الإسلام، سوى الخشية من ملامة الناس وكلامهم، وخشي أن تقول قريش بأنه جزع وخاف عند موته فأسلم.. فما تنفعه كلمات الناس في آخرته؟ لا شيء.

  إن قصة وفاة أبي طالب، هي نموذج واضح يبين لك كيف أن الاهتمام الشديد والمبالغ فيه بكلام الناس دون وجه حق، يمكن أن يؤدي إلى نهايات غير سعيدة. إنني هاهنا لا أقول بتجاهل ما يقوله الناس عنك، ولكن في حدود المعقول وضمن إطار الحق. لا أن أسمع لهم وأهتم بالقيل والقال على حساب ديني وآخرتي.

  إنك إن حرصت على إرضاء فلان وعلان، فمن المؤكد أنك ستصل إلى نهايات غير محمودة والى طرق مسدودة، باعتبار أن البشر أمزجة وأهواء، فقد ترضي في عمل لك أو قول، فلاناً من الناس ولكن ثق أنك في الوقت ذاته تخالف آخر، والعكس صحيح كذلك، بل لن تصل إلى نتيجة مرجوة نهاية الأمر. لكن حين تكون غايتك إرضاء الله واتباع الحق، فتأكد أنك ستصل إلى نهايات حميدة وإن خالفت الناس، كل الناس. لإن لم تكن تلك النهايات السعيدة في دنياك، فتأكد أن الله يدخره لآخرتك، وهي الحياة الحقيقية الباقية الخالدة.

  حياتنا كبشر، الأصل أنها طبيعية سائرة، وبالفطرة هي كريمة راقية في نفس الوقت، وما الرقي والكرامة إلا متلازمتين لفطرتنا كبشر خلقنا الله بيديه الكريمتين ونفخ فينا من روحه. ولكن مع ذلك نأبى العيش بالمستوى الذي فطرنا الله عليه.  

    تجد أحدنا من ضمن تفاهات وسخافات الفعل والقول الدنيوية اليومية، التي يقوم بها بقصد أو غالباً بدون قصد، أن يحزن لكلام الناس وقد اعتصره الألم، وارتفع ضغط الدم عنده نتيجة توجيه انتقادات إليه من شخص أو آخر، فيعيش تبعاً لذلك أياماً وليال وهو مشغول البال لا يهدأ، ولا يغمض له جفن. يحاول أن يرد الصاع صاعين أو أكثر إن استطاع، والنقد نقدين، مع ما يصاحب كل ذلك الفعل بالطبع، من توترات وتفاعلات كيميائية بالجسد مؤذية.

   إن حياتنا أرقى من أن ننزل بها إلى المستويات الدنيا عبر تلك السخافات والتفاهات من القول أو الفعل. ومن هنا أنصح أن يعيش أحدنا حياته كما أرادها الخالق جل وعلا. نرتقي في فكرنا وتعاملاتنا مع بعضنا البعض. لا نحقد ولا نحسد ولا نبغض ولا نسيء لأحد، وغيرها من تفاهات لا تستحقها أبداً عقولنا وأبداننا، ونجعلها عُرضة أن تقع ضحية لها وتتضرر على المدى القريب أو البعيد. 

 اقرأ معي ما جاء عن الإمام الشافعي ضمن هذا السياق.
 قال:" ضَحِكتُ فقالوا ألا تحتشم؟ بكيتُ فقالوا ألا تبتسم؟ بسمتُ فقالوا يُرائي بها. عبستُ فقالوا بدا ما كتم! صمتُّ فقالوا كليل اللسان، نطقتُ فقالوا كثير الكلم. حلمتُ فقالوا صنيع الجبان، ولو كان مقتدراً لانتقم. بَسِلتُ فقالوا لطَيشٍ به وما كان مجترئاً لو حكم. يقولون شذ إن قلتُ لا، وإمّعة حين وافقتهم. 
فأيقنتُ أني مهما أرد رضى الناس لا بدّ من أن أُُذَم !

الأحد، 13 أكتوبر 2019

إن جاءكم فاسق بنبأ ..


  
   بعث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليستلم منهم الصدقات، وفرح القوم بمقدم رسول رسول الله إليهم وخرجوا لاستقباله، لكن الوليد خاف من ذلك وبدأ يحدّث نفسه أنهم ما خرجوا إلا لقتله، فرجع إلى رسول الله - صلَى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ! فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً.. وبينما يحدّث نفسه – صلى الله علسه وسلم - أن يغزوهم، وصل وفد من بني المصطلق إلى المدينة، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وخشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله..  فأنـزل الله آية (وإن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة..)  


    لقد كانت قبيلة بني المصطلق قاب قوسين وأدنى من مصيبة ستلحق بهم قريباً، لولا أن الله أنزل آية من فوق سبع سماوات تدعو إلى التريث والتحقق من الأخبار قبل تصديقها والتعامل معها.. توجيه قرآني مهم ضمن قواعد السلوك والتعامل مع الأخبار، وهذا ما يسميه الإعلاميون بميثاق الشرف الصحفي، الذي من إحدى بنوده أهمية التريث والتثبت والتحقق من أي خبر قبل البناء عليه. وإن مثل هذه القواعد السلوكية أجد أهميتها وأهمية أن يلتزم بها كل من يتواصل مع الآخرين بأي وسيلة من الوسائل، لاسيما في وقتنا الحاضر في ظل تنوع وكثرة وسائل التواصل في عالم، يتفجر تقنية ومعلومات وبشكل مذهل غير مسبوق في تاريخ البشرية.

 
إن واحدة من سلبيات وسائل التواصل الاجتماعي، هي في الكم الهائل المتدفق من الأخبار والمتناقلة بين مستخدميها دون كثير وعميق تثبت وتحقق أو على أقل تقدير تأن وانتظار، بل تجد وكأن من مهمة أي شخص فينا ما إن تصله أخبار معينة، أن يقوم من فوره بتمريرها على معارفه وزملائه وأصدقائه، لتجد بالمثل في أولئك المعارف والزملاء والأصدقاء من هو على نفس الشاكلة !   


   ما إن تبدأ يومك، حتى تجد عشرات التنبيهات في تطبيقات التواصل بالهاتف، من تويتر إلى واتزاب ومرورا بانستغرام وفيسبوك وغيرها. تتدفق علينا الأخبار والمعلومات والصور والفيديوهات من خلال تطبيق الواتز آب، كأبرز وسائل التواصل الاجتماعي العديدة، والأكثر استخداماً حول العالم تقريباً، سواء وصلتك المواد بشكل خاص أو عبر مجموعات..

   وصفات طبية وعلاجات لأمراض ومواعظ دينية ورسائل تربوية، ونكت ونوادر وقفشات، وأخبار السياسة والاقتصاد والحروب والمآسي، بالإضافة إلى الأفراح والأحزان.. إلى آخر قائمة طويلة أو سيل عرم من المعلومات والأخبار، دون ذكر مصادر موثوقة عند غالبيتها، فتجد أغلبنا – كما أسلفنا - يعيد إرسال ما يصله بحسن نية.. لكن هل حُسن النية يكفي لكي أعيد إرسال معلومات وأخبار غير مثبتة أو وصفات طبية غير مأمونة أو معلومات دينية أو سياسية أو غيرها وفيها الكثير من التدليس وعدم الدقة؟ وهل المطلوب إعادة نشر كل ما يصلنا من رسائل ومقاطع أفلام وبرامج وغيرها؟

   الحاصل الآن، أن السلوك الغالب عند معظم مستخدمي وسائل التواصل هو إعادة الإرسال على الفور. وليست الإشكالية هاهنا أن تعيد إرسال مادة معينة تصلك، لكن الإشكالية في السرعة أو فورية التعامل، وكأنما أحدنا وكالة أنباء مطلوب منها سرعة النشر وتحقيق سبق صحفي! وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الحديث الصحيح، وفي رواية أخرى، كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع.

  
   إن واحدة من السلبيات التي لاحظتها مع هذا الإدمان الحاصل على وسائل التواصل، أن صار المرء منا يخاف أن يصل به هذا الإدمان وهذا الكم الهائل من المعلومات، إلى ما يسمى بتبلد الإحساس - إن صح وجاز لنا التعبير- لماذا؟ بسبب ضخامة وكثرة ما يرى من أمور دافعة لا شعورياً لبلادة الإحساس أو موتها تقريباً.

  من كان قبل هذا الانفتاح الحاصل في العالم يجرؤ بالأريحية التي عليها الآن على مشاهدة صور المذابح والقتل والدماء والأشلاء وعلى الهواء مباشرة؟ من كان يتصور أن يتبلد الحس إلى درجة أن يشاهد المرء منا الآن عمليات ذبح أو قطع أعناق البشر أو إعدامهم شنقاً وحرقاً ورمياً بالرصاص وصولاً إلى السيف؟ من كان يستمتع بمشاهدة أفلام حقيقية لبشر يموتون في حوادث سيارات أو غيرها؟ الأمثلة أكثر من أن نحصيها في مساحة محدودة كهذه..

  الأمر صار أشبه بمسألة الاعتياد على منكر من القول أو الفعل إلى درجة الألفة معه ! أي أننا اليوم، وبسبب كثرة الاطلاع على الصور والروابط المرسلة عبر وسائل التواصل، خاصة تلك المؤلمة والشنيعة، لم نعد نهتم ولا نشعر بما نرى ونسمع، وربما بعضنا يتألم بعض الشيء، لكنه بعد قليل سينشغل بأمور حياتية أخرى وينسى ما رأى أو سمع، لتجده يشاهد صوراً وأفلاماً أخرى مؤلمة تأتيه بالغد، وكأن بالأمس ما حدث شيء !  أليست هذه هي الألفة التي أعنيها؟

  هذا هو واقعنا وللأسف.. والمؤلم فيه أن العدوى انتقلت إلى الأطفال، الذين فقدوا البراءة التي كنا نستشهد بها قديماً، حتى صار طفل اليوم أكثر ميلاً نحو عنف الألفاظ وعنف التعامل، وصار أكثر جرأة في الاستمتاع بمشاهد الرعب والألم! وهذا بكل تأكيد لن تكون نتائجه المستقبلية سارة ومحمودة.


   هذا السيل المتدفق من المعلومات المتنوعة عبر وسائل التواصل، لابد من تهذيبها وضبطها بصورة وأخرى. وأرى أن المستخدم نفسه يبدأ قبل غيره. كما أن الآباء والأمهات والأبناء أنفسهم، مسؤوليتهم كبيرة هنا. أضف إليهم مؤسسات التعليم والتوجيه والإرشاد وما شابهها، عليها واجب التوعية والتنوير.

   الخشية أن نكون قاب قوسين أو أدنى من ظهور جيل عنيف سيتوحش بعد حين من الدهر قصير، وسينفلت كما انفلت غيره في مجتمعات أخرى سبقتنا إلى التقنية والتواصل.. ولو لم نتنبه للأمر سريعاً، فالجيل قادم في خطر آكد دون أدنى ريب.. إنني هنا لا أدعو إلى العزلة وتجنب مثل هذه التقنيات والبرمجيات، لكن أدعو إلى أهمية التثبت واستخدام بعض العقل في قبول ما يصل إلينا أولاً، ومن ثم جدوى إعادته ثانياً، واختيار الأشخاص المناسبين لتحويل ما اقتنعنا به ورأيناه صالحاً لهم، ثالثاً وأخيراً، فلعل وعسى بهذه الخطوات الثلاث، نقدر على التفاعل الإيجابي المثمر مع هذا السيل العرم من المعلومات المتدفقة علينا من كل حدب وصوب.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.       

الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

كيف تتعامل مع موظف كثير الأعذار ؟


   
 
  هي من العادات غير المحبذة عند أي مدير أو مسؤول. ولو بحثت يمنة أو يسرة في موقع عملك، لوجدت نوعية، سأتحدث عنها بعد قليل، من موظفين وعاملين، وستدرك كم الانزعاج والتذمر الصادر من المدير أو المسؤول في موقع عملك بسبب تصرفاتهم.

لنصطلح بادئ ذي بدء على تسمية هذا الفعل غير الإيجابي ولا الحضاري بـ ( فن خلق الأعذار ). هذا فعل يمكن إدراجه بشكل أوسع ضمن ثقافة الأعذار، التي لو بدأت بالانتشار في أي مؤسسة عمل، فاعلم من فورك أن روحاً من اللامبالاة والتنصل من المسؤوليات قد بدأت تنتشر هنا وهناك في أرجاء المؤسسة.
  الأصل في أداء العمل أن يقوم أحدنا به على أكمل وجه حين يُطلب منه، سواء كان في بيته أو مكتبه أو ناديه أو أي موقع يتعايش فيه البشر معاً، يعملون لأجل بعضهم البعض. ولكن حين يأتي هذا المكلف بأداء العمل ليبث لك عذراً تلو الآخر بسبب عدم إنجازه العمل المطلوب على الوجه المكلف به وفي الوقت المحدد، فإنه يعني عدم جديته وعدم إخلاصه وعدم تفانيه في أداء المطلوب. وربما أحياناً هناك أسباب أخرى، ولكن قلما تكون هناك أسباب غير التي ذكرناها، والمديرون يدركون هذا تماما..
حتى تتضح الصورة أكثر فأكثر، حاول أن تتصور معي هذا المشهد..
يطلب منك مديرك مثلاً أداء عمل ما ليكون جاهزاً بعد مضي وقت محدد يتفق هو معك، فتقبل منه وتستلم الأمر وتبدأ العمل بشكل ما.. ثم يأتي يوم الوفاء وعـرض العمل كما طُلب منك، فتجد أنه لم يتم بعد لأي سبب من الأسباب، فتعتقد حينها أنك تحتاج لوقت أطول أو بعض مساعدة.. فماذا تفعل حينها؟
بكل تأكيد ستبدأ في التبرير وإيجاد العذر أو الاثنين والثلاث للخروج من حرج الموقف مع مديرك. ستجد نفسك إما أن تماطل في تسليم المطلوب، أو أن تلقي باللوم على الآخرين، أو أن يكون للوسائل والتقنيات والأجهزة الإلكترونية نصيب من ذاك اللوم، وربما تتمادى لتجد لك عذراً تلصقه بالوقت أو الطقس أو البيت أو العيال أو السيارة، إلى آخر قائمة طويلة من الأعذار..
·        لماذا يضع أحدنا نفسه في مثل هذه المواقف المحرجة؟
·        لماذا، بدلاً من كل هذا الجهد في اختلاق الأعذار- العذر تلو الآخر- 
         لا يعمل بجدية في أي عمل يقوم به؟ 

الإجابة بكل وضوح كامنة في الآتي:
إن غياب الجدية في أداء العمل سببه ضعف أو غياب المتابعة ومن ثم العاقبة الصارمة، وهذان عاملان مهمان لشيوع ثقافة الأعذار في أي موقع أو أي مكان.. كيف؟
   أنت كموظف، لم تكن لتتكاسل في أداء عملك لولا معرفتك وخبرتك السابقة، أن الأمر ليس بتلك الأهمية لتجهد نفسك في أداء المطلوب أولاً، ومن ثم ليست هناك متابعة دقيقة من مديرك مثلاً حتى تهتم به ثانياً، وأخيراً تدرك أنه ليست هناك جزاءات رادعة تخيفك من أي تكاسل. وبالطبع هذا التكاسل ليس بالضرورة أن يكون عند أي أحد، بل في فئة من الموظفين تكون عندها قابلية التكاسل واختلاق الأعذار، سواء لأسباب نفسية أو ربما بسبب عقد قديمة كامنة فيها، وبدلاً من العمل بجدية وإخلاص وأمانة، تجد أحدهم يفكر ويبذل الجهد في إيجاد الأعذار الملائمة لكل مناسبة ! هكذا حالهم في غالب الأوقات والأعمال والمهمات.

كيف ينظر المديرون للمشكلة ؟
 قد ينظر المديرون إلى هذه المشكلة في البداية على أنها هامشية ولا تستأهل ذاك الاهتمام، بل ربما يحدث ابتداءً نوع من التعاطف مع الموظف حين يأتي بعذر ما، واعتبار ذاك العذر سبباً لعدم إنجاز العمل، ويتم بناء على ذلك إحسان الظن به.. لكن هل تسلم الجرّة كل مرة؟ يبدو نعم في بعض المؤسسات وعند بعض مختلقي الأعذار !
  إنّ تقديم أو اختلاق العذر – إن أردنا فهم وتحليل العملية - سنجد أنها نوع من الحماية الذاتية يقوم بها الشخص حينما يجد حاجة إلى حماية نفسه من اللوم والتقريع والإهانة وغيرها مما يمكن أن يلقاه، حالما يعجز عن تقديم عمله بحسب ما طُلب منه في الوقت المحدد.. والإنسان منا - أي إنسان - لديه قدرة هائلة على صناعة واختلاق الأعذار، كنوع من أنواع الحماية. ولو أن هذا البارع في اختلاق الأعذار، استخدم تلك القدرة في إنجاز أعماله بدلاً من صناعة الأعذار لكانت الأمور على غير الشاكلة التي عليها الآن كثير من مواقع العم المختلفة..
   إذن لا بد لك وأنت المدير أو المسؤول، أن تتنبه إلى مشكلة الأعذار التي يقدمها الموظفون. ولكن كيلا تكون فظاً غليظ القلب منذ البداية، فإنه لا مانع من قبول العذر الأول مع أهمية توجيه الموظف إلى عدم تكراره، وبالطبع لا بد أن يكون العذر معقولاً ومنطقياً، وإن كان ليس مطلوباً منك أيضاً كمدير، أن تتحول الى ضابط بحث وتحريات تتعمق وتبحث عن صدق أو زيف العذر. لا، ليس هذا من مهامك، لأنه إن فعلت، أصابك الجهد والإنهاك. ولكن بدلاً من ذلك كله، ابعث رسالة واضحة للموظف إلى أنك تقبل العذر، ليس لقوة عذره وحجته، بل لأنك تعطيه الفرصة للمرة الثانية أن يجيد ويتقن عمله، وإلا فالعاقبة القادمة لن تكون محبذة محمودة.

زبدة الحديث
هذه رسالة مختصرة جداً لكل مدير أو مسؤول مؤتمن على عمل ما :
 ابذل جهدك ألا تنتشر ثقافة الأعذار في مؤسستك أو شركتك أو دائرتك، بل حاول - بدلاً منها - نشر ثقافة العمل الجاد المخلص المبدع، وثقافة تقدير الوقت واحترامه.. ثم تخلص أيها المدير من مشكلة الأعذار عند بعض العاملين معك، وادفعها وأصحابها لخارج أسوار عملك بشكل وآخر، قبل أن تكون أنت بنفسك خارج تلك الأسوار.
 القرار بيدك الآن وقبل فوات الأوان.