أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 11 يوليو 2024

أبوعبيدة وصناعة القدوات والمشاهير

 

   
  في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتشار المعلومة وسرعتها، ظهرت موجة مصاحبة لها هي ما تسمى بالمشاهير، بغض النظر عن المحتوى المقدم من لدنهم، وإن كان غالبه غث لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يزيد المتابع أو المقتدي بهم، تشتتاً فكرياً وخواء روحياً وغيرها من سلبيات لا أظنها خافية عليك أيها القارئ.

   أقول: في مثل هذا الزمن، حيث غلبة مشاهير الخواء الفكري والروحي والثقافي على الساحة الإعلامية ومنصات التواصل، صارت الحاجة تزداد أكثر فأكثر إلى التوعية أولاً ومن ثم صناعة مشاهير بنفس الوسائل وعلى نفس المنصات والساحات، مع تنويع الطرق والأساليب، لإنتاج محتوى يليق بالإنسان ويثري فكره وثقافته.  

  أي إنسان منا غالباً في حاجة إلى قدوة أو معيار على شكل إنسان في مرحلة من مراحل حياته، كي يكون بمثابة منارة للاهتداء به والسير على دربه. وأحسبُ أن أي أحد منا، لابد وأن في أعماق نفسه شخص ما يضعه كقدوة أو معيار، به يقوّم ويصحح تصرفاته وسلوكه وأفعاله وأقواله..  

 

   اليوم بفعل تأثير وسائل الإعلام المتنوعة، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، صار مفهوم القدوة أو النموذج ليس كما عهدناه قبل جيل من الآن، بل تجد اليوم بفعل تلكم الوسائل والمنصات، وقد تحول لاعبو الكرة إلى قدوات، ومثلهم المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، وعارضي الأزياء والعارضات، وغيرهم كثيرين وكثيرات.

  لكن اللافت في المسألة أن هناك جهات عديدة على شكل مؤسسات وشركات بل حتى دول، هي من تقف وراء انتشار ظاهرة المشاهير بصورة وأخرى، ودفعها بكل قوة من أجل تحويل أولئكم المشاهير إلى قدوات لأطفالنا وشبابنا، الذين دخلوا هذا العالم المفتوح، المتسارعة أحداثه وابتكاراته، دون زاد كاف من المعرفة الفكرية والثقافة الدينية، أو إن صح التعبير، دون وعي كاف يحفظهم من سلبيات ومؤثرات اتباع أفكار ملوثة مشوشة تنتقل عبر الانغماس في عالم المشاهير غير البريء.

   

أمة النماذج والقدوات  


   نحن أمة حباها الله بآلاف القدوات منذ أن ظهرت على هذه الأرض حتى يوم الناس هذا، والصالحة للاقتداء الفوري. إن تاريخنا مليء بالقدوات المختلفة، من قادة وفرسان، وعلماء ودعاة، وغيرهم من الصالحين والصالحات، الهادين المهديين.

   نحن لا نفتقر إلى قدوات حتى يتهافت أبناؤنا على غثاء مشاهير اليوم، ولك أن تبحث وتقرأ في تاريخنا وتراثنا العظيم لتجد الآلاف المؤلفة من القدوات، بدءاً من القدوة الحسنة، نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، مروراً بصحابته الكرام، فالتابعون وتابع التابعين، ثم نماذج فذة ظهرت في عصور متتالية وصولاً إلى أيامنا هذه، التي لا تفتقر كذلك إلى القدوات الحسنة القابلة للاقتداء.  

   من يعرف من شباب اليوم مثلاً أبي عبيدة الجراح أمين هذه الأمة، وسعد بن أبي وقاص، أو سعد بن معاذ وخبيب بن عدي، أو الحسن البصري والشافعي، أو ابن تيمية وابن قيم الجوزية، أو غيرهم من السلف والخلف كثير لا يتحمل المقام المحدود ها هنا لحصرهم فضلاً عن ذكرهم؟  لن تجد سوى القليل من جيل اليوم من يعرف تلك القامات والقدوات.

 

أبو عبيدة الإعلامي


   حين ترى تلهف الكثيرين مثلاً لخطابات أبي عبيدة، الناطق الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، وتأثرهم بكلماته المنتقاة بدقة، وتقليد الأطفال له في طريقة حديثه وزيه العسكري، فإنما هو مؤشر إلى أن التأثير في الجيل الحالي من الأطفال والشباب، أمر ليس بالصعوبة التي يعتقد بها كثيرون منا، سواء عبر استحضار نماذج من ماضينا، أو صناعة نماذج جديدة من حاضرنا. 

  ها هو الرجل لا يفعل شيئاً غريباً أو مثيراً أكثر من التحدث إلينا بكلمات منتقاة كما أسلفنا، مع حركات قليلة جداً ليده اليمنى، لكنه مع ذلك استطاع لفت الأنظار، وحجز مكان له في ملايين القلوب. رجل ملثم بملابس عسكرية دون رتب أو نياشين مزيفة، يستحوذ على ألباب الملايين قبل أبصارهم حين يخرج متحدثاً عن آخر مستجدات عدوان الجيش الأكثر نذالة وخسة في العالم، وعن صمود وجرأة المقاومة في التصدي وإيلام العدو في الوقت نفسه.

   أبو عبيدة، هو نموذج واحد ضمن عشرات النماذج المرغوبة في صناعة المشاهير، إن صح وجاز لنا التعبير، الذين يستحقون المتابعة بكل الطرق والوسائل. مشاهير تحمل رسائل وقيماً وطموحات راقية، لا مشاهير الزيف والدجل، ناشرو الغثاء دون أدنى حياء أو خجل.  

 

صناعة المشاهير


   ماذا لو استثمرنا مثلاً هذا الحب والاعجاب بهذا الملثم من قبل جماهير هذه الأمة المتلهفة لأي انجاز يفتخر به، وربطنا بينه وبين أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح بصورة من الصور أو من نواحي أدب الحديث ورباطة الجأش وبث الأمل في النفوس، كما كان أمين الأمة يفعل؟

   على شاكلة تلك المقارنة مثلاً، يتم استحضار نماذج أخرى وتعريف شباب الأمة بها ضمن برنامج توعوي منهجي، يتم استخدام أدوات العصر في ابراز النماذج، وتحويلهم لمشاهير تستحق الاقتداء، وبالتالي يمكن التصدي لحملات تشويه الذوق والمزاج والفكر الشبابي المسلم المستمرة عبر مشاهير فارغة مدعومة من مؤسسات وجهات لأهداف متنوعة، ليس من بينها بالطبع ما يصلح للأمة ولا شبابها.

   المسألة إذن، كخلاصة للحديث، تحتاج جهداً منظماً وفق منهج تربوي يستهدف الشباب قبل الكبار، يتم خلاله استخدام الأدوات نفسها التي عند المعسكر الآخر، الذي لا يهدأ ليلاً ونهاراً في تنفيذ ومتابعة برامج التأثير والاستحواذ على قلوب وألباب الشباب.

إنها معركة إعلامية فكرية لا تقل أهمية عن المعارك الأخرى، العسكرية منها والسياسية والاقتصادية.. والله بكل جميل كفيل، وهو دوماً حسبنا ونعم الوكيل.


الخميس، 13 يونيو 2024

ما أغنى عنه ماله وما كسب

    


    إنه النموذج الأبرز للشخص الذي ما أغنه عنه ماله وما كسب.. النموذج الذي سيظل يتأمله المؤمنون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ولكن قبل أن يصل هذا النموذج إلى تلك المرحلة التي لا تغني عنه ماله وما كسب، كان من أكثر المحبين لأخيه عبدالله الذبيح، والد نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا ما رزقه الله بولد وحيد هو نبينا الكريم ويتوفى بعدها، يقوم أبولهب مجسداً محبته لابن أخيه بعتق جاريته التي زفت إليه خبر الولادة.

   يؤكد أبولهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، عم النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - يؤكد محبته لابن أخيه أكثر فأكثر، حتى يقوم بعد سنوات ويختار اثنتين من بنات ابن أخيه - صلى الله عليه وسلم - لأولاده، عتبة وعتيبة.. اختار رقية - رضي الله عنها - لعتبة، وأم كلثوم - رضي الله عنها - لعتيبة، رغم أنهما كانا على الشرك، فيما كانت رقية وأم كلثوم مسلمتين، حيث لم تكن آية تحريم تزويج المسلمات للمشركين قد نزلت بعد.

     يتغير الوضع فجأة، ويضيع كل ذلك الحب الأبوي، وتنقلب الأمور رأساً على عقب بشكل دراماتيكي. فما إن انتشر خبر الدعوة والرسالة، حتى انقلبت قريش على الصادق الأمين، وكذبت دعوته فوراً، وقامت بالتصدي لهذه الدعوة الجديدة في مكة، وكان من ضمن المنقلبين، أبولهب الهاشمي، في خطوة غير مفهومة ولا مقبولة عند العرب حينذاك. إذ المفترض أن العصبية القبلية تتصدر المشهد عند أبي لهب يومذاك على عادة العرب، ولكن لم يحدث ذلك أبداً !

   خالف أبولهب كل تلك التقاليد العربية المتوارثة، فكان بدلاً من ذلك، من أوائل من جاهـر بالعداوة للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – وهو لم يكن – كما يبدو للوهلة الأولى - ليحتاج إلى كل تلك العداوة مع أحد أقرب المقربين إليه، بل لم تكن هناك حاجة تستدعي أن يتنافس هو مع آخرين من صناديد وعتاة القبائل القرشية الأخرى في معاداة أحد رجالات بني قومه، بني هاشم. لكن هذا ما حدث.

 

الانقلاب المذموم    

   انقلب إذن هذا العم، المحب لابن أخيه للدرجة التي أعتق جارية له فرحة بمولده - صلى الله عليه وسلم - وقد كان معروفاً عندهم أن العربي لا يعتق رقاب عبيده وجواريه إلا لأمور عظيمة. إلا أن هذا العم خالف أبناء عبد المطلب وتقاليد بني هاشم وقريش وجل العرب بشكل عام. وقد كان المتوقع منه، وهو الهاشمي الأصيل، أن يكون كبقية إخوانه مع ابن أخيهم، يدافعون عنه حين بدأت قريش تؤذيه، ولو من باب العصبية القبلية، كعادة العرب في الجاهلية كما أسلفنا. 

   خالف أبولهب توجهات بني هاشم واصطف مع كبار مجرمي قريش، أمثال أبي جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف والنضر بن الحارث وغيرهم، وظهر وتبين أن سبب عداوته السريعة تلك، كما في الروايات التاريخية، هو حسد من عند نفسه على ما تفضل الله به على نبيه بالرسالة دون سائر بني هاشم، ليتطور ذلك الحسد إلى حقد أعمى ثم عداوة تتفاقم يوماً بعد يوم، حتى التهبت نفسه، وصارت ناراً تأكله هو وزوجته أم جميل، واسمها أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، والتي اشتهرت بحمالة الحطب بعد نزول سورة المسد فيهما. لكن مع ذلك لم تردعهما السورة التي نزلت وفيها وعيد شديد لهما، إلى أن هلكا وختم كل منهما حياته بشقاء أبدي في نار ذات لهب.

   لم ينتفع أبو لهب بعلاقة القرابة مع خير البشر كما إخوته: سيد الشهداء حمزة، وجعفر الطيار، والعباس وعقيل وغيرهم. فلا هو أغدق خيراته على ابن أخيه ودينه مثل أولئكم العظماء، ولا كفّ شره وناصره كأضعف الإيمان، مثل أخيه أبي طالب. لكنه أبى إلا أن يكون عقرباً لئيماً عنيداً حسوداً حقوداً، أنهى حياته بنهاية لن تسره لا في قبره ولا آخرته.

 

 ما أغنى عني ماليه 

   كل ذلك المال والجاه الذي اشتهر أبولهب به، لم تسعفه ولم تغن عنه يوم حاجته، وتحديداً يوم أن خرجت قريش لملاقاة المسلمين في بدر. فقد نفرت قريش وقام كل مقتدر على القتال بتجهيز نفسه، ومن لم يرد الخروج لسبب وآخر، قام بتجهيز الجيش أو يدفع مالاً لآخر ليقوم مقامه في المعركة، فكان أبولهب من أولئكم المتخلفين أو الباحثين عن أي عذر لعدم الخروج. حيث دفع مالاً لمن يقاتل نيابة عنه، خشية أن يُقتل في بدر، وهو يعلم أن أذاه للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – في مكة، لن يمر مرور الكرام، ولابد أن دعوة منه، عليه الصلاة والسلام، ستصيبه عاجلاً أم آجلا، وهذا ما كان فعلاً.

   انتهت المعركة بمقتل صناديد قريش وكبار المجرمين الذين آذوا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وصحبه أيما إيذاء، وانتشر الخبر المحزن في مكة، وكأنما أبولهب وهو يسمع خبر المعركة، تنفس بعض الصعداء إذ لم يكن معهم، فيموت مثلهم. لكن كما في الروايات التاريخية، وتأكيداً لما عرفه الجميع من القرآن أن هذا الرجل وزوجته هالكان لا محالة، ولن تغني عنهما أموالهما الكثيرة بأي صورة من الصور، فقد أصاب أبا لهب مرض معد انتشر في جسمه، جعل الناس تتجنبه، حتى أهله والمقربين منه، إلى أن هلك. 

وخاف أهله الاقتراب منه لدفنه خشية أن يصيبهم ما أصابه، فتركوه أياماً حتى تعفنت جثته، فما كان منهم إلا أن حفروا حفرة قذفوه فيها بواسطة عصي، ثم رموه بالحجارة من بعيد بدلاً من التراب، في نهاية بائسة مذلة لم يقدر أقرب المقربين إليه إكرامه وقت دفنه، كما هو المعتاد مع أي ميت، تأكيداً لما قرره القرآن منذ سنوات، بأنه لن تغني عنه ماله ولا أولاده في تغيير نهايته الدنيوية، لينتقل بعد ذلك إلى عالم البرزخ، ينتظر بصورة وأخرى، نهاية أستكون كثر بشاعة بالآخرة، جزاء ما اقترفته يداه.

 

خلاصة قصة أبي لهب   

 

    خلاصة قصة أبي لهب كما في سورة المسد، أن كل ذلك المال والجاه والصيت لم تنفعه، ولم يكن لذلك كله أي تأثير في دفع البلاء عنه - كما يقول فخر الرازي في مفاتيح الغيب - مفسراً آية ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) فإنه لا أحد أكثر مالاً من قارون، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكاً من سليمان، فهل دفع الموت عنه؟ وعلى هذا يمكن القول بأن في الآية إخبار بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك
  

   درس مختصر بليغ خلاصته أن من يعادي الحق ويصطف مع الباطل، رغبة أو رهبة، ولا يستثمر عمره وماله وقوته فيما ينفع آخرته، فلا معنى لحياته. إذ لا قوتك ولا مالك ولا جاهك ولا منصبك ولا سلطانك ولا جيشك ولا حشمك وخدمك ولا أهلك أو قبيلتك تنفعك في آخرتك، إن كنت تؤمن بآخرة وبجنة ونار - أعاذنا الله وإياكم منها - ورزقنا رؤية الحق حقاً فنتبعه، ورؤية الباطل باطلاً فنجتنبه. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.