يكذب عليك من يقول أن صدره واسع رحب يقبل
النقد، وأنه في الوقت ذاته لا يهتم بمديح هذا أو ذاك !
هذا يخالف الفطرة البشرية. فما من إنسان لا
يحب المديح والإطراء، وما من إنسان كذلك يتسع صدره للنقد ويقبله. نفوسنا ذات طاقة
محدودة. قد يصبر أحدنا على منتقديه لبعض الوقت، لكن بالطبع ليس كل الوقت. وربما بعضنا
لا يميل للمديح، لكن من المؤكد أن نفسه تطرب لمدح من هذا أو ذاك وتلك.
هذه هي النفس البشرية، ومن الصعب مقاومتها
وضبطها لتسير وفق نظام معين. فهذا ليس بمستطاع أي أحد سوى الأنبياء المعصومين،
وبعض أولياء الله الصالحين، وقليلٌ ما هم. هذه خلاصة الموضوع، لكن هناك
بعض زيادات وتفصيلات لمن أحب أن يكمل القراءة..
بادئ ذي بدء، لا شيء أن تمدح الآخرين أو
العكس، خاصة إن وجدت فيمن تريد مدحه، أو وجد الناس فيك ما يستحق أو يستوجب المدح دون
مبالغات، أو مجاملات كاذبة. فقد مُدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع
ويرى، ,ليس هو من يحتاج مدحاً من أحد، فيكفيه مدح ربه له في قوله تعالى ( وإنك
لعلى خُلُق عظيم ) فليس بعد هذا المدح من مديح. كما أنه صلى الله عليه وسلم مدح
الكثيرين من أصحابه، ولكن مع ذلك في الوقت نفسه، كان يحذرهم من الإفراط في المديح،
كما في حديث " إياكم والتمادح، فإنه الذبح ".
أما لماذا شبّه المدح بالذبح، فلأن الإفراط في هذا العمل من شأنه أن يميت القلب أولاً، ومن ثم هناك احتمالية كبيرة ثانياً، أن يُخرج هذا المديح المستمر، الشخص الممدوح، عن تعليمات دينه، لتراه بعد حين وقد اغتر بأحواله، وربما يبدأ يسيطر عليه شعور كاذب من العُجب والكبر، ليرى نفسه دوماً وأبداً أهلاً للمديح، لا سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا بزينتها وأضوائها وبريقها !
مدح الأحياء أم الأموات
هذا الأمر لا يقتصر على من يقوم
بأعمال دنيوية فحسب، بل يشمل كذلك علماء الدين والدنيا، الأمراء والرؤساء، ومن على
شاكلتهم في المستويات والدرجات، العليا منها والدنيا. احذر أن تمدح عالماً، أو
مفكراً، أو صاحب رأي، أو رئيساً، أو مرؤوساً، إلا بالقدر الذي يستحقه دون مبالغات
ومجاملات، فإنك لا تدري بعد حين من الزمن، طال أم قصُر، ما عساه أن يفعل ويقول.
إن أردت مدح صاحب رأي، أو علم، أو رياسة ووجاهة، مدح حق، فليكن لمن مات على
هذا الحق. أما قبل ذلك، فالحذر مطلوب. فقد يكون الممدوح اليوم على حق مبين، ثم
ينقلب على عقبه بالغد، فيصير ناصراً لباطل هنا أو ظالم هناك، غير مكترث بما كان
عليه بالأمس القريب، والقلوب بيد الرحمن، يقلبها كيفما شاء.
المدح مطلوب بعض الوقت ولغايات مقصودة. منها تعزيز
الممدوح ليستمر على ما تم مدحه عليه، من عمل أو قول. ومنها رسالة للآخرين على
الاقتداء بالممدوح في الأمر الذي استوجب مدحه عليه. ومنها إشاعة روح التقدير
والمكافأة المعنوية بين الناس، وخاصة إن كان المدح يصدر من رئيس لمرؤوس. لكن يكون
خطراً وغير مقبول حين يصل إلى حد المبالغة والإفراط ، أو المديح لكل همسة ولمسة !
هذا بشكل مختصر كل ما يتعلق بالمديح.
النقـد لمجرد النقـد
فعل النقد الهادف البنّاء لا يحدث إلا بهدف التصحيح والتوجيه، والحيلولة دون وقوع أخطاء مرة أخرى. هذا هو النقد المطلوب. لكن إذا كان أداء فعل النقد لمجرد النقد، وحباً في توبيخ الآخرين، أو من باب الشماتة، فهذا مرض من أمراض القلوب، وفعل غير محبوب ولا مرحب به في أي زمان وأي مكان. لكن مع ذلك، هو مرض يمكن علاجه مع الوقت. وهذا موضوع آخر قد نتحدث عنه في قادم الأيام بإذن الله.
رحم الله من أهدى إليّ عيوبي،
كما يقول الفاروق عمر، الذي كان يسأل سلمان الفارسي دوماً عن عيوبه، حتى إذا قدم
عليه مرة، قال له عمر: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟
قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه.
فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حُلتين.
حُلة بالنهار وحُلة بالليل
قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا.
قال: أما هذان فقد كفيتهما.
قصة الفاروق عمر مع سلمان
الفارسي رضي الله عنهما، نموذج لما يجب أن يكون عليه الناقد والمنقود أو
المنتَـقـَـد. الشاهد من القصة أن عمر وهو من هو يومئذ، لم يتحفظ أو يضيق صدره على
ما كان يراه سلمان في فعله، وأنه جزء من ترف وبذخ غير مبرر وهو رئيس للدولة، بل
تقبل الفاروق نقد سلمان بصدر رحب، وعالج ما كان يراه سلمان عيباً، فأثبت بذلك الفاروق
أنه نعم الرئيس، وأثبت سلمان أنه نعم المرؤوس.
وهذا هو المطلوب من الناقد
والمنتَقد. الأول يبتغي من نقده وجه الله، وأن يُصلح بنقده. أما الثاني مطلوب منه
تقبل النقد الهادف البنّاء، بل وشكر ناقده وتعظيم الأجر له إن كان بالمستطاع، وأقل
ذلك الدعاء له ( رحم الله من أهدى إليّ عيوبي ) كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه
وأرضاه، أو كما جاء عنه في مناسبة أخرى ( أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي ).
خلاصة القول
من جاء ورفع إليك عيباً، أو مجموعة معايب رآها، فلا تحزن ولا تبتئس، بل أقبل عليه بجوارحك تسمع إليه وتنصت، ثم ادعو له بظهر الغيب، وقبل ذلك تشكره وتثني عليه. إنّ مثل هذا، كمثل جوهرة نادرة رزقكها الرازق بغير ميعاد.. أفلا تحتاج هذه الجوهرة منك كل رعاية واهتمام؟
الجواب عندك، فانظر ماذا ترى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق