الأربعاء، 16 يناير 2019

حين يكون التغافلُ حلاً


  
  الغفلة والتغافل، كلمتان بينهما فرق كبير. فالأولى أمر طبيعي ناتج عن قلة علم أو جهل بالشيء أو الأشياء، فيما التغافل فعل إرادي ناتج عن إحاطة وإلمام وإدراك بما يدور في البيئة المحيطة.. هذا يعني أن التغافل أقرب إلى أن يكون حكمة من الإنسان حين يقوم به في موقف ما، بل ربما يصل التغافل لأن يكون مهارة نحتاج إلى التدرب عليها واكتسابها لأجل علاقات إنسانية راقية. في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا مضطرين إلى استخدام مهارة «التغافل» في بعض المواقف الحياتية، لا لشيء سوى رغبة في كبح جماح موقف ما قد يتطور ليصبح ناراً تلظى، أو رغبة في السيطرة على أجواء حدث معين يوشك أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فيضطر أحدنا إلى هذا الفعل أو هذا الخُلق أو هذه المهارة.

 خذ مثالاً على ما نتحدث عنه..
إن وجدت نفسك أمام شخص ما في لحظة ما، يتحدث عن خبر معين أو حادثة من حوادث الدهر، لكنك وأنت تنصت إليه، تعـرف حق المعرفة أن الصواب قد جانبه في نقل الخبر أو الحديث عنه.. فهل من الصواب أن تقاطعه فجأة وتصحح ما يتحدث عنه أمام جمع من الحضور، قد يكون صغيراً أو كبيراً، أم تجد أن الحكمة حينها في التريث أو التغافل لبعض الوقت؟

  الواقع الفعلي عند كثيرين في مثل هذه المواقف هو الدخول والمقاطعة لأجل التصحيح، لكن الذي أميل وأدعو إليه، أو أراه الوضع الأمثل أو الأصوب ألا تتدخل وتقاطع المتحدث لتثبت له براعتك في التصحيح أو علمك بالأصح، بل الحكمة تتطلب ها هنا إلى أن تنصت إليه حتى النهاية دون مقاطعة، ثم تبدأ في طرح ما عندك من معلومات وتحاول التصحيح بصورة متدرجة، دون إظهاره بمظهر غير العارف أو أن معلوماته غير دقيقة، كأن تقول له مثلاً بأنك سمعت الخبر ذاته لكنه على نحو كذا وكذا، ثم تضيف في القول عبارة أخيرة مهدئة: لست مع ذلك متأكد أنه صحيح تماماً.. وبما أنني سمعته بشكل وسمعته أنت بشكل آخر، فمن الأفضل أن نتأكد أكثر.

  أنت هنا في هذا الموقف تستخدم مهارة أو خلق التغافل بحكمة، حيث سيدرك صاحبك من فوره أن معلوماته ربما غير دقيقة، وهذا ما سيدفعه إلى مراجعتها وتصحيحها فوراً، بل أكثر من هذا - وهو المهم - سيزداد إعجابه وتقديره لك، لماذا؟ لأنك لم تحرجه أو تجرحه، ولم تحفز هرمون « الأدرينالين» في دمه لكي ينتشر في ثنايا جسده وبالتالي يتعنت ويفور ويثور ويستعد لمقاومتك بكل الصور.

  إن قام شخص في موقف ما بتخطئة آخر بشكل مباشر، دون مقدمات أو اختيار الأنسب والأهدأ من الأساليب والألفاظ، حتى لو كان محقاً في تصحيحه بشكل لا يختلف عليه أحد، وسواء كان على شكل منفرد أو أمام الغير، إلا أنه في كلا الحالتين، هو موقف صعب ومحرج بالنسبة للطرف المجني عليه، إن صح التعبير، والأمر سيعتمد عليه في قبول التصحيح أو تطوير الأمر إلى جدال عقيم حتى يصل للمراء، وفي كلا الحالتين سيخرج الشخصان خاسرين من الموقف، إن تم رفض أسلوب التصحيح.. كما أن الخسارة واقعة كذلك في حال قبول أمر التصحيح، لأنه قد يتقبل منك الأمر ويحاول أن يكون كبير الموقف بقرار القبول ولو ظاهرياً، لكنه سيخرج من الموقف وفي نفسه عليك شيء، وما حدث يمكن أن تقع فيه أنت أيها القارئ وأيتها القارئة كذلك، سواء على شكل مصحح أو من يتم التصحيح له.. فحاول أن تتأمل المشهد.


   إن موقف التصحيح أو الإحراج إن صح التعبير، موقف صعب على الإنسان، أي إنسان، أن يتقبله وخصوصاً إذا خلا من الذوق وأدب الحوار والحديث والاستماع.. ولأنه موقف يسبب الكثير من الإحراج، فتوقع أن يكون رد الفعل من الطرف الآخر بنفس الزخم والقوة، سواء قام بإظهاره فوراً أم كتمه في الصدر إلى وقت قريب والى فرصة سانحة لرد الصاع صاعين أو ربما أكثر! وقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أن تسعة أعشار حُسن الخلق في التغافل.

  إن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة خباياها وخصائصها، مهمة جداً في نجاح العلاقات مع الآخرين. وإن الجهل بها يؤدي على الأغلب إلى عواقب ونتائج غير سارة، والأمثلة في حياتنا أكثر من أن تُحصى.. فالعلاقات بين البشر مثلما أنها تحتاج إلى قلوب واعية صافية نقية لتنمو وتستمر، فكذلك هي بحاجة إلى عقول يقظة فطنة تدعم توجهات ومشاعر تلك القلوب، كما جاء عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بأن العقل ثلثه فطنة وثلثاه تغافل، ما يعني أن استخدام العقل بمهارة في تعزيز وتقوية العلاقات أمر حيوي لا بد منه. ومثل تلك التعزيزات تحتاج إلى مهارات وفنون في التعامل. وأحسبُ أن التغافل أبرز تلك المهارات، بل هو من أخلاق السادة الكرام، الذي أجده حلاً لكثير من المشكلات بيننا، سواء في البيت بين الزوجين أو بينهما والأبناء، أو خارج البيت كما في بيئة العمل أو المجتمع بشكل أعم وأشمل.. والله بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق