الخميس، 11 أكتوبر 2018

ربنا أفرغ علينا صبراً..

  
   هكذا ردد من بقي مع الملك طالوت من صفوة جنده، وهم في طريقهم لمواجهة ملك جبار ظالم قوي هو جالوت وجيشه الضخم.. قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين..


 هكذا رددوا تلك الدعوات وقد قل عددهم كثيراً من بعد أن كانوا ثمانين ألفاً، وقد تجمعوا مع طالوت لمواجهة عدوهم الذي أهلك حرثهم ونسلهم وشردهم في الأرض.. يريدون مواجهة هذا العدو واسترداد حقوقهم، بعد أن تحرك الإيمان في قلوبهم وأنه لا سبيل لتحقيق مرادهم سوى التوكل على الله والقتال في سبيله، ومن أجل ذلك ذهبوا إلى نبي لهم في ذاك الزمان، وطلبوا أن يدعو الله ليبعث لهم ملكاً يقاتلون عدوهم تحت رايته.

  النبي الذي لم يذكر اسمه القرآن في القصة، استغرب وتعجب من هذه الحماسة الدينية التي سرت في نفوس قومه، وهو يدري أنهم ناقضوا عهودا ووعودا، وأن التحول من الحق للباطل صار أمراً يسيراً عندهم، بل أصبح عادة يُعرف بنو إسرائيل بها..

  بعد أن رأى حماستهم (قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) أي هل أنتم على درجة تامة ويقين جازم أنكم إذا فرض الله عليكم القتال، لن يكون هناك تردد وتخوف وتراجع؟ يريد أن يطمئن إلى أنهم جادون في الأمر، باعتبار أن مطالب الأنبياء من الله ليست بالأمر الهزل، فإذا ما رفع النبي يديه يدعو ربه، ونزل الأمر، صار تكليفاً واجباً، وأصبح التراجع عنه معصية تجلب غضب الله وعقابه.. ثم ينتهي مشهد بني إسرائيل مع نبيهم بأول مخالفة، حيث اعترضوا على الملك طالوت، وكيف يكون هو الملك وهم أحق منه؟!

  كانت أول صدمة لطالوت بعد نزول أمر القتال.. فكيف يقاتل عدواً شرساً مثل جالوت بأمثال هؤلاء الجند، وهم بعد لم يجمعوا صفوفهم؟ تساؤل منطقي وواقعي، لكن بعد عدة نقاشات جرت بينهم وبين نبيهم، استقر الأمر وبدأ طالوت يجمع جنوده ويجهز جيشه للمعركة المرتقبة، وهو لم ينس ما جرى منهم واعتراضهم عليه.. الأمر بحاجة لضبط وربط وتمحيص، فالمهمة التي هم بصدد القيام بها ليست سهلة، ولأنها كذلك، فهي تحتاج إلى رجال أصحاب عزائم وبأس وولاء وطاعة، فلا مجال للخلاف والمشاكسة والمعارضة لأجل المعارضة. فكان لابد من اختبارهم، وكانت قصة النهر الذي سيمر الجيش عبره بعد قليل.. (فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر. فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلاً منهم).

  أراد الملك طالوت إذن أن يختبر من معه من الجنود الذي كان فيهم الكثير من الذين عارضوا نبيهم حين أخبرهم بأمره، وهو يعلم الآن أنه في مهمة صعبة، كما أسلفنا، وأن الكثير ممن معه في جيشه لا يمكن الاعتماد عليهم من بعد حادثة الاعتراض الأولى، فكيف يأمن أن يخوض بهم حرباً لملاقاة قائد شرس جبار، واحتمالية الخيانة وتولي الأدبار كبيرة جداً منهم..

ألهمه الله اختبار المرور عبر أو جنب النهر، في وقت كان قد بلغ العطش بالجيش مبلغاً لا يمكن مقاومة الماء لدى رؤيته. قال بأن الله مختبرهم بعد قليل، وأن هناك نهراً بالطريق، فمن شرب منه فسيعتبره خارج الجيش ولا حاجة له به، إلا من يغترف بيده أو يشرب الماء بقدر كف يده، فلا بأس.. وكانت المفاجأة. انكب الكثير من الجيش على الماء يشربون شرب الهيم، فخالفوا بذلك الفعل تعليمات قائدهم، وبالتالي لم تنجح الغالبية في الاختبار، حيث قال بعض المفسرين بأن عدد من شرب من الجيش بلغ قرابة ستة وسبعين ألفاً من مجموع ثمانين ألفاً هم كل جيش طالوت. 
لم تبق معه سوى فئة مخلصة صادقة، التزمت بتعليمات القائد، فتيقن حينها بأنه بهذه الفئة القليلة المخلصة سيتمكن بإذن الله من تحقيق الإنجاز المطلوب بهم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.. ولقد كان من بين الفئة القليلة تلك، نبي الله فيما بعد، داود عليه السلام، الذي قاتل تحت راية طالوت، فكان له شرف قتل عدوهما جالوت.

  الشاهد من الحديث أن الإخلاص في العمل وصحة أساليب التنفيذ، مع علو الهمة نحو تحقيق الهدف والتوكل أولاً وأخيراً على الله، هي عوامل أساسية رئيسية لتحقيق أي نصر أو إنجاز، وهي قد توافرت في الفئة القليلة التي مكثت مع طالوت، فكان النصر..
قانون كوني دقيق. من التزم به انتصر، ومن خالفه خسر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق