الخميس، 28 فبراير 2019

فجمع كيده ثم أتى

   

   من المشاهد الرهيبة المؤثرة بالنفس، ذلكم الذي كان قد جرى في زمن قديم بين طاغية مجرم مثل الفرعون الذي جاء ذكره في القرآن، وبين نبي كريم مثل موسى عليه السلام، الذي آتاه الله هيبة من بعد أن كان خائفاً في المدينة يترقب، ولا يكاد يبين في الكلمات بسبب لثغة في لسانه، حتى كان الفرعون يسأل الناس إن كان هذا الشخص خيرا منه، وهو لا يملك مالاً ولا ملكاً بل لا يكاد يفصح عن الكلام، استهزاء به
.
   هذا النبي من بعد أن دعا الله أن يشرح له صدره وييسر أمره ويحلل عقدة من لسانه، ليفقه السامع قوله، قد آتاه الله هيبة جعلت الفرعون، وهو من هو يومئذ، يرتعد من باطنه خوفاً وخشية حين جاءه موسى مع أخيه هارون إلى مجلسه يدعوانه باللين والقول الطيب، أن يرفع العذاب عن بني إسرائيل ويدعهم وشأنهم، وبقية القصة التي جرت في تلك الواقعة، منها رؤية الفرعون لمعجزة العصا واليد، حتى طلب من موسى موعداً ليواجهه بمثل سحره – حيث ظن فرعون أن ما جاء به موسى إنما هو السحر- فكان الاتفاق على يوم الزينة.
   الشاهد من القصة أن فرعون، وهو الذي زعم الألوهية، يطلب من موسى موعداً، وهو قبل قليل كان يسخر منه ويقلل من شأنه، فما باله الآن يطلب موعداً مع موسى؟ إنها الهيبة كما أسلفنا، والتي أنعم الله بها على موسى عليه السلام، فكان ذاك الموعد بداية النهاية للفرعون.


   لكن قبل التحدث عن مشهد يوم الزينة، حيث يجتمع الناس كلهم في أصفى وأفضل أوقات النهار وضوحاً، ليشهدوا الهزيمة الساحقة لموسى وأخيه أمام الزعيم الخالد. إليك وصفاً دقيقاً آخر لمشهد سابق كما في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب رحمه الله، بعد أن اجتمع السحرة مع فرعون على المشهد المرتقب والمكافأة: ".. وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السلام. ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة؛ يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين؛ ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم. (فلما جاء السحرة قالوا لفرعـون: أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم، وإنكم إذن لم المقربين).. وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية؛ تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره، ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائماً في كل مكان وفي كل زمان، وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر، يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه وهو بزعمه الملك والإله".


   احتشد الناس في ذلكم الصعيد، ويحضر فرعون في زينته وكبكبة السحرة وقد أخذت موقعها في الميدان، وكلها ثقة في الانتصار على سحر موسى - كما توهموا – لكن بضع كلمات من موسى عليه السلام موجهة إليهم، قللت من تلك الثقة حتى إن بعضهم قرر عدم خوض التحدي. (قال لهم موسى: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب، وقد خاب من افترى). لكن السحرة استجمعوا قواهم وعززوا الخائف والمتردد منهم، وقرروا مواجهة موسى عليه السلام ولكن ليست بتلك الثقة والقوة التي جاءوا بها قبل قليل. أي يمكن القول بأنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من أن الذي يجري أو سيجري بعد حين من الدهر قصير، سيكون حاسماً وحازماً لهم ولكثيرين، ولكن ما هو هذا الشيء؟ هذا ما سيكون في الدقائق التالية، حين سألوا موسى إن كان يريد البدء، فكان قرار موسى أن يبدؤوا هم فيما هو ينتظر ليكون له القرار الأخير.
بدأ المشهد برمي الحبال حتى تخيلها الناس أنها ثعابين تسعى، وكانت قوة تأثير سحرهم كبيرة لدرجة أن موسى نفسه خاف للوهلة الأولى بعض الشيء لولا أن ثبته الله، حين أوحى إليه (لا تخف إنك أنت الأعلى) فكان هو الأعلى ذاك اليوم، وخسف الله بصورة الفرعون أمام الناس جميعاً، بهزيمة السحرة أولاً أمام الناس، ثم ثانياً والأكثر إثارة، مشهد السحرة وهم جميعاً دون أدنى تردد وتفكير، يسجدون ويتوبون إلى الله، بعد أن رأوا مشهد ثعبان موسى، وأن ما رأوه ليس بالسحر أبداً، فسجدوا وآمنوا من فورهم برب موسى.


   مشهد أغاظ الفرعون كثيراً.. فكيف انهزموا هكذا سريعاً بل آمنوا برب هارون وموسى دون أن يستأذنوه؟ لكن السحرة بطبيعة الحال ومن هول المشهد، تبين لهم الحق بقدرة الله، وتحول الفرعون الذي كانوا يطلبون وده وبعض ما عنده من متع ونعيم الدنيا قبل ساعات قليلة ماضية، تحول في أعينهم إلى شخص تافه لا يستحق أدنى انتباه أو احترام، بل ربما الندم كان شديداً ساعتئذ عند السحرة على ما فاتهم في حياتهم قبل هذا المشهد، ومن الكفر الذي كانوا عليه واتباع أمر الفرعون، وما أمر فرعون برشيد. نعم، لا ذاك الفرعون ولا أي فرعون يأتي بعده.. كلهم في الشر والسوء سواء.
   الشاهد من القصة، أن الحق ما إن يظهر في مشهد حياتي، ويقوم عليه أناس قد ملأ الإيمان قلوبهم، لا تشغلهم توافه الدنيا من أموال وأملاك ومناصب وغيرها، فإن هذا الحق منتصر لا شك فيه، والباطل زاهق دون أدنى ريب. فهذا الفرعون الذي جمع كيده وشره وخطط وتآمر مع زبانيته، انتهى في لحظات فارقة في تاريخ البشرية. لحظات ظهور الحق بشكل ما على يد موسى عليه السلام.


  إن الحاصل اليوم كما حصل في سابق الأزمان من استمرار الباطل وسيطرته وعلو كعبه، لم يكن ليحصل إلا لأن الحق لم يجد من يحمله ويظهره على الواجهة ويدافع عنه. فالقلوب المشغولة بهذا وذاك وتلك، أو ما بين الحق والباطل تعيش، لا يمكنها زحزحة الباطل والإجهاز عليه، لأن الباطل عادة هو الأقوى مادياً في الساعد والسلاح، وبيده مفاتيح أغلب القوى. لكن حين يدخل الإيمان في المواجهة، وتمتلئ القلوب به فقط لا غير، فإن الحسابات تختلف، والنتائج النهائية قد تكفل الله بها في قوله تعالى ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ).

   إنها معادلة رياضية سهلة واضحة. إن تنصروا الله، تكون النتيجة أن الله ينصركم.. تبقى إذن معرفة الكيفية أو كيفية نصر الله، وهذه تحتاج لشروح وتفصيلات أخرى، قد نأتي عليها في قادم الأيام بإذن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق