حين تقترب أكثر
فأكثر من شخصية وقامة عظيمة مثل الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ستجد أنه
جمع الأضداد في شخصيته. تجده قمة في الشدة في موقف ما، لا يلبث أن تراه في أعمق
معاني الرقة والرحمة في موقف بعده.. وقد تجده بركاناً فائراً حين يرى حرمات الله
تُنتهك، ثم يذرف دموعاً غزيرة لمجرد إحساس بالتقصير تجاه أحد رعيته، حتى وإن لم
يقصّر فعلياً في نظر من حوله، باعتبار أن معاييره ونظرته للأمور كشخص مسؤول مؤتمن،
كانت تختلف عن عامة المسلمين.. وفي بعض ما جاءت به كتب الأخبار عن مواقفه مع
رعيته، دلالة على ما نقول.
أسلم جبلة بن الأيهم، آخر ملوك الغساسنة وكتب
إلى الخليفة عمر يستأذنه في القدوم عليه، فرحب به وأدنى مجلسه. ثم خرج في موسم الحج مع عمر، فبينما هو
يطوف بالبيت إذ وطأ على إزاره رجل فقير من بني فزارة، فالتفت إليه جبلة غاضباً
فلطمه وهشم أنفه. فغضب الفزاري واشتكاه إلى عمر فبعث اليه فقال: ما دعاك يا جبلة
إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟
قال جبلة: لستُ ممن ينكر، أو يكتم شيئاً. أنا أدَّبتُ الفتى. أدركتُ حقي
بيدي ! قال عمر: أيُّ حقٍّ يا ابن أيهم؟ يريد أن يقول عمر لجبلة بأن مثل هذه
المفاهيم لا محل لها عنده، بل هي عند غيره، حيث يُقهر المستضعف العافي ويُظلم.. أما
عندي فلا. هي جاهلية وأزحناها من حياتنا يا جبلة.
ثم قال عمر: ارض الفتى. لابد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن
الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك. قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقة وأنا
صاحب تاج. إنني عندك أقوى وأعز. أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر: عالمٌ نبنيه، كل
صدع فيه بشبا السيف عندك أقوى وأعـز.
لم
يستوعب جبلة ما كان يعنيه عمر.. لم يفهم أن الإسلام ساوى بين الناس، وأنه لا فرق
بينهم إلا بالتقوى، ولم يفهم أن الارتداد عن الدين يستوجب حداً شرعياً.. فطلب جبلة
من عمر أن يمهله إلى الغد، حتى إذا انتصف الليل، هرب نحو القسطنطينية حيث هرقل
الروم، مرتداً عن دينه. حتى إذا أصبح الناس وطلب الفاروق جبلة، علم أنه فر، لكنه لم
يبال ويهتم به، وإن كان ملكاً من ملوك العرب، وإن كان بارتداده سيرتد ألوف معه.
عمر لا يقيم لمثل تلك الاعتبارات أي وزن، فإن ارتداد رجل عن الإسلام أهونُ عنده بكثير،
من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه وهو المساواة بين الناس، وإقامة العدل
بينهم، وخسارة فرد لا يمكن أن تُقاس بخسارة مبدأ.
بمقاييس اليوم، سيعتبر البعض أن ما قام به الفاروق مع جبلة، عمل سياسي قصير
النظر، وكان بالإمكان لملمة الأمر وتطييب خاطر فرد ضعيف لا وزن له في الأمة، مقابل
مصالح كثيرة متوقعة من وجود شخص عظيم وملك من ملوك العرب ضمن الأمة المسلمة. لكن
ثبات عمر على موقفه وشدته في الاقتصاص للمظلوم من ظالمه، رسخ معنى أن يعيش الناس
أحراراً آمنين مطمئنين، لا يظلمون ولا يُظلمون. وبموقفه ذاك، عاش عمر في النفوس
المسلمة إلى اليوم وإلى ما شاء الله أن يكون، قامة عظيمة شامخة راسخة، يترحم عليه
الملايين المسلمة، ويعجب به كثيرون من خبراء وقادة الإدارة في العالم، ويعتبرونه
مدرسة لوحده في عالم الإدارة.
قصته مع
سيف الله المسلول، خالد بن الوليد وهو في أوج انتصاراته العسكرية وشيوع مقولة أنه
لا نصر بدون خالد، جعلت الفاروق يخشى على المسلمين من أن يفتتن الناس بخالد،
وتتعمق تلك الفتنة والاعجاب، فيقرر في وقت حرج للغاية عزله عن قيادة جيوش الفتح،
ويتحول خالد الى جندي في الجيش بعد أن كان هو قائد الجيوش.. لم يفكر عمر في تبعات قراره ذاك، ولم يرد
بخاطره احتمالية أن يتمرد خالد ويعترض، وقد كان يملك زمام القوة العسكرية الضاربة
للدولة، وفي الوقت ذاته هو بعيد عن الخليفة، ولو أراد الخروج عليه وإعلان نفسه
أميراً للمسلين حينها لاستطاع، بل ولسار معه الألوف. لكن لم يفكر عمر في تلك
الاحتماليات، بل وخالدٌ كذلك، لم يفكر البتة.
عمر أراد من عزل خالد أن يحفظ ايمان المسلمين،
وألا تتعلق قلوبهم بغير الله في مسائل النصر، وأن يكون توكلهم على الله وحده لا
على أي إنسان، مهما علا شأنه وقدره وإيمانه أيضاً. إنه يرسخ لمبادئ وقيم في النفوس
المسلمة وهي بعدُ حديثة عهد بالدين، فإن بناء الأمم لا يكون إلا وفق مبادئ ومفاهيم
راسخة بالنفوس، وهي التي أرادها عمر أولاً قبل الاستمرار في الفتوحات والمكاسب
والمغانم. فيما خالد لم يعترض وإن لم يتقبل الأمر، لكنه يعلم يقيناً أن ابن الخطاب
لا يصدر أمراً وفق هوى أو مزاج. وقد أدرك خالد في نهاية حياته، أن الفاروق ما أقدم
على قراره ذاك، إلا لأنه رأى مصلحة الأمة أولاً قبل أي مصلحة أخرى.
الأمر يتكرر مع صحابي عظيم مثل عمرو بن العاص،
وكان أميراً على مصر. حيث أمره الفاروق أن يحضر هو وابنه إلى المدينة من فورهم دون
أي تفصيلات أخرى، حتى إذا ما وصلا، جمع الفاروق الناس وأقام محكمة علنية لابن أحد
أمرائه الكبار، الذي اعتدى على أحد الرعية دون وجه حق، وطلب من القبطي أن يقتص من
ابن الأكرمين، بل وطلب أن يقتص من أبيه أيضاً لأنه ما فعل الابن فعلته إلا لشعوره
بأنه ابن الحاكم.. وقال الفاروق
يومها:" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ".
عاد عمرو الى مصر متأثراً بما حدث له أمام
الناس بفعل حماقة ارتكبها ابنه، لكن لم تأخذه العزة بالإثم، ولم تحدثه نفسه أبداً
التمرد على عمر، والانفراد بمصر واعلانها دولة له، كما كان شائعاً قبل الإسلام
وبعده أيضاً.. وقد كان بإمكانه ذلك وهو من هو في الدهاء والحنكة السياسية. ولك أن
تدرك معنى هذا الحديث حين تقرأ عن الكم الهائل من الثورات والتمردات التي حدثت على
الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم من بعد انتهاء الخلافة الراشدة. لكن عمرو يعلم
أن الفاروق ما قام بذاك الإجراء إلا لأنه يريد إقامة العدل الإلهي في أمة مسلمة
ناشئة. إنه يدرك بأن عمر ما انتصر يوماً لنفسه أو انتقم من أحد لخلاف شخصي أو أمر
دنيوي.
تميز الفاروق عمر بالمركزية الشديدة
في الإدارة والقيادة.. فقد كان
يوصي ولاته وأمراء البعوث والجيوش وغيرها باتباع تعليماته بدقة، وعليهم في كثير من
الأمور الرجوع إليه قبل الشروع في الأمر، وهو ما قد نراه اليوم صعباً في عالم
الإدارة وربما يسمي البعض هذا الأسلوب بالديكتاتورية!
لكن حين التأمل في
أسلوب الفاروق رضي الله عنه ، نجد أنه لم يكن بالطبع ديكتاتوراً بالمعنى المتعارف
عليه اليوم ، ولكن لشدة حرصه ألا يضيع حقٌ لله ولا لمسلم أو الدولة أو أن يتحمل
وزر أحد يوم القيامة، أصبح دقيقاً في متابعة أعمال المسؤولين بالدولة بنفسه،
يريد بذلك الاطمئنان إلى أن الأمور كلها تسير وفق شرع الله ، وهو يدري أن ولاته
وقادته من خيرة الصحابة ومن مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن مع ذلك كان
يتابع التفاصيل بنفسه، رغم أن هذا الأسلوب أتعبه كثيراً بدنياً ونفسياً ، لكن ما
اختار ذاك الأسلوب إلا لعلمه أنه الأصلح له والمتوافق مع طبيعته.
وجد الصحابة الكرام في مواقف لا تحصى،
بأن الفاروق عمر ما انتصر يوماً لنفسه أو اتخذ قراراً وفق مزاج أو هوى.. عدالته،
وإن كانت قاسية على بعض النفوس حيناً، إلا أنها جلبت احترام الجميع له، مسلمين
وغير مسلمين.. ثباته على المبادئ ورغبته الأولى والدائمة على أن يؤدي أمانة الخلافة بالشكل الذي يرضي ربه، جعلته لا يهادن ولا يخاف في الله لومة لائم، بل إن كل من كان حوله من كبار الصحابة العظام الكرام، أخذوا عمر مقياساً ومعياراً، به يقيسون أنفسهم في تعاملاتهم مع الآخرين، وأداء أماناتهم وواجباتهم. والمقولة التاريخية (عدلت فأمنت فنمت يا عمر) جاءت على لسان غير
مسلم.. تلك العدالة وغيرها من مزايا وصفات نادرة في الفاروق، جعلته من أعظم شخصيات
الإسلام بعد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر.. فرحم الله
الفاروق عمر، ورضي عنه وأرضاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق