أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 25 أبريل 2024

وعيٌ عالمي يتشكل .. فماذا نحن فاعلون؟

 


   الكيان الصهيوني المزروع في قلب الأمة، لم يكن يحتاج لأكثر من أيام معدودة أو أحياناً بضع ساعات لحسم معاركه مع دول عربية منفردة أو مجتمعة. لكنه الآن تائه ويغرق في مستنقع غزة، بعد مضي أكثر من مئتي يوم على بدء عدوانه وإجرامه، وهذا مؤشر مهم لابد من التنبه إليه وتأمله جيداً، باعتبار ذلك بإذن الله بداية النهاية لهذا الكيان المسخ، وبداية النهاية لفكر غربي استعماري مجرم انتشر وعاش على مبدأ تفرقة وتشتيت وبعثرة هذه الأمة.. وما ذلك على الله بعزيز.

   منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة، أصبح واضحاً للعالم كله أن الهدف الرئيسي للصهاينة هو إبادة أكبر عدد ممكن من المدنيين، كإحدى وسائل تطبيق استراتيجية الأرض المحروقة، عبر دعم سياسي وعسكري أمريكي غير عاقل ولا راشد، لتحقيق حلم الاحتلال الصهيوني في تهجير قسري لفلسطينيي غزة أولاً، ثم يتبعهم في مستقبل قريب، بفلسطينيي الضفة الغربية والبقية الباقية هنا وهناك على أرض فلسطين، حتى تخلو لهم هذه الأرض المباركة، دون أي اكتراث وأي اهتمام لرأي عام عالمي وما يسمى بالقوانين الدولية ! 



                                الصناعة اللئيمة

  الكيان الصهيوني كما يعرفه كثيرون، وإن غابت هذه المعرفة عن ملايين الجيل الشاب حول العالم، هو صناعة غربية، ومشروع استعماري خبيث مغلف بطابع ديني كاذب، مزروع في محيط عربي مسلم، هدفه تقسيم الأمة عبر صناعة وثنيات وأصنام على شكل مفاهيم منزوعة عنها الدين، كالوطنية والقومية وغيرهما، وتكريس تلك المفاهيم بشتى الطرق ليتفرق أبناء الأمة الواحدة، فلا يهتم بعدها شعب عربي مسلم في الغرب بما يحدث لشعب عربي مسلم بالشرق، أو العكس.. 
وقد زاد الأمر سوءا حين تم تفريق أبناء الأمة المسلمة عن بعضهم البعض بفعل مفاهيم القومية العفنة المنتنة، حتى وجدت المسلم الأفريقي، لا علاقة له بالمسلم الآسيوي، والعكس صحيح. وكل ذلك من أجل تثبيت وغرز الخلية السرطانية الصهيونية في فلسطين، وهو ما حدث فعلاً. 
وما الظلم الواقع على غزة وعدم نصرتها من قبل مسلمي العالم، عربهم وعجمهم خشية غضب البيت الأبيض الصليبي المتصهين، إلا نموذج لما نتحدث عنه.

 

 

              العقلية الصهيونية لا تتغير

  العقلية الصهيونية هي نفسها لم تتغير، ولن تتغير حتى بعد قرن من الزمان. إنها باختصار، عقلية وحشية مجرمة، ولئيمة عنصرية مستعلية، تحتقر الآخرين وتزدريهم. بل يمكن اعتبار الصهاينة وخاصة بعد المشاهد التي نشاهدها يومياً في غزة، حفنة كائنات من خارج النظام البشري (سمّاعـون للكذب، أكّالون للسحت).

   جرائمهم المستمرة من قديم، خاصة بعد طوفان الأقصى المبارك، من أوضح الأدلة التي لا ينبغي أن تمر هكذا مرور الكرام، لا يلتفت إليها أحد مثل كل المرات السابقة، بل المطلوب من كل أحد صاحب ضمير وإنسانية ودين، وبكل الوسائل الممكنة والمتاحة، توثيق جميع جرائم الحرب المرتكبة في غزة لزمن قريب قادم حافل بالكثير من الأحداث، حتى وإن قال بعضكم: وما فائدة ذلك، وكلنا يدري أنه لا توجد جهة دولية يمكنها محاسبة هذه الحفنة القذرة من الكائنات.. نعم، هذا صحيح، ولكن مع ذلك، لابد من اتخاذ الأسباب والإجراءات المتاحة والممكنة لتوثيق تلك الجرائم، فلا يمكن أن يستمر هذا الظلم، ولا هذا التجاهل والخَوَر العالمي، بل (لا تدري لعل اللَّه يُحْدثُ بعد ذلك أمرا).

    نعم، لا تدري، فلعل الله يحدث بعد هذا الإجرام الصهيوني اليومي، أمراً لن يتوقعه أو ينتظره أحد. بل لم لا نقول إن الحراك القائم الآن والحاصل في كل أرجاء العالم من بعد ستة أشهر فقط من بدء العدوان، رغم عقود من التخطيط والتمويل والتشويه والتضليل الغربي لإظهار المحتل الصهيوني في صورة الضحية البريئة وسط وحوش بشرية، هو هذا الأمر الذي أراده الله وأحدثه؟

   اليوم بفضل الله أولاً، ثم سواعد وألباب مجاهدي غزة، نرى ثمرة من ثمرات طوفان الأقصى المبارك، وهي تنضج رويداً رويداً على هيئة وعي عالمي يتشكّل في صورة جديدة، وستكون إحدى نتائج هذا الوعي، ذهاب مليارات الغرب سدى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، والتي صُرفت لزرع خلية سرطانية خبيثة في قلب الأمة، كي تكون رأس حربة في حروب ومشاريع الهيمنة الغربية على المنطقة بكافة أشكالها، العسكرية والاقتصادية والفكرية والإعلامية وغيرها، من أجل استمرار الاستعمار لعقود قادمة. 


 

                 رب محنة داخلها منحة

 على رغم أن الولايات المتحدة، ومن ذي قبل بريطانيا، كانا وما زالا ركنين أساسيين في صناعة الخلية السرطانية الصهيونية في فلسطين، إلا أن ما يحدث الآن فيهما من حراك شبابي نشط ، ما هو إلا وعي جديد يتشكل تدريجياً، يخالف السردية الصهيونية التي أنفق الغرب مليارات على نشرها وتثبيتها وتعزيزها. فقد بدأ ملايين الأمريكان والبريطانيين ومعهم ملايين من عمق الغرب نفسه، يرى الأمر بشكل مختلف الآن، وصار يقترب من الحق الفلسطيني والرؤية الفلسطينية أكثر مما كان قبل طوفان الأقصى المبارك، وأن الضحية الحقيقية ليست الشتات اليهودي المتصهين، كما صورها الغرب وإنما الشعب الفلسطيني.

   اعتصام طلاب الجامعات الأمريكية احتجاجاً على سياسات حكومتهم غير الرشيدة والظالمة تجاه الحق الفلسطيني، وانسحاب المتأهلين من الأدباء والكتّاب من جوائز أدبية بالولايات المتحدة للسبب نفسه، وقيام موقع أمريكي بالدعوة لكشف الصهيونية وعدم احترامها، وتعزيز الضغط الدولي لتحقيق العدالة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وارتفاع صوت مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي وتصريحه بأن العدوان الصهيوني على غزة ألحق دماراً بمدن القطاع يفوق ما تعرضت له مدن ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ومحكمة بريطانية تنظر في طعن يتعلق بتصدير الأسلحة للخلية السرطانية، واستمرار الاحتجاجات والمسيرات بمدن غربية كبرى.. كلها دلائل على ذلك الوعي الذي نتحدث عنه ويتشكّل، والذي سيكون له نتائجه بعد حين من الدهر لن يطول بإذن الله.

لكن السؤال المهم يقول:

 

                      ما المطلوب منا ؟

 إن الصورة الذهنية التي رسمتها وزرعتها سياسات الغرب وإعلامه عن دولة الاحتلال وشعبه " المظلوم " في أذهان العالم، وقد بدأت تتضح معالمها الخفية وعناصرها الخبيثة، وبدأ يرتفع معها الصوت المندد بهذا الكيان السرطاني المتوحش، وظهور جيل شاب واع صار يقرأ ويبحث بنفسه عن أصل المسألة، أمرٌ يدعونا كأصحاب قضية، إلى استثمار هذا الحراك العالمي لنصرة الحق الفلسطيني، بأن نساعد الباحثين والسائلين عن جذور القضية بكل الوسائل المتاحة، الثقافية والفكرية والإعلامية، مع أهمية تكاتف الجهود في شرح ما خفي من حقائق عن الاحتلال الصهيوني البغيض لفلسطين، وكيف بدأ وأسبابه، ومن وقف ولا يزال يقف وراءه من دول ومؤسسات وأفراد وجماعات.

   كتائب المجاهدين في غزة قاموا بواجباتهم العسكرية تجاه تغيير واقع ظالم بائس يُراد له الاستمرار لعقود عديدة، وتثبيت أركان واقع جديد يقوم على تأسيسه أهل الأرض والحق، والمتمثل في إزالة الاحتلال كلياً من أرض فلسطين المباركة. ليبقى الآن الدور السياسي والإعلامي والتنويري على أيدي المخلصين من أبناء الأمة جميعاً، عربهم وعجمهم، أسودهم وأبيضهم، رجالاً ونساء، بحيث يقوم كل فرد منا بما يملك من قدرات ومهارات، وكلٌ في مجاله ونطاق نشاطه، بدعم وتعزيز ما بدأ به المجاهدون في غزة. ولعل أولى الخطوات هو الانخراط مع هذا الوعي العالمي الذي يتشكل الآن، ودعمه وتهذيبه، وتقويمه وتوجيهه نحو الهدف المطلوب، ومنع المتسللين إليه بغرض تشويهه أو توجيهه إلى وجهة أخرى.

   ربما الآن نقترب من وقت قطف إحدى ثمرات طوفان الأقصى، وبالتالي أجد أهمية الحذر وتكثيف الجهود لمنع منافقي الأمة وأعوانهم من التسلل وقطف الثمار، أو محاولة إفساد ما ضحى في سبيله آلاف الشهداء بأنفسهم، وعشرات الآلاف من أهليهم على شكل جرحى أو بلا مأوى.

   إنها معركة وعي ونحن داخلون للمساهمة في صناعة وعي عالمي آخر يتشكَل هنا وهناك. صناعةٌ تتطلب فهماً وعلماً وحذراً ودقة في الوقت نفسه، مع إخلاص نيات وأعمال صالحة صحيحات، موقنين بأن الله كفيل بكل جميل، وهو دوماً، حسبنا ونعم الوكيل.      

       

الأربعاء، 27 مارس 2024

دعوة لتحطيم الأوثان

    القلب ما سمي قلباً إلا لأنه منقلب من حال إلى حال، لا يثبت على حال واحدة، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده:" إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن ".  وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يكثر من دعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، حتى قالت له أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله، إنك تدعو بهذا الدعاء. قال: يا عائشة، أو ما علمتِ أن القلوب، أو قال: قلبُ بني آدم بين إصبعي الله، إذا شاء أن يقلبه إلى هُدى قَلَبه، وإذا شاء أن يقلبه إلى ضلالة قلَبَه؟

    الأحداث تتوالى علينا وتتعاظم، وفي الوقت ذاته تتعقد وتتشابك بسببها الرؤى والمفاهيم والقناعات حتى يقع كثيرون في حالة من الالتباس شديدة، فقد يرى أحدنا في لحظة ما، الباطل حقاً والحق باطلا، وإن اختلفت النسب والدرجات، بحسب البيئة التي يكون أحدنا فيها والمؤثرات من حوله. فما نراه أمامنا من مشاهد ومواقف متنوعة متقلبة للبشر، تجعل أحدنا يقف مشدوهاً حذراً ويبدأ تلقائيا يردد دعاء تثبيت القلب، ليس لشيء إلا لأن المشاهد الواقعة والفتن الحاصلة الآن من حولنا صادمة شديدة الوقع على النفس، تجعل الحليم حيرانا.

   الثبات على الحق ليس بذاك الأمر الهين، فالتنظير فيه أو الحديث حوله، كتابة أو شفاهة، يختلف كثيراً عن فعل البقاء والثبات على الحق والتمسك به. وربما في حالات الهدوء والسكينة والاستقرار تتساءل عن السر في كثرة تعظيم البعض منا لأمر الثبات على الحق، وأهمية التمسك به وخصوصاً أن الأمور واضحة لا تدعو للخشية من التحول عنه، فتتساءل عن هذا الإلحاح والاستمرار في دعاء تثبيت القلب، وهل هناك فعلاً فتن ومواقف يمكنها خلع القلب عن مكانه ويتغير كما نقول في الرياضيات 180 درجة؟

  مع تكاثر الأحداث اليومية المرتبطة بخلافات ومشكلات، وتنوع المواقف أو الفتن تجاهها، ما ظهر منها وما بطن، ستدرك من فورك سبب ذاك التعظيم أو تكرار الحديث عن الحق وضرورة الثبات عليه. فما إن تضطرب الأمور حولك وتختلف، وتنفتح أبواب الفتن من كل جهة، ستبدأ تعي الأمور تدريجياً ويتضح لك ما يجري حولك.

   لكن وباختصار شديد، وقبل أن نتعمق أكثر في التفاصيل، أو تتحول أنت عن تكملة بقية المقال لأي سبب، أدعوك ونفسي أولاً وآخراً، إلى وجوب عدم الركون إلى علمنا ومالنا وحسبنا ونسبنا في مسألة الثبات على الحق. ذلك أن شواهد التاريخ حول هذه المسألة أكثر مما يمكن كتابتها هاهنا. فمن تحولوا عن الحق إلى الباطل في فترة ما من حياتهم، سواء استمروا أم عادوا إلى رشدهم، كانوا على علم وفهم كبيرين، ومع الحق قلباً وقالباً أينما كانوا وحلوا، يدافعون عنه ويدعون إليه في كل مناسبة. لكن بفعل ظروف حياتية معينة وقعت لهم أو حولهم، وجدت قلوبهم تتغير تدريجياً حتى الكفر بما كانوا عليه، بل وربما وجدت بعضهم وقد انقلب على أعقابه خاسرا. الأمر ليس بدعة، وليس بالأمر الجديد في تاريخ البشر.

 

·      ما العمل إذن؟

    كما بدأنا الحديث وقلنا بأن القلب ما نسميه قلباً إلا لأنه يتقلب ولا يستقيم على حال، فإنه لم يكن به من شحنات وكميات كافية من اليقينيات والمثبتات، فإن رحلة انقلابه تمر سريعاً سريعاً، وستتغير تبعاً لذلك مواقف صاحبه بالمثل سريعاً.  لكن هل يعني أن كل انقلاب للقلب سيئ. بالطبع لا، لأن القلب إذا وجدته ينقلب أو ينتفض على أمور حياتية سلبية سيئة، فسيكون انقلابه جميلاً محموداً، بل ومرغوبا. لكن الإشكالية لو أن انقلابه كان على أمر في الدين على وجه التحديد، فها هنا يصبح القلب وانقلابه في خانة خطرة.

    من هنا، أجد أهمية الانتباه والتثبت وقت صناعة مواقف حياتية معينة لك، بناء على مواقف وآراء الأحياء من البشر، علماء أم مفكرين أم مؤثرين أم غيرهم. لماذا الانتباه والتثبت؟ لأن أحدهم لا يؤمن عليه من الفتنة أو انقلاب القلب عنده، فتجد نفسك في حال فتنتهم وانقلابهم في حيرة بسبب ذاك التغيير الذي حصل لهم، وبالتالي تجد نفسك - إن كنت من المقتنعين بأولئك المنقلبين - مضطراً إلى هدم ما صنعته من مواقف، أو أنك تساير المنقلبين، سواء كانوا على حق أم باطل.

   هذا الأمر لابد أن يدفعك - إن شئت طبعاً في بناء وصناعة موقف شخصي لك - أن تختار مستقبلاً، المواقف السليمة الصحيحة تجاه أمر من الأمور وفق قناعات تستنتجها أو تستلهمها من مواقف أناس هم عند ربهم الآن.. فمن المؤكد أن مواقفهم لن تتغير أبداً.

   هذه دعوة خالصة لعدم التشبث بأصنام أو أوثان على شكل بشر أو مفاهيم أو نظريات وأيدولوجيات أو غيرها، بل الأصل هو التشبث بالحق أينما كان وعلى أي صورة يظهر. وليحرص كل منا على أن يظل قلبه حياً واعياً حذراً من الميل والزيغ، مرة إلى هنا ومرة إلى هناك. وإن كثرة الدعاء والابتهال إلى مقلب القلوب، من أسباب الثبات على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.