أطياف

الحياة مدرسة.. أستاذها الزمن ودروسها التجارب

الخميس، 31 أغسطس 2023

لا تقنطوا من رحمة الله

 



    

قال الفضيل بن عياض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا، فأعرض عنهم؛ فنزلت ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة  أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ).

 

   هذه واحدة من الآيات المبشرة للمؤمنين، وإن كانت نزلت في حادثة معينة، إلا أن ما جاء فيها يشملهم وكل مؤمن يأتي بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليه، فالعبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب، كما في علم أصول الفقه. الله عز وجل – كما يقول القرطبي:" كتب على نفسه الرحمة أي: أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئاً فقد أوجبه على نفسه". 

 

   إذن هي بشارة وتكريم للمؤمنين ووعد صدق منه سبحانه، أن من يخطئ ويذنب، ثم يستغفر الله، يجد الله غفوراً رحيما. فالإنسان منا في هذه الدنيا أو هذه الجهالة، غير معصوم من الخطأ، ومن يعمل السوء بجهالة، ثم يعود سريعاً إلى رشده، آيباً تائباً حامداً، فهو بإذن الله ضمن الوعد الإلهي أو الرحمة الإلهية، كما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:" لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".  

 

لا تقنطوا من رحمة الله

 

   بشارة إلهية أخرى من تلك التي تشحن النفوس شحناً، وتمنحه أملاً بجولة أخرى في الحياة الدنيا، ليعيد ما قام بهدمه ويبني مستقبله المنتظر في الآخرة. تلكم البشارة في قوله تعالى ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله..(


    آية تبعث في النفس طمأنينة وراحة لا يدرك معانيهما سوى من يبحث عنهما. آية واضحة بذاتها تبين لك مدى سعة الرحمة الإلهية بعباده. رحمة وطمأنينة تأتيان على شكل دعوة غاية في اللطف من الخالق عز وجل لعباده. دعوة تشير إلى أهمية وضرورة عدم فتح المجال لشعور اليأس أن يسيطر على النفس، والطارد لأي أمل أو رجاء من حدوث أمر إيجابي مستقبلي، مع أهمية الإدراك واليقين التام بأن رحمة الله أوسع وأكبر مما نتصور.


   روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ". لماذا أحب النبي الكريم هذه الآية أكثر من الدنيا وما فيها؟ لأنها ودون كثير شروحات وتفصيلات، بشارة إلهية لعباده أنه واسع المغفرة والرحمة، لا يأبه لأي ذنب، صغير كان أم كبير إلا الشرك، فإنه ظلم عظيم يقترفه الإنسان.

 

   لكن طالما الإنسان المذنب أو المسرف على نفسه، قرر الإنابة والتوبة النصوح، وعدم العودة إلى ما كان يسرف فيه، فليعلم أن الله أرحم مما يتصور، وضرورة أن يكون عنده أمل ورجاء بأن القادم من أيامه أفضل، بشرط أن يبذل جهداً مستحقاً مناسباً لرؤية ذلك.  وقد جاء عن علي بن أبي طالب وابن مسعود – رضي الله عنهما – أن هذه أرجى آية في القرآن.

 

 لو لم تذنبوا  

 

   حتى نوجز الموضوع بشكل واضح، نقول بأن الله خلقنا لنعبده ولا نشرك به شيئا. ولأن فطرتنا البشرية تختلف عن الفطرة الملائكية، تجدنا نفعل الخير والشر. نخطئ ونعود للصواب. وهكذا هو الحاصل مع البشر، عكس الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فتلك هي فطرتهم.

  

ولأننا بشر، فالخطأ وارد، وبالتالي الرجوع عنه وتصحيحه هو المتوقع والمطلوب. وهكذا في حركة مستمرة حتى نهاية العمر. وقد جاء في الحديث الصحيح :" لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون ثم يستغفرونَ فيغفرُ لهم ". والحديث أوضح من أن يشرحه أحد. وبالتالي نفهم أن التعثر والسقوط في دروب الحياة لسبب وآخر، لا يعني فقدان أمل النهوض والسير مجدداً، مع أهمية التعلم من الأخطاء والاستفادة من العثرات والكبوات.

 

   الحياة الدنيا ما هي إلا مدرسة تتنوع فيها الاختبارات والامتحانات، لكن ميزة اختبارات مدرسة الحياة أن الإجابات واضحة ومرئية مكشوفة، وطرق تجاوز أي اختبار دنيوي بهذه المدرسة واضحة كذلك، وكل ما على المرء الممتَحن فيها، هو اتباع تلك الطرق الواضحة المكشوفة، كي يجتاز اختباراته بنجاح، وتأمين مستقبله القادم في جنة عرضها السماوات والأرض بإذن الله.

فهل من مُدّكر؟                      

 

الخميس، 24 أغسطس 2023

لا تمدح الأحياء من الناس



 لماذا يُكره مدح الأحياء من البشر، بغض النظر عن أعمارهم وأعمالهم

 واتجاهاتهم وأفكارهم وغيرها مما يدفع إلى المديح؟

 أليس المديح نوعاً من التعزيز المعنوي للممدوح؟

 أليس المدح المعنوي مطلوباً في زمن الماديات الذي نعيشه؟



قد توافقني في العنوان أعلاه، وأهمية تجنب مدح الأحياء، وربما تعارضني. وليست الفكرة في الموافقة أو المعارضة، بل لن نختلف على هذا الأمر، فلكل منا رأيه الخاص، ولكل منا تقديره واحترامه.

فما القصة؟

 

    نعيش الآن زمناً صار المديح أو الإطراء على أي عمل، أمراً مطلوباً ولو بالإكراه المعنوي، على عكس ما كان قديماً حين كان المدّاحون يجزلون في عبارات المديح لأشخاص معينين، طمعاً في هدايا وأعطيات. لكن أن يصل المدح لأن يكون أمراً مطلوباً، ولو بالإكراه غير المباشر، فهذا أمر صار يعمّق أجواء المجاملات الخادعة التي نعيشها، والنفاق الاجتماعي الذي زاد عن حده، والذي لا يُرجى من ورائه خيرا. 

هكذا وصل الحال بالناس، خاصة مع انتشار وتوسع وتنوع وسائل التعبير عن عبارات وأساليب المديح لهذا وذاك وتلك، عبر وسائل التواصل الاجتماعي المبتلى بها كثير من الناس، إن صح وجاز لنا التعبير.

 

امدح دون مبالغات


 بادئ ذي بدء، لا شيء أن تمدح الآخرين، خاصة إن وجدت ما يستوجب المدح دون مبالغات، أو مجاملات كاذبة. فقد مُدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع ويرى، بل ليس هو من يحتاج مدحاً من أحد، فيكفيه مدح ربه له في قوله تعالى (وإنك لعلى خُلُق عظيم) فليس بعد هذا المدح من مديح.

ومدح هو بعض أصحابه الكرام كأبي بكر وعمر. فقد وقف يوماً بين أصحابه، كما جاء في البخاري، وقال:" من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة ". قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" نعم وأرجو أن تكون منهم ". ومدح كذلك الفاروق عمر في وجهه وقال له:" ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك".

  الشاهد من القصة أن المدح مطلوب بعض الوقت ولغايات مقصودة. منها تعزيز الممدوح ليستمر على ما تم مدحه عليه، من عمل أو قول. ومنها رسالة للآخرين على الاقتداء بالممدوح في الأمر الذي استوجب مدحه عليه. ومنها إشاعة روح التقدير والمكافأة المعنوية بين الناس، وخاصة إن كان المدح يصدر من رئيس لمرؤوس.

 

انتبه من فتنة الناس


    امدح من شئت وكيف شئت دون مبالغات أولاً وكما أسلفنا، ومن ثم ثانياً، امدح بشرط الأمن من الوقوع في الفتنة، أو التسبب في وقوع آخرين بالفتنة أيضاً.. كيف؟

  بالقدر الذي كان يمدح النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه المستحقين للمدح، فإنه بالقدر نفسه كان حريصاً ألا ينتشر هذا الأمر في مجتمعهم، نظراً لخطورته على المادح والممدوح. فأما وجه الخطر على المادح فيكون كامناً في قبول وثناء الممدوح له حتى وإن كان مبالغاً فيه، ثم يتبعه تقدير مادي بشكل وآخر، الأمر الذي قد يدفع المادح إلى أن يتجرأ بعد قليل، ليواصل في هذا العمل مع صاحبه الممدوح أو أمثاله من محبي المدح والشهرة والأضواء، فيدخل بذلك هذا المادح من حيث لا يدري أو يدري، عالم الكذب والنفاق والخداع، بل الأخطر من ذلك كله، عالم غمط الحق.

  أما الممدوح فإن وجه الخطورة عليه متمثل في احتماليات وقوعه في فتنة الشعور بالزهو والفخر والترفع. فإن أردت مدح فلان أو علان وفلتان، فيجب أن تكون على يقين من أن المدح لن يفتنهم ويدفعهم إلى الاغترار بأنفسهم، ويكون مدحك ومدح آخرين لهم، عاملاً مساعداً دافعاً لتسرب داء الغرور إلى أنفسهم من حيث لا يشعرون، فتكون بالتالي أنت ومدّاحون آخرون، سبباً في فتنتهم.

 

المدح هو الذبح   

   حين وصف النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - المدح بالذبح في حديث " إياكم والتمادح، فإنه الذبح " فلأنه يميت القلب أولاً، ومن ثم هناك احتمالية كبيرة أن يُخرج الممدوح عن تعليمات دينه، فيهتز ويضعف كلما كثرت عبارات المديح له هنا وهناك، سواء أكان مستحقاً أم غير مستحق، لتراه بعد حين وقد اغتر بأحواله. وربما يسيطر عليه بعد ذلك شعور العُجب والكبر، ويرى نفسه دوماً وأبداً أنه أهل للمديح، لا سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا بزينتها وأضوائها وبريقها !

  هذا الأمر لا يقتصر على من يقوم بأعمال دنيوية فحسب، بل يشمل كذلك علماء الدين والدنيا، والأمراء والرؤساء، ومن على شاكلتهم في المستويات والدرجات. فلا تمدح عالماً أو مفكراً أو صاحب رأي أو رئيساً أو مرؤوساً إلا بالقدر الذي يستحقه دون مبالغات ومجاملات، فإنك لا تدري بعد حين من الزمن، يطول أو يقصُر، ما عساه أن يفعل ويقول. فإن أردت مدح صاحب رأي أو علم أو رياسة ووجاهة، فليكن لمن مات على الحق. أما قبل ذلك، فالحذر مطلوب. فقد يكون الممدوح اليوم على حق مبين، ثم ينقلب على عقبه بالغد، ويصير ناصراً للباطل غير مكترث لما كان عليه بالأمس !

وهكذا قلب الإنسان الحي، متغيرٌ متقلب. وما سُمي القلبُ قلباً، إلا لأنه يتقلب على الدوام.


   سُئلت أم المؤمنين أم سلمة عن أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندها، فقالت:" كان أكثر دعائه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فسألته:" يا رسول الله: ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال:" يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ ".. أسأل الله لنا ولكم ثبات القلوب على دينه وطاعته، وأن يجنبنا فتن المديح ما ظهر منها وما بطن، مادحين أو ممدوحين.