بعد أن تولى أبوبكر الصديق الخلافة، قام وخطب خطبة بليغة قصيرة قال من ضمن ما قال: "فإني قد وُليتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة".
الشاهد من الخطبة البليغة تلك والتي استقطعنا
بعضاً منها فقط، هو أن الصديق رضي الله عنه، الذي تربى على يد خير المربين والبشر،
ألقى الخطبة وكله ثقة في أنه لن يخرج عن تعاليم المدرسة المحمدية ما استطاع إلى
ذلك سبيلاً، وما يساعده على ذلك أن من يتولى أمرهم وشؤونهم، على مستوى من الفهم
كبير، بحيث يقدر أي أحد منهم تصحيح أي خطأ قد يقع فيه. وبالتالي أدرك أبوبكر أنه
يدير خريجي مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيهم من هو ربما أعلم منه في الدين
وأحفظ لكتاب الله وسنّة رسوله.
كما يمكن الاستنتاج من خطبة الصديق رضي الله
عنه هو تواضعه العظيم، وهو من هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال عنه:
"أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي". رغم هذه المنزلة التي
كان عليها عند خير البشر، لم يتجبر ويتكبر أو يدع للغرور منفذاً إلى نفسه، بل قال:
"فإني قد وُليتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ
فقوّموني".
على المنوال نفسه، نجد معاوية بن أبي سفيان رضي
الله عنه، قام في يوم جمعة، وخطب فقال: إنما المال مالنا والفيء فيؤنا، من شئنا
أعطينا، ومن شئنا منعنا.. فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل
مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه
رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا والفيء فيؤنا، ومن حال بيننا وبينه
حاكمناه بأسيافنا.. فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على كرسي الحكم،
ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد
عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يرد عليَّ أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه
الله – وأشار إلى الرجل – وقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: سيأتي
قوم يتكلمون، فلا يُرد عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة ـ فخشيت أن يجعلني
الله منهم، فلما ردّ هذا علي أحياني، أحياه الله، ورجوت ألا يجعلني الله منهم.
ما جرى مع معاوية قد سبق أن حدث مع أبي بكر
وعمر بن الخطاب بصورة وأخرى، حين كان الصحابة لا يتأخرون لحظة في انتقاد أي أمر
ليس فيه نص من القرآن أو لم يقل به الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، حتى لو كان
الأمر أو الفعل من طرف الخليفة نفسه، يواجهونه في الطريق أو المسجد أو البيت إن
استدعى الأمر، وبالمقابل كانت ردود أفعال الخلفاء يومها طبيعية جداً، لا تعصب ولا
تشنج ولا نفور من المنتقدين، ولا اعتقالات سياسية أو تغييب في غياهب السجون سنوات
طوالا. وهكذا استمر الوضع على ذاك النهج حيناً من الزمن.
إن
أي مسؤول أو زعيم كبير اليوم، من الغرب والشرق على حد سواء، يمكنه أن يقول بمثل ما
قال أبوبكر، لكن بشرط أن يكون هذا المسؤول أو الزعيم على نهج أبي بكر أولاً ولا
أقول بمستوى أبي بكر، ومن ثم يكون هذا المسؤول أو الزعيم على درجة من الصدق وصفاء
الباطن والظاهر، ونظافة اليد من دماء وأموال الناس، ما يستطيع أن يقول بثقة أنه
ليس بخير الموجودين، حتى يكون مسؤولاً عليهم أو زعيماً لهم. ويمكنه أن يطلب منهم
كذلك وبكل ثقة، أنه إن حاد عن جادة الصواب، تقويمه دون خشية أو وجل، ونختم الموضوع
بقصة عن الفاروق عمر رضي الله عنه، حيث كان بينه ورجل كلامٌ في شيء، فقال له
الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من الحاضرين: أتقول لأمير المؤمنين
اتق الله؟ فقال عمر: دعه فليقلها. نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا
خير فينا إن لم نقبلها.
بهذه النوعيات من القادة والمسؤولين، والشعوب
التي كانت لا تخاف في الله لومة لائم، تقول الحق في وجه الزعيم قبل غيره، ترقى
الأمم والدول. وبمثل هؤلاء وصل الأولون من هذه الأمة إلى ما وصلوا إليه، وبفقدان
تلك النوعيات شيئاً فشيئاً، وصلت الأمة إلى ما هي عليه اليوم، دون دخول في كثير
شروح وتفصيلات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق