الخميس، 30 مايو 2024

بعد أن يبلغ الألم مداه ..

    


   غزة منتصرة دون أدنى شك. ومن يقاوم العدو هنالك يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك، وإلا ما وجدته مستمراً في المقاومة حتى اليوم، وكأنما هو أول يوم. يقين المقاوم الغزاوي أنه منصور بإذن الله، وفهمه العميق الواسع لمعنى النصر هو سر بقاء المقاومة إلى يوم الناس هذا، بل هو السر الذي لم يستوعبه بعدُ كل من هو خارج غزة يراقب، لاسيما المخذلين والمثبطين والمرجفين وبقية من شلل النفاق ومرتزقة الصهينة هنا وهناك.

  المقاوم الغزاوي الذي تربى على القرآن وسنة حبيب الرحمن، محمد عليه الصلاة وأزكى السلام، يدرك أن النصر في معركة وجودية مع عدو خبيث متخابث ماكر، ومستأسد بعضلات غيره وهو الجبان في الوقت نفسه، يدرك هذا المقاوم أن النصر الذي ينشده ليس في ساحة الحرب العسكرية فحسب، بل ساحات عديدة لا تقل أهمية النصر فيها عن النصر العسكري.. وفي هذا بعض التفاصيل:


·       من ذا الذي تخيل أن تقفز قضية فلسطين وتتربع على عرش الأخبار في العالم كله خلال أسبوع واحد، بل تتعزز مكانة الخبر الفلسطيني في كل وسائل الإعلام المختلفة حتى يوم الناس هذا، لا ينافسه خبر آخر؟

·       من تخيل أن ينتفض العالم غير العربي وغير المسلم بشكل غير معهود تجاه قضيةٍ، عملت الصهيونية وأذرعها السياسية والمالية والإعلامية والثقافية سنوات طوال، وصرفت مليارات الدولارات من أجل رسم صورة ذهنية معينة في أذهان العالم، تعينهم على استمرارية مشروعاتهم الاستعمارية والاستيطانية في المنطقة، فيتم نسف كل تلك الجهود والأموال في أيام معدودات، وتتغير الرواية الصهيونية وتتناثر هنا وهناك سريعاً، لتحل محلها بشكل قوي مؤثر، رواية فلسطينية صادقة واضحة؟

·       من تخيل أن تبلغ الجرأة عند الناس في الولايات المتحدة، وفي عقر دار صهاينة اليهود والمسيحيين، لتوجيه النقد اللاذع الصريح لهذا السرطان الدولي؟ من كان يتخيل أن تنطلق شرارات الاحتجاج والاعتراض على سياسات الحكومة الأمريكية المتصهينة ودعمها اللامحدود لصهاينة دولة الاحتلال، من أرقى الجامعات في العالم، بل ومن أكثر طلاب الجامعات الأمريكية استقراراً اجتماعياً ومالياً ؟

·        من تخيل أن تتصدر دولة كاثوليكية مثل إسبانيا في مواجهة آخر نظام احتلالي متوحش في العالم، بل وتبادر في حث آخرين من دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة هذا السرطان، والاعتراف بالحق الفلسطيني، واعتبار ما يقوم به الصهاينة في غزة، إبادة جماعية وكارثة إنسانية مطلوب وقفها ومواجهة المعتدين وداعميهم ومحاسبتهم؟

·       من كان يتصور دولة مثل جنوب أفريقيا، رغم مشاكلها وأزماتها الداخلية، تواجه قوى الاستبداد المتمثلة في الولايات المتحدة وربيبتها دولة الاحتلال، فتسحب الصهاينة لمحاكم دولية، وإن كانت تلك المؤسسات القضائية بلا أنياب ومخالب، إلا أن سحب الصهاينة للوقوف أمامها، فيما العالم كله يشاهد ويستمع، هو أمر ليس بالهين، في الوقت الذي لم تتجرأ دولة عربية أو مسلمة أو حتى أوروبية للقيام بمثل تلك الخطوة، على رغم عواقبها السلبية المتوقعة على جنوب أفريقيا. والحديث يشمل كذلك كولومبيا وأخريات فقيرات في أمريكا الجنوبية، غامرت بالوقوف في وجه الإمبريالية الأمريكية والصهيونية المجرمة.

 

   أن ينتفض الغرب والشرق غير العربي والإسلامي في وجه الصهيونية ودعاياتها المضللة، وتقوم دول ومؤسسات وأحزاب من أقصى العالم بدور الدعم السياسي وتقوم بوظيفة المساندة المعنوية والإعلامية المؤثرة، فهذا أمر لم يكن ليحلم به أعظم المتفائلين منا. بل جلنا ظن بعد السابع من أكتوبر أن المسألة روتينية بين محتل متغطرس، ومقاومة تحاول الدفاع عن نفسها وعرضها ومالها، وسرعان ما تنتهي خلال أيام معدودات، لتعود الأمور إلى الروتين المعتاد بين الطرفين.

   لكن يمر أسبوع بعده آخر وثالث وخامس وعاشر وعشرين، لتقترب الأحداث الجارية من شهرها التاسع، في سابقة غير معهودة في مواجهات الطرفين منذ أن بدأ هذا السرطان الصهيوني انتشاره بالمنطقة. هذا الامتداد أو التوسع الزمني المستمر، مؤشر على أن الأمر هذه المرة ليس ككل المرات، بل لابد أن تكون النتيجة النهائية حاسمة حازمة.

  

   أي مسلم مؤمن موقن بمعية الله سيدرك أن غزة حركت المياه الراكدة في العالم، وغيّرت، بل إن صح التعبير، ستغير كثير أمور، أبرزها:

·       انكشاف أمر السرطان الصهيوني للشعوب الغربية تحديداً، وعمق تحكمه وتغلغله في مفاصل دولهم ومجتمعاتهم.

·        سقوط روايات بني صهيون المضللة التي عاشوا عليها سنوات طوال، يستنزفون بها العالم الغربي تحديداً.

·        زرع الثقة من جديد في النفوس المؤمنة، وأن الكثرة ليست دوماً منتصرة، بل إن قلة مؤمنة محتسبة، يمكنها عمل الكثير الكثير. والمقاومة في غزة خير نموذج يمكن أن يُدرس في المدارس والمعاهد والجامعات لسنوات عديدات قادمات.  


   خلاصة ما أروم إليه ها هنا، أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والمقاومة الغزاوية أدركت هذه الحقيقة وعملت على تجسيدها على أرض الواقع، وتربت على منهج المدرسة المحمدية التي تخرج منها سابقاً، الفاروق عمر وابن الوليد وأبي عبيدة والزبير وغيرهم، فكانت النتيجة كما رأيناهم ورآهم العالم كله، أن يتسابق ويتنافس مجاهدو القسام في مواجهة العدو والنيل منه، أو الاستشهاد في سبيل الله، وهم في زي متواضع، وعتاد خفيف ناجع، مدركين أنهم مطالبون بعمل مخلص صحيح، وليس تحقيق النتائج التي تكفل الله بها، طالما هم على منهجه سبحانه.

وما نراه حتى اليوم، رغم التضحيات البشرية والمادية من الجانب الغزاوي، هو نصر إلهي دون أدنى ريب، وقد بدأ يتحقق تدريجياً لمن يتأمل الأحداث بروية، وهو ما كان منتظراً مأمولاً من عباده المؤمنين، المجاهدين منهم والقاعدين. والنصر الذي نتحدث عنه ليس على شكل انسحاب العدو من غزة، بل ذاك النصر الذي يكون على شكل اندحار تام للعدو وطرده من كامل تراب فلسطين المبارك، وتفكك قوى داعميه من الشرق والغرب، مع تغيير ما يلزم من الأحجار الشطرنجية الساكنة بالعالم العربي والمسلم..

   ذاك هو النصر المتدرج الذي بدأ في غزة منذ السابع من أكتوبر المجيد، وقد جاء متدرجاً ليكون بمثابة شحن إيماني متدرج أيضاً حتى يصل بجند الله إلى الفرح التام بنصر الله عما قريب، وفي المقابل يكون ألماً رهيباً متدرجاً يصيب مفاصل وأعماق العدو ومن معه، حتى يبلغ ذلك الألم مداه فينهار تمام الانهيار بعد حين من الدهر لن يطول بإذن الله ( ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريبا ).     

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق