هي موجعة
مؤلمة، تلك المشاعر التي تنتاب كثير من البشر يوم القيامة في مواطن الحسرة
والندامة، المذكورة بالقرآن الكريم في مواطن عدة، حتى تكاد تشعر بها وأنت تقرأها
وتتأملها، بل يكاد يعرفها كل الذين سيعيشون تلك المواقف يوم القيامة، والذين لا
زال بإمكانهم تجنبها والابتعاد عنها قبل فوات الأوان، ولكن مع ذلك لا أحد منهم يعي
ويتفكر؟
ولنبدأ موضوعنا دون كثير
مقدمات..
تأمل مثلاً
قوله تعالى في سورة فصّلت ( وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن
والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ) . تكاد تشعر بالغل الذي في
قلوبهم وهم يدعون الله أن يجمعهم بمن كانوا سبباً في وضعهم الحالي. يريدون أن
يجعلوهم تحت أقدامهم، يفرغون ما بنفوسهم عبر الضرب والدوس بالأقدام.
هكذا حالهم
يوم القيامة بعد أن كانوا يُعْرضون عن الهداية في دنياهم، وأتبعوا أهواءهم وأمزجة
من يريدون اليوم الدوس عليهم، من الإنس أو الجن، الذين مارسوا عليهم الإضلال،
وزينوا لهم الكفر والفسوق والعصيان - كما جاء في تفسير الوسيط للطنطاوي – يريدون
الانتقام منهم بأن " ندوسهم بأقدامنا احتقاراً لهم، وغضباً عليهم، ليكونوا
بذلك في أسفل مكان من النار، وفى أحقره وأكثره سعيرا. لتتحول الصداقة التي كانت
بين الزعماء والأتباع في الدنيا، إلى عداوة تجعل كل فريق يحتقر صاحبه، ويتمنى له
أسوأ العذاب".
هكذا حالهم في النار وهم يتلاومون.
حوار جهنمي
مشهد آخر
في السياق نفسه، هو حوار وجدال بين الأتباع والمتبوعين ( وإذ يتحاجون في النار
فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار
). مشهد فيه الكثير من الندم، بل يمكنك أن تطلق عليه مشهد الحسرة والندامة - إن صح
التعبير - بين فريقين من أهل النار-
أعاذنا الله وإياكم منها - فريق دعاة الكفر والشرك والضلال، وفريق الأتباع الذين
اتبعوا زعماءهم وسلاطينهم دونما تفكير في حق أو باطل.
تراهم يوم
الحساب يتجادلون ويتلاومون ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم
إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ).
هكذا يعتقد الأتباع أن سبب حالتهم التي يكونون عليها يوم الحساب والكتاب، هو أولئك
الذين أتبعوهم من السادة والقادة، ولولاهم لاتبعوا الأنبياء والمرسلين.
السادة أو
القادة في ذلكم الموقف لن يكونوا صامتين ( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم
بل كنتم مجرمين ) أنتم اخترتم المتابعة ورضيتم ذلك عن طواعية ودون تدبر للأمور
والمآلات. فيرد الأتباع ( بل مكرُ الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله
ونجعل له أندادا) ! لينتهي ذلك الجدال العقيم بالندم على ما كان منهم، الأتباع
والمتبوعين على حد سواء (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في
أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون).
لا شك أن
الآية الكريمة إشارة قرآنية تدعو إلى أهمية اتباع الحق وليس الرجال - على صورهم
المختلفة - قادة، ساسة، زعماء، ملوك، سلاطين، مفكرين، منظرين ومن على شاكلتهم..
الحق والحق فقط وأينما كان، هو الذي سينجيك وإن قل عدد تابعيه. فيما الباطل يخذلك
دون أدنى ريب وإن كثر عدد متابعيه.
الحوار
الجهنمي ذاك يدور بين أتباع ومتبوعين. كل فريق يريد أن يُبعد عن نفسه التهمة،
فالعقوبة المنتظرة قاسية ومؤلمة، والتخلص من أي تهمة تعني الكثير لهم يومئذ.. حتى
إذا ما وجد الأتباع أنهم هالكون لا محالة، كما حال المتبوعين، دعوا الله ساعتها
بمضاعفة العذاب لأولئك القادة والزعماء ومن على شاكلتهم، أو دعاة على أبواب جهنم (
ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا ). هذا جل ما يمكن القيام
به والتعبير عما بنفوسهم من غيظ وقهر تجاه من ظنوا أن متابعتهم في الدنيا، ستغنيهم
وتصلح بالهم !
فلا تلوموني
مشهد ثالث
أخير يستحق التأمل، وذلك حين يتفاجأ أتباع إبليس في الدنيا من الإنس أو حتى الجان،
الذين اتبعوا خطواته لحظة بلحظة، وخطوة بخطوة، ظناً واعتقاداً منهم في صلاحها
وفائدتها، فإذا هم بالشيطان وقد صار أول من يتبرأ منهم ومن أعمالهم ( وقال
الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم
من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ).
الشيطان
الذي هو أصل كل الشرور في الدنيا، يبحث بنفسه عن ذرة رحمة تنقذه مما فيه يومئذ،
فيجد أتباعه من الإنس على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم، يلومونه على ما هم
فيه بسببه، فيبين لهم حقيقة الأمر التي تمثلت في الخير الذي حمله الأنبياء
والمرسلون ومن سار على دربهم، والشر الذي زيّنه لهم وأغواهم حتى اتبعوه دون أي ضغط
أو سلطان له عليهم. ذلك أنهم، وبدلاً من قبول دعوة أولئك الخيرين، جاءوا برغبة
منهم إليه، وهم يعلمون تحذير خالقهم لهم بعدم اتباع خطوات الشيطان، ومع ذلك ساروا
على الدرب الشيطاني، حتى آلت أمورهم إلى ما هم عليه الآن.. جهنم وبئس المصير.
هكذا إذن النتيجة النهائية.. وهكذا حال من يعطل حواسه وعقله ويتبع أهواء غيره، ويغتر بالكثرة وبالمال والقوة المادية عند البعض، فيقرر متابعته دون قليل تأمل وتدبر خطورة المآل، وهو ما كان يشجع ويعزز الفريق الأول في الاستمرار على نهجه، منطلقاً من وهم وغرور السيطرة وهو يرى عدد متابعيه يزداد، فيتجبر ويتكبر ويزداد غروراً حتى تكون نهايته أليمة هو أيضاً، ليذهب الجميع خلف الشيطان كما كانوا خلفه في الدنيا، إلى حيث الحسرة والندامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق