الخميس، 13 يوليو 2023

السؤال

 


  قصة العنوان ذي الكلمة الواحدة، أو الحدث الملهم الذي دعاني لكتابة هذا المقال، أن إعلامياً تلفزيونياً مشهوراً في باكستان يدعى عزام شودري، حضر مؤتمراً صحفياً قبل أيام معدودة لرئيس الوزراء الحالي شهباز شريف، وكان ممن طلبوا توجيه أسئلة لرئيس الوزراء. فلما حان دوره، طرح سؤالاً من جزأين، تناول فيه القيود الإعلامية المشددة في باكستان، واستفسر عن نهاية متوقعة لتلك القيود وعودة حرية الكلام والكتابة للصحفيين دون التعرض لمشكلات وعواقب.

    رئيس الوزراء ذكر بأنه غير مؤيد لتلك القيود المفروضة على حرية الإعلام، لكنه صرف المسؤولية عن وزيرة الإعلام فيما يتعلق بتلك القيود، وبعض تصريحات أخرى حول المسألة. الإثارة ليست في تصريحاته، بل فيما حدث بعد وقت قصير من المؤتمر الصحفي. حيث تم إبلاغ شودري، الذي كان يعمل محللاً سياسياً لشركة PTV الإعلامية منذ سبتمبر من العام السابق، من أنه لن يشارك بعد الآن في البرنامج، وخدماته لم تعد مرغوبة بعد الآن ! أي أنه وبقدرة قادر في لحظات قليلة، تم الاستغناء عنه وإلغاء وظيفته فوراً، وإن كنت لا أدري عن أي عواقب أخرى بالطريق نحو شودري ! 

  صاحبنا هذا، على رغم أنه يدرك توتر الوضع المحيط به، خاصة بعد عزل عمران خان من منصب رئاسة الوزراء، والتوترات الحالية الحاصلة في الحياة السياسية الباكستانية، شأنها شأن معظم دول العالم الثالث المبتلية بهيمنة العسكر على الحياة السياسية مع ضيق أفقهم وصدروهم للكلمة الحرة الصادقة، مكتوبة كانت أم مسموعة أم مرئية.

أقول: على رغم ذلك كله، بادر شودري بتوجيه أسئلة يدري أنها محرجة جداً للحكومة، والتي لا تملك إجابة علنية عليها، لكن دون شك بيدها صلاحيات الإجابة عملياً عليها، وقد بدت كما تلقاها شودري على شكل رسالة إنهاء خدمات، وربما مستقبلاً ما هو أكبر من ذلك..

   سواء اتفقنا على صوابية أم خطأ مبادرة شودري، إلا أنه كان بالإمكان صياغة السؤال بشكل لا يضع الحكومة المتوترة في موقف حرج في مؤتمر صحفي عام أولاً، ومن ثم المحافظة على نفسه وعمله ولو إلى حين ثانياً، إلا إذا كانت مبادرته بالأساس عن عزم وقصد، بغض النظر عن العواقب. فإذا كان الأمر كذلك، فقد حقق مراده وأحرج حكومة شريف، وضحى بعمله وربما بنفسه في سبيل مصلحة أكبر وأعم من مصالح الحكومة. القصة طويلة ستأخذ منا مساحات ها هنا إن أسهبنا في تفاصيلها، ذلك أن حديثنا اليوم ليس عنها، بل في عجالة مركزة، حول فلسفة الأسئلة التي يطرحها الإنسان في كل زمان ومكان.    

 

أسئلة بني إسرائيل

   بعد التعرف بشكل موجز على نوع الأسئلة التي قد يفقد الإنسان بسببها الكثير الكثير، على غرار أسئلة الصحفي الباكستاني شودري، فإن هناك نوعاً آخر من الأسئلة، التي إن طرحتها وأكثرت من التفصيل فيها، ارتدت عليك بنتائج غير سارة، كما حدث مع نبي الله موسى – عليه السلام – وجماعة من بني إسرائيل، حين سألوه عن حاجتهم لفك طلاسم جريمة قتل وقعت. حيث طلب منهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، أي بقرة، حتى يسير معهم في ملف الجريمة.


   لكنهم استهجنوا ذلك من موسى، فقاموا بالتفلسف - كما تقول العامة – والتشدد في الأمر والدخول معه في جدال عقيم كعادة بني إسرائيل، وبدأوا بطرح أسئلة مفصلة دقيقة لم يكن يستدعي الوضع لها، فكانت النتيجة أن شدد الله عليهم، فكانت إجابات أسئلتهم صعبة ومرهقة، إلى أن وجدوا البقرة المطلوبة، التي لو لم يتمادوا في جدلهم وتفننهم في الأسئلة منذ البداية ونفذوا المطلوب، ما كان قد أصابهم الجهد والنصب واضطرارهم البحث عن بقرة نادرة جداً، أرهقتهم مادياً وبدنياً.

 

لا تسألوا عن أشياء     

  جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب عليكم الحج"  فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثاً. فقال:" من السائل؟  فقال: فلان. فقال:" والذي نفسي بيده، لو قلتُ: نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم " فأنزل الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) حتى ختم الآية .

   هذا نوع من الأسئلة التي نهى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عنها، لأن القرآن حينذاك كان لا يزال ينزل، فالخشية أو النهي عن تلك النوعية أو الطريقة من الأسئلة، أن ينزل شيئاً من القرآن وتتغير الأحكام، فتحدث بسبب ذلك مشقة على الناس، وسببها الأسئلة التفصيلية في شأنٍ ربما لم تكتمل صورته بعد، ويحتاج صاحب ذلك الشأن بعض الوقت ليعرضه، فتكون الأسئلة التفصيلية الكثيرة سبباً لحدوث تغييرات لم تكن موجودة أساساً، فتكون تلكم التغييرات سلبية وفيها مشقة. ومن هنا يكون الانتظار بعض الوقت هو الأفضل. هذا هو المغزى من ضرورة ضبط النفس أحياناً عن الاندفاع بحماس لطرح الأسئلة. إذ على رغم أن السؤال نصف المعرفة، إلا أن الأهم من ذلك، معرفة متى يتم طرح السؤال، والهدف من وراء طرحه، ولهذا يمكن القول بأن:


                                                 طرح الأسئلة فن ومهارة


 

   نعم، طرح الأسئلة فن ومهارة يكتسبها السائل مع الخبرة والممارسة. وكخلاصة لهذا الحديث، أجد أهمية أن تدرك أيها السائل، لماذا تسأل قبل أن تبدأ في العملية. إدراكك لهدف السؤال ووضوحه عندك، قد يكسبك علماً وربما شهرة وصيتاً بأسئلتك المبدعة الدافعة لاستخراج ما بعقل ونفس المسؤول بكل يسر وسهولة. ولكن ربما يحدث العكس أيضاً حينما يكون هدفك غير واضح، فتتسرع في الأمر لتجد نفسك وقد جلبت لك أسئلتك وطريقة إلقائها، الكثير الكثير من الضرر وسوء الصيت.     


   هناك من يطرح أسئلة لمجرد أن يقال عنه أنه سأل وشارك وتفاعل، بغض النظر عن الإجابات. لكن هناك من يصيغ أسئلته ويدرسها تمام الدراسة، بحثاً عن إجابة ينتظرها عبر استراتيجيات مختلفة في الطرح، فيبدأ مثلاً بالأسئلة المفتوحة أولاً، ليتمكن تدريجياً من تحديد وتضييق المجال أمام المسؤول، تمهيداً للوصول إلى سؤال مغلق تكون إجابته هي هدف السائل.

الحديث عن عالم الأسئلة أو السائل والمسؤول، طويل جداً وذو تشعبات كثيرة،

وقد نتمكن مستقبلاً من الاستفاضة فيه بإذن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق