السبت، 13 فبراير 2021

قصة جحا التي تتكرر

     

  ربما أغلبنا قرأ أو سمع قصة من قصص جحا مع الناس، وواحدة منها حول ما تعارفت العامة عليه في مقولة " رضا الناس غاية لا تُدرك " ، وكيف جسدها جحا واقعاً أمام ابنه وبشكل دقيق.. فقد أراد أن يعلم ابنه درساً عملياً يثبت له صدق المقولة، لكي تكون منارة يسترشد بضوئها في بعض شؤون حياته.

   خرج معه إلى السوق وركب حماره، فيما ظل الابن يتبعه، حتى إذا كان في الطريق، مرت نسوة عليهما، فأخذن ينهرن جحا قائلين له: أيها الرجل، أما في قلبك رحمة؟ تركب الحمار وتدع الصبي الضعيف خلفك يعدو؟ هذا مشهد أول.

   في المشهد الثاني، ينزل جحا عن الحمار ويأمر ابنه بالركوب. حتى إذا كان في الطريق نحو السوق رأى مجموعة من كبار السن المشهد، فدق أحدهم كفاً بكف وقال: لمثل هذا فسد الأبناء وتعلموا عقوق الاَباء.. أيها الرجل، أتمشي وأنت شيخ طاعن في السن وتدع الحمار لهذا الولد، وتطمع بعد ذلك في أن تعلمه الأدب والحياء؟ همس جحا لابنه قائلاً: أسمعت؟ هيا بنا نركب الحمار معاً، في مشهد ثالث سيكون مذهلاً بعد قليل.

   مرت بهما جماعة ورأوا المنظر وهالهم ذلك. فصاحوا بهما قائلين: أما تتقيان الله في هذا الحيوان الهزيل؟ أتركبانه معاً وكل منكما يزن من الشحم واللحم ما يزيد على وزن الحمار؟ نظر جحا إلى ولده مبتسماً، وقال له: قم بنا نمشي معاً ونرسل الحمار أمامنا حتى نأمن سوء المقال من النساء والشيوخ وأصدقاء الحيوان.

   ما إن مرت لحظات على الموقف، حتى رآهما عدد من خبثاء القرية، وأخذوا يتهامسون فيما بينهم حتى بلغوا جحا وابنه وقالوا لهما: والله ما يحق لهذا الحمار إلا أن يركبكما أو تحملاه وتريحاه من وعثاء الطريق! وفعلاً قام جحا وابنه في مشهد خامس وأخير، لكنه سيكون الأكثر ذهولاً للناس، وعمدا إلى شجرة وأخذا فرعاً متيناً ربطا الحمار به، وحمل كل منهما جانب الفرع وأخذا يسيران في الطريق نحو السوق، حتى بدأ الناس يتجمعون للمشهد العجيب شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء شرطي بسبب زحمة الناس ورأى المنظر، فقرر أن يقود جحا وابنه إلى طبيب، فلعل خللاً أصابهما في عقليهما ! قال جحا لابنه وهما في الطريق إلى الطبيب في ختام الدرس العملي: هذه يا بني عاقبة من يستمع إلى القيل والقال، وإن رضا الناس يا بني، غاية لا تُدرك.

أنت من يصنع واقعك

من هنا يتبين لنا أن المرء منا في الأساس، لابد أن يكون هو من يصنع واقعه وحياته وفق ما يراه هو، أو وفق معاييره الخاصة، وليست معايير الآخرين أو رؤى الغير. المرء لابد أن يكون هو صانع واقعه قولاً وفعلاً، لا يلتفت إلى هذا وذاك، أو يطلب رضا فلان وعلان. وحين وضعت عنوان هذا المقال بأن قصة جحا تتكرر، فلأن الواقع يثبت ذلك. 


   كم منا من قام بمثل ما قام به جحا وابنه؟ كثيرون دون مبالغة. نعم، كثير منا أضاع أوقاتاً وجهوداً سدى في سبيل إرضاء هذا وذاك أو تلك، رغبة أو رهبة. مجاملة أو تزلفا. لكن خلاصة الموضوع أننا لا أرضيناهم، ولا رضينا نحن في الوقت ذاته، بصنائعنا تجاههم أو لهم، فصار المرء منا كالمنبتّ ، الذي جاء ذكره في حديث – وإن كان ضعيفاً – إلا أن معناه صحيح. يقول الحديث:" إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا أبقى ظهر". أي أن المنبت، وهو المسافر الذي لا يتوقف في سفره. يركب دابته ويشد عليها ليقطع مسافة السفر بشكل أسرع، إلى أن تجهد دابته فيخر قواها وتسقط. فهو بذلك، لا قطع المسافة المرغوبة ولا حافظ على حياة دابته، فانقطعت به السبل في الصحراء. وهكذا حال من يجهد نفسه في طلب رضا الغير أو الناس، ولو على حساب نفسه وقناعاته ورؤيته للأمور والأشياء.  

 

رضا الناس أهلك أبا طالب

أيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله. هكذا كان يحث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - عمه أبا طالب وهو في سكرات الموت، من أجل أن ينطق الشهادة كي يموت مسلماً يختم بها أعماله الجليلة في حق الإسلام. وكان حول أبي طالب حينها، زعيم الكفر أبوجهل وهو يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!

وهكذا ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يواصل ويحاول إقناع عمه بنطق الشهادة، فيما أبوجهل يعيد مقولته ويذكره بالناس ومكانته عندهم، إلى أن قال أبو طالب في آخر ما نطق: على ملة عبد المطلب.  ومات مشركاً.

    رغم كل الجهود والأعمال العظيمة التي قام بها أبوطالب مع رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يختمها بختام مسك، ولم يسلم، بل ظل على دين آبائه حتى أسلم الروح، ولم يكن من سبب يدفعه إلى ذلك سوى الخشية من ملامة الناس وكلامهم، وخشي أن تقول قريش بأنه جزع وخاف عند موته فأسلم. 

 

   إن قصة وفاة أبي طالب، نموذج يبين لك كيف يمكن أن يؤدي الاهتمام الشديد والمبالغ بكلام الناس دون وجه حق، إلى نهايات غير سعيدة. وبالطبع، لا أقول ها هنا بتجاهل ما يقوله الناس تماماً، ولكن ننصت لهم ونسمع في حدود المعقول وضمن إطار من الحق معروف، لا أن ننصت لهم على حساب الدين والأخلاق والمبادئ.

   إنك إن حرصت على إرضاء فلان وعلان أو علتان وفلتان، فمن المؤكد أنك ستصل إلى نهايات غير محمودة والى طرق مسدودة، باعتبار أن البشر أمزجة وأهواء. فقد تُرضي هذا وتُخالف آخر، والعكس صحيح، وبالتالي لن تصل إلى نتيجة مرجوة نهاية الأمر. لكن حين تكون غايتك إرضاء الله واتباع الحق، فتأكد أنك ستصل إلى نهايات حميدة وإن خالفت الناس كل الناس.

   من طريف ما جاء عن الإمام الشافعي ضمن هذا السياق، وأختم به موضوعنا، قال: ضحكتُ، فقالوا ألا تحتشم؟ بكيتُ، فقالوا ألا تبتسم؟ بسمتُ، فقالوا يُرائي بها. عبستُ فقالوا بدا ما كتم. صمتُّ، فقالوا كليل اللسان. نطقتُ، فقالوا كثير الكلم. حلمتُ، فقالوا صنيع الجبان، ولو كان مقتدراً لانتقم. بَسِلتُ فقالوا لطَيشٍ به وما كان مجترئاً لو حكم. يقولون شذ إن قلتُ لا، وإمّعة حين وافقتهم. فأيقنتُ أني مهما أرد رضى الناس لابدّ من أن أُذَم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق