الخميس، 11 يوليو 2019

الدول وهي تمرض ..



ليس الإنسان والحيوان والنبات ضحايا للأمراض فحسب، بل كذلك الدول. وما يجري من سنن كونية على البشر وبقية المخلوقات الحية، فالسنن ذاتها تنطبق أيضاً على الدول، لا فرق ولا استثناء. فمثلما أن المرض الذي ينزل بالإنسان هو غالباً نتيجة سلوكيات وأفعال يقوم بها الإنسان، فكذلك الدول التي تمرض، حيث تكون أمراضها نتاج أفعالها وسلوكياتها أو ما نسميها بالسياسات والخطط..

    واحدة من الأمراض المهلكة القاتلة للدول - مرض الترف - بحسب ما جاء في القرآن الكريم، بحيث يمكن وصف الآية الكريمة التي سنذكرها بعد قليل وتحدثت عن هذا المرض، أنها حقيقة من حقائق هذه الحياة التي لا يمكن الجدال والتفلسف حولها، وخاصة أن نتائجها واقعية على مدار التاريخ القديم وإلى ما شاء الله لهذه الأرض والحياة أن تكونا، وهذا بالتالي يدعو كل ذي لب وبصيرة إلى التدبر والتفاكر والاتعاظ والتعلم.. 

   مرض الترف إن أصاب دولة أو أمة أو حضارة ما، أهلكها وعجّل في تدهور أمورها وبالتالي إلى شيوع ميكروبات المرض في نواح عديدة من جسمها، ما يؤدي وبالضرورة إلى ضعف عام وتآكل متدرج في بنيان وأساسات الدولة، ما يؤشر إلى نهاية قريبة منتظرة.

  اقرأ معي الآية الكريمة في سورة الإسراء، التي يمكن اعتبارها معادلة أو قانوناً حياتياً لا يقبل التشكيك، كما أسلفنا (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً). أي أمرنا المترفين الذين يتولون زمام الأمور في الدولة بالطاعة والبعد عن الفسق والفجور – كما يقول المفسرون -  لكنهم تغاضوا عن ذلك الأمر وفسقوا وفجروا، فكانت النهاية.

  المترفون في كل أمة – كما جاء في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله - هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغو في الأعراض والحرمات.


                                                                                       لكن لماذا الترف مهلك؟

   الإجابة بكل اختصار ووضوح: لأنه عامل رئيس مسبب لضياع حقوق البلاد والعباد. إن ظهر ترف وإسراف في أجهزة دولة ما، فهذا يعني استئثار فئة قليلة بغالبية الامتيازات على حساب فئات عديدة أخرى في المجتمع. هذا الاستئثار دافع أكيد إلى نشوء مرض آخر في الدولة، هو الحقد أو الكراهية في نفوس الفئات المحرومة على الفئة المترفة المسيطرة والمستأثرة بالخيرات وما شابهها..

   الترف مرض مهلك أيضاً لأنه يتضمن مرضاً عضالاً آخر ينخر في جسم الدولة وهو الظلم الذي عادة يكون مصاحباً للترف. فأينما وجدت مترفين، وجدت الظلم يصدر عنهم بصورة وأخرى. والترف كذلك يؤدي إلى الإسراف، وهذا مرض مؤذ أيضاً، بل هو عامل أساسي في دخول البلاد أجواء الفقر، والفقر إن استوطن بلداً طارت عنه القيم، وحلت الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. وقد جرت العادة في جميع الحضارات والأمم التي ظهرت وبادت، أن من كانت تؤول إليهم سلطات وصلاحيات وزمام الأمور، هم المترفون!   

   المترفون هم الفئة التي تتولى إهلاك الدولة - دون قصد بالطبع - لكن سلوكياتهم وأفعالهم هي السبب. فإن انتشار الفساد والظلم والعدوان في أي بلد، يدفع بعد حين من الدهر، طال أم قصر، إلى أن تصل فئة المترفين – باعتبار الترابط الوثيق بين المال والمناصب - إلى مراكز القرار والتحكم في شؤون البلاد والعباد، لتتولى تلك الفئة بعد ذلك تنفيذ المشهد الأخير للبلاد وهو مشهد الهلاك، كي تجري بالتالي عليهم السنّة الإلهية في هلاك وزوال الأمم.
  
مآلات غـياب الردع
  
   يذكر صاحب الظلال ها هنا أمراً مهماً متمثلاً في غياب الردع. هذا الردع الغائب هو العامل الحاسم في تسريع وتيرة الهلاك، فيقول:" وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها ".     

    ما ضعفت دولة بني أمية أو بني العباس أو دولة الأندلس وما جاءت بعدها من أمم مسلمة تفتتت وانتهت آخر الأمر، رغم عديد إيجابيات تلك الدول والممالك في بداياتها، إلا لظهور وشيوع مرض الترف في كثير من الولايات والأمصار التابعة لها، واستئثار فئات معينة بالخيرات والغنائم على فئات أخرى عديدة بالمجتمع، إضافة إلى أمراض أخرى بالطبع ساعدت على زوال تلك الدول، ليس المجال ها هنا للحديث عنها.. لكن المؤكد أن مرض الترف كان العامل الحاسم في هلاكها وزوالها، وبالمثل يمكن أن يقال عن الإمبراطورية الإغريقية والرومانية والفارسية وغيرها.. وهذا الذي يمكن أن يقال مرة أخرى عن أي دولة معاصرة، بغض النظر عن دينها وعقيدتها وثقافتها، أنها ستهلك وتنتهي إن تركت الباب مفتوحاً لمرض الترف أن يدخل منه إليها..


إن غياب القانون الذي يمنع الفئة المترفة من التجاوز، وتكاسل المجتمع عن القيام بواجب الردع بكل السبل المتاحة، وهو ها هنا متمثل في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يؤدي بالضرورة إلى هلاك الجميع.. وحديث السفينة يشرح ويوضح الكثير من مشاهد الصورة.

  روى البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:" مثلُ القائم على حدود اللَّه والواقعِ فيها كمثل قوم استَهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".

  لاحظ أن المفسدين الذين أرادوا خرق السفينة كان لهم تأويل ونظرة معينة للأمر، معتقدين بصوابية تأويلهم أو نظرتهم.. كانوا يريدون ألا يشقوا على من فوقهم بكثرة ترددهم عليهم لسُقيا الماء، فجاءت فكرة خرق خشب السفينة ليستقوا منه الماء. كان ذاك تأويلاً فاسداً ورؤية أفسد، وإن ذاك التأويل وتلكم الرؤية كانت لتكون سبباً في هلاكهم وغرقهم وغرق من فوقهم أيضاً، لولا ردع الآخرين لهم وصرفهم عن رؤيتهم واعتقادهم الفاسد ذاك.. وصدق الله العظيم حين قال (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).  أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. هكذا فسر ابن عباس الآية وفهمها، وهكذا نسأل الله أن يفهّمها لكل مسلم، فهو سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق