الخميس، 21 مارس 2019

ما الجديد في مذبحة نيوزيلندا ؟

  
 أغلب من بدأ يومه الجمعة الفائتة بمتابعة الأخبار والأحداث، لا شك وقد صدمته حادثة دخول سفاح أسترالي معتوه مسجد النور في نيوزيلندا - أبعد دول العالم عن التجمعات البشرية - وإطلاقه النار على من جاءوا مبكرين لصلاة الجمعة من رشاش آلي، على غرار ألعاب الفيديو العنيفة، وقيامه ببث المشاهد الدموية المتوحشة مباشرة عبر منصة فيسبوك، ببرودة دم دنيئة وحشية.
   صدمتنا دون أدنى شك تلك المشاهد غير المألوفة إلا في العوالم الافتراضية، حيث ألعاب الفيديو العنيفة التي سنأتي على ذكرها في ثنايا هذا الحديث. كانت صدمة ذكرتنا بصدمات كثيرة عشناها ولا زالت أمتنا تعيشها، مثل مذبحة الحرم الإبراهيمي في تسعينيات القرن الماضي على يد سفاح صهيوني، أو المذابح الأكثر بشاعة في التاريخ الحديث تلك التي كانت على يد سفاحي الصرب أثناء حربهم على مسلمي البوسنة أواسط التسعينيات كذلك، بالإضافة إلى مذابح جماعية عديدة حول العالم بحق المسلمين، تقشعر منها الأبدان كلما بدأ المرء يتفكر فيها أو يتذكر بعض مشاهدها. 
   ما جرى في حادثتي المسجدين بنيوزيلندا، البلدة الهادئة والمشهورة بعزلتها وجودة الحياة فيها وتميزها بالتعليم الراقي، وسلامة بيئتها من الأحقاد والكراهية بين مواطنيها والمقيمين فيها، ليس بالجديد ولا المفاجئ. نعم، لم تكن الجريمة جديدة، لا لنا نحن المسلمين ولا لغيرنا من أمم وشعوب الأرض، باعتبار أن ما حدث هو نتيجة طبيعية لتوتر وشحن إعلامي وسياسي تعيشه مناطق عديدة في العالم ضد دين الإسلام والمؤمنين به، لاسيما في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية، مستفيدين من وجود آلة إعلامية إخطبوطية جبارة، سريعة التأثير والنفوذ والانتشار في ظل تقنية اتصالات متقدمة جداً.  

                                                 الإسلاموفوبيا ليست ظاهرة جديدة  

ما يسمى بالإسلاموفوبيا أو الخوف من الإسلام، ظاهرة ليست جديدة على العالم الغربي، والتي ظهرت بداية في أوائل القرن العشرين (1910) حتى قاربت على التلاشي بعد ظهور كثير من الكتابات لمفكرين ومصلحين من الجانبين الإسلامي والغربي تقلل من شأنها. لكن قيام الثورة الإيرانية وتبعاتها في بدايات الثمانينيات (1980) من القرن الفائت، دفعتها للحياة مرة أخرى ليستخدمها كل من له مصلحة في مهاجمة الإسلام والمسلمين، حتى هدأت مؤقتاً أثناء الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفييتي ( 1980 - 1989 ) لتعود سريعاً بعد أحداث سبتمبر (2001) وتشتد ضراوة إلى ساعة الناس هذه ! 

   الظاهرة إذن ليست بالجديدة منذ أن ظهرت وإلى يوم الناس هذا، لكن الجديد في جانبها الأول هو الدخول الأهوج المؤثر لرئيس أقوى إمبراطوريات الأرض اليوم وهي الولايات المتحدة، ليدعم بدخوله المباشر هذه الظاهرة، ويكون سبباً لتفعيلها وتأجيج نيرانها من جديد منذ أن قام بحملاته الانتخابية في (2016) وحتى بعد وصوله لرئاسة البيت الأبيض، واستمراره في تصريحاته التويترية وخطبه هنا وهناك والتي ما انفكت تهاجم وتحرض وتستفز مسلمي العالم، حتى صار ملهماً لكثيرين من أصحاب النزعات العنصرية المتطرفة من الأوروبيين البيض، الذين ما زالوا يعتقدون بتفوق وعلو العرق الأبيض على سائر أعراق وأجناس البشر!
 ألم يذكر السفاح الأسترالي إعجابه بالرئيس الأمريكي ترامب؟
 ربما إذن كان أحد أبرز الملهمين له.

   الفعل الإجرامي للسفاح الأسترالي المعتوه، هو نتيجة طبيعية لشحن منظم ممنهج مستمر في الإعلام الغربي - والأسترالي منه – ضد الإسلام والمسلمين، حتى ارتبط الاسمان بصور ذهنية غاية في البشاعة والسوء. ولا شك أن مثل هذا الشحن وهذه الصناعة الاستخباراتية المحترفة للصور الذهنية عن الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي بشكل عام، تؤدي بالضرورة إلى نشوء قناعات معينة لدى من عندهم تلك النزعة العنصرية وروح الاستعلاء على الآخرين، لتتجسد تلك القناعات على أرض الواقع، في شكل سلوكيات وأفعال غير قانونية وقبلها غير إنسانية. ولعل هذا هو الوصف الأمثل لما تقوم عليه الأحزاب اليمينية المتطرفة في عموم الغرب، وتحث أعضائها عليه بصورة وأخرى.

  ردود الأفعال الإسلامية الرسمية المحتشمة    

   مثلما أن ظاهرة الإسلاموفوبيا ليست بالأمر الجديد في الغرب، فكذلك كانت ردود الأفعال المحتشمة جداً للأنظمة الحاكمة في غالبية الدول الإسلامية، ليست بالأمر الجديد. فقد سئمت الشعوب المسلمة من ردود أفعال رسمييها الحكوميين. إذ لا تكاد تجد مواقف رسمية مسلمة في مثل هذه الأحداث يمكن البناء أو التعويل عليها، لصناعة أعمال مستقبلية إيجابية تحمي وتمنع أي تجاوزات وتعديات على الإسلام ورموزه المقدسة، وصولاً إلى أتباعه والمؤمنين به. وإن المثال الأخير الذي نتحدث عنه خير شاهد على ما نذهب إليه. إذ باستثناء التحركات التركية منذ اللحظات الأولى للجريمة، وقيامها بالمستطاع في حدود الإطارات القانونية الدولية، لم نجد أي تحركات منفردة أو تحركات جماعية عبر الكيانات المسلمة المتنوعة، سوى اللهم بعض بيانات إعلامية غالباً لا تسمن ولا تغني من جوع.


  التقنية سلاح ذو حدين 
  إن الجديد والخطير في الوقت ذاته لتأثيرات ظاهرة الإسلاموفوبيا - وهو الجانب الثاني منها - والتي فتحت جريمة المسجدين العيون عليها بشكل عميق، هو المدى البعيد الذي وصلت إليه التقنية في الاتصال والتواصل، حتى صارت مؤثرة على الأفكار والسلوكيات إلى درجة يُخشى منها مستقبلاً انفلات البشر عن القواعد المتفق عليها ضمنياً في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، بل واحتمالية تحول البشر بعد حين من الدهر قصير، إلى وحوش تتقاتل في غابة كبيرة لا حدود لها.. فأن يقوم سفاح عنصري حاقد بعمل بث مباشر لعمليته الإجرامية، مستغلاً ومستفيداً من التقنية والمنصات الرقمية، هو الجديد والمخيف في هذه الجريمة، وربما المقطع الذي بثه وانتشر حول العالم في وقت قصير كانتشار النار في الهشيم، كان من أبرز أسباب الصدمة التي طالت الجميع، مسلمين وغيرهم ممن شاهدوه، حيث كان في اعتقاد الأغلبية وللوهلة الأولى أنه مقطع من لعبة افتراضية من ألعاب القتال الدموية العنيفة المنتشرة في العالم، التي يقبل عليها ملايين البشر من جميع الأعمار والفئات، في مشهد لا يبشر بخير للبشرية جمعاء.

   يمكن القول بعد هذا السرد، أن من بين أبرز العوامل التي ساعدت على شيوع الإسلاموفوبيا في العالم، هو هذا التقدم التقني الرهيب في الاتصال والتواصل بين البشر، وبعد أن صارت وسائل الإعلام إحدى المظاهر الدالة عليها وقوة تأثيرها في النفوس. والسفاح الأسترالي ما هو إلا نموذج لشخص عاش في بيئة كان لوسائل الإعلام الأسترالية دورها الكبير المؤثر في تأجيج الكراهية ضد الأجانب بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، حتى تشبعت النفوس وامتلأت حقداً وغلاً لكل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة.. وأحداث المسجدين ستظل نماذج وشواهد على هذا الفعل غير السوي.

   ما لم تتعاون البشرية جمعاء في تفكير محدد يضبط هذا الاندفاع التقني، بحيث يتم توجيهه نحو صالح البشرية وأمنها واستقرارها، فإن الكراهية مرشحة للشيوع بين البشر، والعنف والجريمة تتعمقان أكثر فأكثر، وربما تصل البشرية بعد حين من الدهر غير طويل، إلى مرحلة تسيطر فيها (بلادة الحس والشعور) على الأفعال والسلوكيات، بحيث لا ترى الدماء إلا سوائل حمراء سرعان ما تتخثر وتتبخر، وما القتلى سوى كتل لحمية تُدفن لتأتي أخرى، في دوامة من عنف لا أحد سيعلم منتهاها، أو السبيل إلى إيقافها وعلاجها.. ( فنادوا ولات حين مناص ) .       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق