الخميس، 26 يوليو 2018

ما بين سلطان العلماء وعلماء السلاطين ..


  اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذلُ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.. بهذه الكلمات أنهى العز بن عبد السلام، خطبته التي خصصها للاعتراض على تعليمات الملك الصالح إسماعيل يومها، الذي دخل في اتفاقيات صلح مع الصليبيين ومنحهم مناطق في دمشق، وسمح لهم بشراء الأسلحة والتزود بالطعام. فقام سلطان العلماء، العز بن عبد السلام في خطبة نارية، وحرّم الصلح مع الإفرنج وبيعهم السلاح، ثم لم يدع للملك نهاية خطبته كما كانت العادة، فاعتبره الملك عصياناً وتم اعتقاله.. 
   اشتهر العز بن عبدالسلام في التاريخ الإسلامي على أنه من أولئك الذين اقترنت أسماؤهم بمواقفهم لا مؤلفاتهم وتصنيفاتهم، على رغم جهده وغزارة علمه في جانب التأليف، لكن ذلك لم يكن ليشغله عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام عند الخطأ، والجهاد ضد أعداء الأمة يومها من الصليبيين ومن ثم المغول. سيرته ومواقفه تصلح اليوم لاستحضارها من عمق التاريخ وإبرازها للأمة، بعد أن ظهرت نماذج من علماء، تعارف الناس على تسميتهم بعلماء السلاطين، الذين اشتغلوا بالدين لدنياهم ودنيا غيرهم، وصاروا يضعون فتاواهم وعلمهم تحت طلب كل حاكم أو زعيم.. 
العز بن عبدالسلام ومواجهة الملك     
   من المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي إحدى أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة المسلمة، حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، بروز دور العالم الرباني الصادع بالحق، العز بن عبدالسلام، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وأنهوا الخلافة العباسية في بغداد حتى وصلوا أبواب القاهرة..
   
مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ.. وهكذا استمر الأمر حتى معركة عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد..

علماء السلاطين .. حواشي للحاكمين   
    اليوم تمر الأمة بظروف وأحوال لا تختلف كثيراً عن الفترة التي عاش فيها سلطان العلماء، العز بن عبدالسلام. الأمة مبعثرة بين الشرق والغرب، والتناحر بين الدول الإسلامية واقعة ومشاهدة، وجيوش علماء السلاطين تظهر هنا وهناك مثل فقاعات الصابون، تراهم يدورون في أفلاك الزعماء والحكام، يبيعون دينهم بدنياهم ودنيا غيرهم.. قدراتهم في ضبط ورسم الفتاوى المرغوبة من الزعيم، عجيبة ودقيقة. كل فتوى بثمنها. مالاً كان أم وجاهة أم منزلة أم غير ذلك من أثمان..
  استغرب الشيخ محمد الغزالي من نوعية علماء السلاطين المشتغلين بالعلم الديني الذين:" قاربوا مرحلة الشيخوخة وألفوا كتباً في الفروع، وأثاروا معارك طاحنة في هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يخط حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية أو الشيوعية.. إن وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم.. بأي فكر يحيا أولئك ". 
   ثم يصل للنقطة الجوهرية والعلة التي تعاني منها الأمة اليوم، علة ابتعاد علماء الدين عن قول الحق، ووصولهم إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، هو ارتماؤهم في أحضان السياسيين، ملوكاً كانوا أو زعماء.. فيقول الشيخ الغزالي:" أوروبا سبقتنا إلى تقليم أظافر حكامها، فقتلت بعضهم في ثورات حانقة ووضعت دساتير دقيقة لضبط مسالك الباقين، حتى صار الحكم هناك خدمة عامة، يُختار لها الأكفأ ويُراقب من خلال أجهزة يقظة، ويُطرد ولا كرامة، إن بدا منه ما يريب.. أما الشرق الاسلامي فان الفساد السياسي بقي في أغلب ربوعه، وما يثير الدهشة أكثر وأكثر هو موقف المشتغلين بالعلوم الدينية وفقه الشريعة.. كأن هؤلاء كونوا بطريقة خاصة ليكونوا حواشي للحاكمين !  السقوط الخُلقي وخلل التفكير الفقهي عند الجم الغفير من المتكلمين في الفقه آفة بعض رجال الدين ."

 علماء السلاطين إذ هم ينكشفون

إن الاستبداد السياسي يتولد من الاستبداد الديني كما يقول الكواكبي، وإنه:" ما من مستبدّ سياسي إلى الآن، إلا ويتخذ له صفة قداسة يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله. ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمة الدين، يعينونه على ظلم الناس باسم الله.. وإنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء.. فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم..".

لقد ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف الكثير من علماء السلاطين، وساعدت على رصد كل ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. أي يوم أن كان عالماً يعمل لدينه ويبتغي رضى خالقه، ويوم أن تحول ليشتغل بدينه لدنياه ويرضى مخلوقات الله على اختلاف مآربهم ومشاربهم..
لكن الخشية من هذا الكشف، مثلما أنه نافع وإيجابي للتفريق بين الحق والباطل، فقد يكون كذلك عامل تأثير سلبي على العامة، ومصدر يأس وانتكاسة عند الناس.. فقد كان كثير من أولئك العلماء في منزلة عالية راقية، ينظر الناس إليهم بثقة واطمئنان كنماذج يُقتدى بها، فإذا وبقدرة قادر يتحولون إلى وضع قابل للتندر أولاً، ومن ثم صاروا ثانياً، عامل تشكيك عند البعض في الدين نفسه !
هكذا بلغ الحال.
    لا شك أن كل أحد منا معرّض للفتن، وكل أحد قابل للسقوط أو الصمود، لكن وقوع العلماء وقت الفتن والمحن، لا ريب أنه أشد ضرراَ على الأمة.. هذه الأمة التي لم يهدأ لها حال منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة إلى يوم الناس هذا.. وما كان يجري قديماً على مدار تاريخنا مع العلماء الحقيقيين الصادقين من محن وابتلاءات، نراه يجري اليوم مثله وربما أسوأ مع علماء حقيقيين أيضاً، يقبعون وراء الزنازين في بقاع العالم الإسلامي المختلفة..  

 خلاصة الحديث
     إنه رغم كل ذلك، ومثلما انتشر وظهر علماء السلاطين أيضاً على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور نماذج من العز بن عبدالسلام، والحسن البصري وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وآخرين كثر، يصدعون بالحق لا يخافون في الله لومة لائم.. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها مقترنان بصلاح ونهضة علمائها.. أليسوا هم من قال فيهم الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم في حديث طويل:".. العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"؟


   إذن ولأنهم ورثة أنبياء، صارت مهمتهم عظيمة ومسؤوليتهم كبيرة، وسقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية، فإن أمة ظهر فيها مثل العز بن عبد السلام لتنجو بفضل الله ثم هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإن سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فإن الله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق